وضع يوحي بحركة كبيرة حتى ليظن المرء أنه في بحر متلاطم الأمواج لكنها حركة واحدة تدور على محورها فيسمع لها رغاء كثير ولا يرى لها أثرًا من تغيير حقيقي؛ فيعجز القلم عن تكرار نفسه من قرف ومن ملل ويفرض السؤال نفسه أين المقال الجديد؟
يمكن توصيف الحالة التونسية بأنها حالة نفاق جماعي للديمقراطية، فالكل ديمقراطي في الخطاب واستئصالي بالنتيجة، مكونات مجتمع لم تتأهل بعد للتعايش ولا تبدي بوادر تعايش يمكن أن تنبئ بمخارج فعلية نحو فعل موجه للمستقبل من شأنه أن يخرج البلد من أزمته الاقتصادية وينهي العطالة الروحية الفاشية بين الناس وخاصة بين قطاعات واسعة من الشباب حمستها الثورة للفعل الجماعي ولا تفلح في فرض نفسها على مراسم النفاق المسيطر لدى النخبة السياسية التي تثبت عجزها في كل منعرج حاسم.
علاج الفشل بوصفات من الفشل
لا شيء تغير نحو الإيجاب فمنذ حكومة المهدي جمعة 2014 والمؤشرات الاقتصادية في النازل، لقد كان خليفته الحبيب الصيد رجلاً نكرة وغير ذي فكر ولا تقدير (فلم يمكن إلا موظفًا بسيطًا يتأتئ زمن بن علي) وفرض على الشارع بقوة الكيد الجهوي السياسي، فلم يفعل إلا أن فاقم المشاكل القائمة ثم رحّل ولا ندري السبب الحقيقي فعلاً، فيوم إقالته من البرلمان قال فيه البرلمانيون ما لم يقله المتنبي في سيف الدولة ثم أقيل وجيء بشاب غر لم يكن أكثر من موظف صغير في السفارة الأمريكية، طفل كبير مدلل بلا تجربة ولا خبرة في أي ميدان سياسي واقتصادي، وهو يرحل الآن كما لو أنه السبب الوحيد لمشاكل البلد.
المشاهد تتكرر متشابهة، كل الزعماء والنخب تذهب إلى زعيم حزب النهضة وتنحني له وتتسابق على مصافحته في كل ظهور عام ولو مد يده لقبّلوها
رؤساء حكومات يتخذون شماعة قصيرة لمشاكل أكبر من حجم كل الطبقة السياسية المبدعة في التكايد ولا تصارح الشعب ولا حتى جمهورها الخاص بالأسباب التي تجعلهم يتكالبون على البلد، وعلينا أن نكتب متفائلين بمستقبل البلد ولكن المقال الصادق العميق لم يجد له سببًا من فعل هذه الطبقة ليقول إن الغد أفضل.
إنه انطباع ولكنه يوشك أن يكون قاعدة تحليل سياسي، هذه الطبقة السياسية تتعمد تفقير البلد وإعدام آمال شبابه، فحتى هبات الطبيعة تنقلب فيه كوارث اقتصادية، ومن الغريب العجيب أن الأشخاص الذين يسببون الكوارث يحظون بتمجيد كبير كما لو أنهم أحدثوا معجزات فعلاً.
يعتبر وزير الفلاحة الحاليّ نموذجًا فجًا للشخص غير المناسب للمكان الذي وضع فيه؛ ففي سنة 2016 حظيت تونس بصابة قوارص مما لم تعرف أبدًا، فلم يتم ترويجها في الداخل ولا في الخارج، فانقلبت الصابة على الفلاح وخسر وها الأمر يتكرر في صابة الزيت للعام 2017، وزاد أصدقاء الوزير الفرنسيين في تلطيخ سمعة الزيت التونسي البيولوجي، فانغلقت في وجهه السوق الأوروبية التي كان يزودها بشكل مباشر وعبر وسطاء، وها هو فلاح الزيت يعلن إفلاسه والوزير يضحك في التلفزة.
وفي الوقت الذي تحسن فيه مخزون مياه السدود المخصص للري يواصل الوزير تمديد أوامره بتقسيط مياه ري الخضر الصيفية بما من شأنه رفع الأسعار فوق ما ارتفعت إليه في السنة الماضية، لماذا لا نسيئ الظن بهؤلاء ونلزم أنفسنا بالكتابة عن البلد السعيد؟ المقال لا يستقيم.
تونس بلا إخوانجية
ما لم يكتب المرء لاعنًا الإسلاميين ويحملهم كل مصائب البلد فهو إخوانجي، المشاهد تتكرر متشابهة، كل الزعماء والنخب تذهب إلى زعيم حزب النهضة وتنحني له وتتسابق على مصافحته في كل ظهور عام ولو مد يده لقبّلوها وقد يكون أكثر شخص التقط معه الجميع صورًا، ولكن كل الذين يسارعون في منافقته يكيدون له ولحزبه لكي لا يكون في الحكومات فإذا أقصي منها أقْصِيَ من المشهد برمته، إن المشهد الأجمل لديهم هو تونس بلا نهضة.
تحرص النقابة اليسارية على محاصرة كل التونسيين في صراعها من الإسلاميين
طبعًا كل هذه النخبة الظاهرة عاشت في تونس بلا نهضة لمدة ربع قرن ولكن الوضع الذي خلقته انتهى بثورة عصفت بهم وبه، لكنهم لا يعدلون بوصلتهم على مشهد به إسلاميون، ونحن نشاهد الآن مناورات استبدال حكومة يوسف الشاهد والمطلوب من خليفته القادم أن يشكل حكومة بلا نهضويين وإلا سيعاد السيناريو ويتهم بالفشل.
تقوم النقابة بدور أكبر من حجمها الحقيقي في الواقع وتعمل على إفشال كل الإدارات التي لها فيها ثقل لكي لا يسير شيء في الاتجاه الصحي، ونعرف في الواقع من يتحكم في النقابة ويوجه فعلها، تحرص النقابة اليسارية على محاصرة كل التونسيين في صراعها من الإسلاميين، والبلد الآن محاصر هناك، فلا شيء سيتقدم ما دام الإسلاميون داخل الحكومة وخارج السجون، فما ذنب التونسيين إن كان بعض التونسيين يميلون إلى حزب النهضة ويصوتون له؟ هذا سؤال لا يؤدي إلى جواب.
ها نحن ندور في مكان واحد
أنا أحد الذين لا يصدقون ما يروجه أعداء النهضة عن قوة الإسلاميين، كما لا أصدق ما يروجه الإسلاميون عن خبراتهم وصدقهم فيما يوكل إليهم، وأرى أنهم جزء من هذا البلد لهم عيوبه وضعفه وهوانه، وأراهم يساهمون في إعادة فشله ولا يتحلون بشجاعة الخروج إلى الناس والتصريح بما يجري، بل يستديمون في عمل الكواليس والمناورات ذات الطبيعة المخابراتية أي العمل بعيدًا عن الناس وعن الحقيقة التي كلما انكشفت ساهم الإسلاميون في تغطيتها لأنهم استمرأوا العيش في الغموض والتمويه تحت تلك المسميات الكافرة بوعي الشعب كالحرص على الوحدة الوطنية والتوافق المنجي من الفوضى، إنهم يتحولون إلى جزء من الفشل العام بحرصهم على استدامة حياة منظومة فاسدة.
كم كان الربيع العربي الأمي واعدًا وكم كسرت النخبة المتعلمة روح شعوبها التواقة إلى الحرية
يزعمون قتلها خنقًا ولكنهم يحتاجونها حية ليتنفسوا من خلالها ولا يواجهون بشجاعة معركة هم آتينها لا محالة وهي معركة حسم جذري مع من يوصّفهم جسمًا غريبًا عن المجتمع التونسي.
إنهم حالة غريبة من النجاح بواسطة الفشل، ذلك أنهم يرون النجاح بقاءهم في المشهد ولو دون تغييره، فكيف نكتب عن الباقين بفشلهم، ما أبلغ صورة ما روي لنا عن أبي دلامة في الحرب.
في حالة كتابة مزرية نعلق على أحداث تافهة ونكبر أخرى حقيرة لنؤثث مقالات تستعيد نفسها ولا تتقدم بالتحليل ولا تكشف مستقبلاً، ونجري خلف ترهات يصطنعها أشخاص بلا أفق مثل نائب الشعب المنتخب بالصندوق الذي يدعو إلى انقلاب عسكري فتتاح له المنابر الإعلامية.
نكتب لنختم لا لنقدم حلولاً أو نفتح أفقًا، فكم كان الربيع العربي الأمي واعدًا وكم كسرت النخبة المتعلمة روح شعوبها التواقة إلى الحرية، تلك الحرية هي موضوع الكتابة الأجمل لكنها تستحيل إلى أضغاث أحلام.