أشارت دراسة حديثة إلى أن الناس في جميع أنحاء العالم أصبحوا أكثر فردانية وتركيزًا على استقلالهم عن الجماعة أو الطائفة أو العائلة، في سبيل تحقيق الذات، وأن هذا الهدف دفعهم إلى العمل أكثر والانعزال عن الآخرين؛ مما جعلهم أقل تعاطفًا مع غيرهم وأكثر اهتمامًا بأنفسهم.
وفي تجربة أخرى، قام عدد من الباحثين بإجراء اختبار لعدد من طلاب الجامعة وقدموا لهم ورقة للإجابة على بعض الأسئلة الشخصية وقاسوا عليها مدى تركيز هؤلاء الطلاب على أنفسهم، فحسب العلماء عدد الكلمات التي تشير إلى الذات والملكية مثل أنا ولدي ومعي، بالمقارنة مع الكلمات الأخرى التي تدل على الجمع مثل نحن ومعًا ولدينا، وكانت النتيجة أن المفردات التي تدل على الفردانية أعلى بكثير من غيرها، فما الذي يعزز هذا التوجه؟ وهل كان للعالم توجهات أخرى فيما سبق؟
من يلام على توجه الأجيال الحالية نحو تقديس الذات؟
تفرض الأنظمة الاقتصادية والتطورات الاجتماعية والسياسية مواقف وظواهر مختلفة داخل المجتمعات، وتحدد ملامحها وآفاقها المستقبلية بناءً على توجهاتها ولهذه التغيرات أثرًا كبيرًا على قرارتنا وقناعاتنا، فهي قادرة على تشكيل وعينا الخاص وتوجيه تصرفاتنا بشكل أو بآخر، سواء شئنا أم أبينا، وذلك خوفًا من الانفصال عن المنظومة العامة.
خلال فترة الستينيات، روجت الدعايات الإعلانية فكرة السعادة والنجاح على صورة أسرة وأطفال سعداء، حتى أصبحت هذه الصورة حلم الكثير من المجتمعات
قد تعتقد أن قرارات الزواج أو العمل أو الدراسة مبنية على قناعات وتجارب شخصية، لكن في الحقيقة، إن الأمر أكثر ارتباطًا بالاعتبارات الاقتصادية والسياسة والأعراف الاجتماعية التي تغيير باستمرار، وتأتي القرارات الشخصية بالتوافق مع هذه التحولات.
خلال فترة الستينيات، روجت الدعايات الإعلانية فكرة السعادة والنجاح على صورة أسرة وأطفال سعداء، حتى أصبحت هذه الصورة حلم الكثير من المجتمعات، لكن بعد موجة الإصلاحات السياسة والأزمات الاقتصادية في أوائل السبعينيات، ظهرت مفاهيم جديدة عن النجاح تمثلت بالاستقلال المادي الشخصي وحصول المرأة على حريتها وإدماجها في سوق العمل للاستفادة من وجودها خارج المنزل.
لذلك، نجد أنه قد تلاشى حلم العائلة السعيدة تدريجيًا مع الضغوط الاقتصادية الجديدة والأعراف الاجتماعية التي أصبحت تنظر للأشخاص الذين لم ينضموا إلى هذا السباق على أنهم أفرادًا “عاديين” في عصر يلهث فيه الناس خلف النجاحات المضخمة بأضواء السوشيال ميديا.
فمن النادر أن نسمع عن شخص يرغب في تكوين أسرة سعيدة في العصر الحالي، لإن نمط الحياة الحديثة يفرض على الفرد منح الأولوية لنفسه وبالمقابل، أصبح من الشائع أن نقابل الأشخاص الذين يتحدثون عن أهدافهم في الدراسة والعمل والسفر بغية التطوير من أنفسهم وتحقيق ذاتهم واستقلاليتهم بحسب تعريف الإعلام والاقتصاد.
الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و19 عامًا يركزون على أنفسهم بشكل نرجسي، أكثر مما كانت عليه الأجيال السابقة
من هذا المنطلق، يمكن فهم الدور الإعلاني التسويقي والاقتصادي في تشكيل المجتمع وتحديد مساراته ومفاهيمه واختياره لأدوار الأفراد أيضًا في المنزل والعمل، فالإعلانات والدعايات عبارة عن انعكاس للمجتمعات وتطلعاتها وثقافتها.
وبالرغم من أن الأهداف الجديدة للمجتمعات جاءت للانسجام مع التطور السريع لدول العالم من الناحية الاقتصادية، إلا أن وسائل الإعلام الاجتماعية ساهمت بشكل كبير على إخضاع تركيزنا إلى ذواتنا وأفكارنا ومظهرنا وحياتنا اليومية؛ وهذا ما ساعد في تغذية النرجسية التي دفعت البعض إلى الاجتهاد في تسليط الضوء على “وجودهم”، وافتعال أصداء صاخبة حول نجاحاتهم، وهذا نابع مما تفرضه منصات السوشيال ميديا من متابعة حياة المشاهير ونجاحات القادة الذين تختلف مقاييس حياتهم عن الأشخاص العاديين.
وهذا ما أكدته البروفيسورة جان توينغ عندما قامت بتحليل بيانات 15 ألف طالب من طلاب الجامعات الأمريكية قبل عام 2006، ووجدت أن هناك علاقة بين سنة ميلاد الطلاب ومعدل النرجسية لديهم، ورأت أن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و19 عامًا يركزون على أنفسهم بشكل نرجسي، أكثر مما كانت عليه الأجيال السابقة، كما وجد أيضًا أن الرجال سجلوا معدلات أعلى قليلًا في النرجسية من النساء.
نلاحظ أن دعوات التطوير الذاتي ليست صحيحة وصحية تمامًا، فهي أقرب إلى الاستعراض الاجتماعي والهوس النفسي بالذات وتجاهل تام للقيم الأخرى والنجاحات التي يمكن توثيقها تكنولوجيًا.
ولا تكف هذه الأدوات على تذكير الجميع بتميزهم وقدرتهم على تحقيق أهداف قد لا تكون بالفعل ضمن قائمات رغباتهم أو حتى قدراتهم، وبهذا الشأن قالت باحثة الاجتماع، جان وان “كثيرًا ما يسألني الناس إذا كان من المفترض عليهم بأن يقولوا لأطفالهم بأنهم مميزين، وإجابتي تكون قل أنا أحبك، وهذه الرسالة أفضل من إخباره بأنه مميز، لأنه بطبيعة الحال قد يكون مميز بالنسبة إليك لأنه طفلك، ولكن ماذا سيحدث عندما يخرج إلى العالم الخارجي ويدرك بأنه ليس مميزًا ولن يعامله العالم بطريقة مميزة؟”
فمن الواضح أن العوالم الافتراضية خلقت هذه الهالة حول المجتمعات التي انساقت خلف المنشورات التي تستخدم صيغ مبالغة في تقييم الذات، على سبيل المثال، خلق لنا موقع فيسبوك منصة واسعة لتعبير عن آرائنا وأفكارنا، والأمر نفسه في انستغرام الذي نعرض عليه تفاصيل حياتنا اليومية، والأهم لينكد إن الذي ننشر فيه جميع إنجازاتنا المهنية وخبراتنا في سوق العمل.
ومن هنا نلاحظ أن دعوات التطوير الذاتي ليست صحيحة وصحية تمامًا، فهي أقرب إلى الاستعراض الاجتماعي والهوس النفسي بالذات وتجاهل تام للقيم الأخرى والنجاحات التي لا يمكن توثيقها تكنولوجيًا.
هذه الموجة أو الموضة الحالية، تأخذنا إلى سؤال آخر حول التوجهات الاجتماعية المستقبلية التي ستتحدد بفعل هذه الدعايات، وتثير فضولنا نحو الهدف القادم الذي سوف تتبناه المجتمعات، لموائمة وجودها مع التطلعات الاقتصادية القادمة.