بُنيت الدولة المصرية القديمة على أساس ديني، فكان الفرعون بالنسبة للمصريين هو ضمان استقرار الكون واتزانه واستمرار الحياة، فهو من يقيم عبادة الآلهة ويحرس البلاد ويكفل رخاء أهلها، فكان إن ظهر في مناسبة قال العامة “أشرق الملك”، وإن مات قالوا صعد الملك إلى السماء ليشارك موكب آلهة السماء، أما إن مات عامة الناس فهبطوا إلى بواطن الأرض.
هكذا قدس المصريون كل ما كان يحيط بالفرعون، فكل ما يلمسه ويستخدمه ويحيط به مقدس، حتى إنهم تخيّلوا أن بعد الممات سيكون العالم الذي يذهب إليه الفرعون مختلفًا عما سيذهب إليه عامة الناس، لتكون الأهرامات أفضل دليل على ذلك، لتدل على مدى سعادة الملك في الدار الآخرة، وكيف أن الفراعنة لن يفترقوا عن السلطة التي كانوا يمتلكونها حتى ولو في الآخرة.
عُرف المصريون في التاريخ أنهم شاركوا في بناء كل ما يتعلق برغبات الملوك والفراعنة في الخلود من أهرامات أو معابد، إلخ بإقناع تام، فإن كان كل شيء بيد الفرعون (العبادة والحياة والخير والرخاء)، فلماذا قد يرفض المصريون المشاركة في بناء قصوره ومعابده والمكان الذي يرغب الملك أن يُدفن فيه.
استسلام المصريين لملكهم بني على أساس أنه إله ويعطف عليهم ويرعاهم وأن فكرة الألوهية نموذج سياسي خاص نسجه المصريون
كان الملك في مصر القديمة شخصية إلهية مقدسة، يتمتع بعلم إلهي خاص، ولهذا لم يكن من المألوف التآمر عليه، أو تشكيل جبهة معارضة له مهما كان ظالمًا، ولأن الفرعون مُنزه عن الأخطاء في نظر العامة، فكان واجب على المصريين الخضوع التام والطاعة العمياء، ولكن هل هذا يعني انعدام السخرية من الحاكم بين عامة الشعب التي اشتهر بها أحفاد الفراعنة من المصريين في الأيام الحاليّة؟
هل سخر المصريون من الفرعون؟
لم تمنع الدولة الدينية السياسية المتمركزة في عرش الفرعون في مصر، على الرغم من صرامتها، المصريين من السخرية من الحاكم متجاهلين هالة القدسية التي تحيط بعرشه، حيث مر على المصريين مئات السنين من الحكم الظالم والطاغي، ومرت البلاد بحالات متتالية من الفوضى والخراب، واضطر عامة الناس كثيرًا إلى الخضوع لأوامر الفرعون غير الإنسانية، وهذا ما حفزهم على السخرية من الحاكم، متجاهلين ما يُسببه ذلك من عقبات.
استغل المصريون القدماء الفن للسخرية من الحاكم بالضبط كما فعل المصريون حديثًا خلال وبعد الربيع العربي، فصوروا الملوك برموز ساخرة واستخدموا رموز الحيوانات في سبيل ذلك، حيث صوروا الملوك تارة كالفئران وصوروا القضاة تارة أخرى كالحمير.
اشتهرت حركة التدوين الرسمية في مصر القديمة على جدران المعابد، وصاحبتها هالة قدسية تُقدس كل ما يُنقش على الجدران، ولهذا لم يكن للفن الساخر من الحاكم محل على هذه الجدران على الإطلاق، وذلك لأنها حركة تدوين شعبي وغير رسمية، ولهذا اتخذ عامة الناس من الفخار وسيلة لتدوين الفن الساخر كانت تُعرف في مصر القديمة بـ”الشفقات“، وهي وسيلة مشهورة في الحضارات القديمة لتدوين النصوص أو الصور عن الحياة اليومية لعامة الشعب في تلك الحضارات ومنها الحضارة المصرية القديمة.
غلب على تلك “الشقفات” الفن الساخر أو الهزلي في مصر القديمة، من أجل تصوير الأوضاع السيئة التي يعيشها العامة يوميًا، لتعكس الحياة الظالمة في عهد كثير من الفراعنة الذين تسبب حكمهم بالفوضى.
في هذه الصورة نرى أن القاضي قد تحول لفأر عجوز يتكئ على عصاه ويأمر بتعذيب مصري من عامة الشعب، يعذبه قط يتعاون مع الفأر لأول مرة في شكل ساخر من الحكم والقضاء في مصر القديمة.
حاول المصريون القدماء السخرية من الحاكم دون أن يتعرضوا للعقوبة، فمالوا إلى عدم استخدام الهيئة الحقيقة للحاكم أو للكهنة أو القضاة، واستبدلوها بصور حيوانات للسخرية منهم دون الإشارة إليهم بشكل واضح ومباشر، وهو ما يُنقذهم من عواقب النقد الصريح.
استخدم المصريون القدماء رموز الحيوانات المتنافسة كثيرًا في الرسومات ليوضحوا انقلاب الحال في مصر القديمة
على عكس علماء المصريات الذين صوروا عامة الشعب من المصريين بأنهم خاضعون باستسلام وهدوء تام للفرعون مهما طغى، وعلى الرغم من غياب اهتمام العلماء بالفن الشعبي الهزلي الذي بدأه المصريون القدماء في تاريخ المعارضة السياسية وسط الحضارات القديمة كلها، برع المصريون القدماء في مختلف أنواع الفنون الهزلية التي توضحها هذه “الشقفات”.
كما هو الحال في الفن الهزلي المصري الحديث الذي يحاول من خلال الرسم والنحت والغناء والموسيقى توضيح الصورة المجتمعية المصرية الحاليّة التي بات فيها الوضع معكوسًا في نظام الحكم، فمن لا يستحق الكرسي يناله ويخضع له الجنود والعساكر، صور المصريون القدماء ذلك أيضًا من وحي الصور اليومية للحياة تحت عرش الفرعون.
يظهر ذلك في صور كهذه؛ حيث القط يخدم الفأر في شكل يُخالف الطبيعة الحيوانية للقط والفأر، هنا نرى قط يحمل طفل الفأر وقط يحمل أداة ترويح يدوية وآخر يقدم المأكل والمشرب لفأر آخر، يحاول الرسامون هنا تصوير كيف يكون الوضع معكوسًا في البلاد حيث يخدم القط الفأر ويخاف منه على عكس المفترض أن يكون.
استخدم المصريون القدماء رموز الحيوانات المتنافسة كثيرًا في الرسومات ليوضحوا انقلاب الحال في مصر القديمة، فتارة استخدموا الفأر والقط وتارة أخرى استخدموا الأسد والغزال، وتارة يجمعون بين الحمار والثور الهائج في لوحة واحدة دلالة على انعدام التوازن وغياب العدالة.
في هذه اللوحة تجد أسدًا يلعب الشطرنج مع الغزال، لا يرى الأسد في الغزال فريسة ويرى الغزال في اللوحة فرصة متعادلة مع الأسد للفوز عليه في اللعبة.
وهذه لوحة توضح ضعف الصقر وعدم قدرته على التحليق، فيصعد إلى الشجرة مستخدمًا سُلمًا بينما يجلس الثور، من ليس في مكانه الطبيعي، أعلى الشجرة.
لم يعتد الكثير من علماء المصريات بالشقفات، وذلك لأنها نوع من أنواع الفن غير الرسمي، وغير الموجود والمنحوت على جدران المعابد، إلا أنها كانت تمثل حيزًا من الحرية للفنان الذي استطاع تصوير الثقافة المصرية الموجودة في الحياة اليومية بشكل أقل رسمية من حركة التدوين الرسمي في المعابد وأقرب للناس لأنها تمثلهم وتُصور أفكارهم.
صورة للملك رمسيس في إحدى المعارك
لم تكن الشقفات خاصة فقط بالفن الهزلي للشعب المصري القديم، بل دوّن عليها كثير من جوانب الحياة في الحضارة الفرعونية، فكانت تصور الانتصارات في المعارك، حيث نرى هنا في هذه اللوحة الملك محاولًا تحطيم رأس العدو الذي يمسكها بين يديه، كما يوجد نص مكتوب بالهيروغليفية يُفيد باسم الملك وهو هنا “رمسيس” وعبارة تقول “ملك الأرضين رمسيس، الملك الذي يسحق أرض الأعداء”.
كما صورت الشقفات الجوانب الثقافية من حياة الشعب المصري القديم، فصوّرت الفنون المختلفة مثل الرقص، حيث نحت الرسامون شكل الراقصات وما كانوا يرتدونه وكيف كان شكل وجوههم وطريقة وضعهم لمساحيق التجميل، كما رسم الفنانون صورًا لطعام عامة الشعب الذي يختلف عما يأكله الملوك والكهنة.
يقال إن الشقفات الهزلية التي سخر المصريون فيها من الفراعنة كانت مصدر الإلهام لكثير من قصص الحيوانات المشهورة حاليًّا، مثل سلسلة “كليلة ودمنة” أو مسلسل الرسومات المتحركة المشهور “توم وجيري” حيث يكون صراعًا مستمرًا بين القط والفأر، أكثر الحيوانات الموجودة في الشقفات الهزلية الخاصة بالمصريين القدماء.