كانت غزة مختلفة تمامًا في كل شيء منذ نشأتها، حديث العائدين من المعارك وأسوار التاريخ وصلابة المقاتلين منذ الكنعانيين والفراعنة والرومانيين والتتار المغول والصليبيين وصولًا إلى الحرب العالمية الأولى، فيها رفعت كل أعلام انتهاء الحملات القتالية وعلى أبوابها إما صنعت الجيوش أو تكسرت.
تاريخ المعارك هذا أعطى أهلها صلابة وعناد فاقت نظيراتها حتى أضحت مقولة رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين في عام 1992 “أتمنى أن أستيقظ يومًا من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر”، وهي ما دفع رئيس وزراء الاحتلال السابق آرئيل شارون أن يفك ارتباطه عنها من طرف واحد، إنقاذًا لما تبقى من جنوده، فقد تحولت إلى بؤرة قتالية مطلع انتفاضة الأقصى عام 2000 انخرط فيها الجميع بكل توجهاته، وتأقلمت مع كل الظروف المتتالية وصولًا إلى أعقد الزوايا المغلقة في تاريخها “الحصار”.. فهل تستمر غزة؟
الاستمرارية تحتاج إلى جيل ثوري جديد، حين امتشق العجوز إبراهيم المبيض 84 عامًا عكازه بيده اليمنى وحفيده إبراهيم الذي لم يتجاوز العشرة أعوام بيده اليسرى وجلس بجانبه على جبل مرتفع على الحدود الشرقية للمدينة أمام قناصة الاحتلال وأشار بعكازه إلى أرضه التي لا تبعد 600 متر عنه مخاطبًا حفيده: “شايف الجبل هناك، بجانبه بيتنا الذي كنا نعيش فيه، نزرع الأرض بالزيتون والقمح والشعير والذرة ونحصدها، وحينما جاء اليهود لم يكن معنا سلاح فقد جمع الإنجليز سلاحنا، وقتلوا كل من يضبط معه سلاح، فهجرنا اليهود من أرضنا”.
واتجه برأسه لحفيده مضيفًا: “إن عشت أنا سأصلها وإن بقيتم أنتم ها أنا عرّفتكم عليها، تذهبون إليها مباشرة وتجلسون فيها وإن شاء الله هذا سيكون قريبًا”.
غزة عيونها على الضفة
يطال الاحتلال الإسرائيلي قلق متواصل من انهيار الوضع الأمني الهش في الضفة الغربية، حيث وصف حالة الضفة العميد احتياط إيلي بن مئير في مقال له في صحيفة معاريف قائلًا: “صحيح أن الأوضاع الاقتصادية في الضفة أفضل بقليل من غزة، لكن الأوضاع الاقتصادية ليست المعيار الوحيد لقياس الأوضاع هناك، هناك توقعات باندلاع غضب شعبي ضد السلطة بالضفة يعود لمفاوضات السلطة مع “إسرائيل” على حساب السكان، وعدم قيامها بأي ضغوطات على “إسرائيل” لتحرير الضغط عن السكان بغزة”.
تسير غزة وحيدة في مسيرات العودة على الحدود وعيونها على الضفة الغربية، فتنتظر الجماهير الغاضبة في غزة أن تلتحم معها الجماهير في الضفة الغربية التي لم تتحرك نهائيًا إلا ببعض المظاهرات الخجولة
وأضاف مئير: “السلطة الفلسطينية تعيش أزمة سياسية في الضفة وصراعات داخلية على خلافة الرئيس عباس، وفي ظل هذا الوضع الهش فتوقعات انكساره وانفجاره كبيرة، بعدها ستحصل كارثة”.
تسير غزة وحيدة في مسيرات العودة على الحدود وعيونها على الضفة الغربية، فتنتظر الجماهير الغاضبة في غزة أن تلتحم معها الجماهير في الضفة الغربية التي لم تتحرك نهائيًا إلا ببعض المظاهرات الخجولة، قبل موعد التوجه الزاحف نحو الحدود مباشرة في الـ15 من مايو القادم، وفق ما قرره منظمو مسيرات العودة في الداخل والخارج، كذلك مخيمات الشتات في لبنان لم تشهد سوى بعض الوقفات الشعبية البسيطة.
هل تستمر المسيرات؟
هذا التأخر الملحوظ في مسار المسيرات خارج غزة يجعل الاحتلال يراهن على عدم استمرار المسيرات لوقت أطول بالعودة لسابقاتها التي خمدت في غضون شهر، فمسيرة جمعة الكوشوك انتهت في انتظار الجمعة القادمة بعنوان جديد، لكن الجديد الذي يقلق الاحتلال هو اجتياز السلك الفاصل بين غزة وفلسطين المحتلة.
وسعيًا لإبقاء الحراك الجماهيري مستمرًا، واجترار الفصائل الفلسطينية كافة نحو مسيرات العودة صرح قائد حماس في غزة يحيى السنوار من وسط الجماهير قائلًا: “اليوم وصلنا لحالة وطنية وتوافقية من المستوى الأول، وهذا الهتاف الجماهيري هو هتاف الشهيد القائد الخالد الزعيم الفلسطيني الراحل أبو عمار الذي قضى نحبه والشهيد أحمد ياسين والشهيد أبو علي مصطفى”.
لا يحتمل الاحتلال الضغط الدولي عليه بعد تزايد الانتقادات الموجهة إليه دوليًا وهو يظهر نفسه كدولة للقانون، وقد يحرف مسار الحراك السلمي إلى مواجهة عسكرية بعيدًا عن حراك الضفة الغربية والشتات الفلسطيني
أما عضو اللجنة التنسيقية الدولية لمسيرات العودة أحمد النجار فقال لـ”نون بوست”: “المهم الآن أن يبقى الحراك الجماهيري في غزة نحو الحدود في تزايد مستمر حتى نصل إلى الـ15 من مايو مرحلة اجتياز السلك الفاصل لأراضينا الفلسطينية المحتلة”.
وأضاف النجار: “يجب انخراط الضفة الغربية والمخيمات في المسيرات السلمية الحاصلة التي تتلاقى مع خط السلطة الفلسطينية في اعتماد إستراتيجية المقاومة السلمية التي سقط خلالها الشهيد زياد أبو العينيين الوزير الفلسطيني رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان وعضو اللجنة العليا لحركة فتح”.
لا يحتمل الاحتلال الضغط الدولي عليه بعد تزايد الانتقادات الموجهة إليه دوليًا وهو يظهر نفسه كدولة للقانون، وقد يحرف مسار الحراك السلمي إلى مواجهة عسكرية بعيدًا عن حراك الضفة الغربية والشتات الفلسطيني، وتراجع مشروع التطبيع الجديد الذي يحاول تحويله واقعًا مع العرب في حال الضغط الشعبي العربي على المستويات الرسمية لقطع العلاقات معه، فإنه مضطر للتراجع خطوات للوراء ورفع الحصار ولو جزئيًا عن غزة على شاكلة ثورة البوابات الإلكترونية وهذا مرهون باستمرار المسيرات السلمية وتوسع دائرة انتشارها.