ترجمة وتحرير: نون بوست
تستلقي فاطمة سعيد، البالغة من العمر 22 سنة، على نفس البطانيات الرمادية منذ أكثر من 12 ساعة، وهي تختنق من ألم الولادة. تحاول هذه الأم أن تتغلب على معاناتها من أجل إرضاع صغيرها حديث الولادة. وقبل ستة أيام، تمكنت فاطمة من الهروب سيرا على الأقدام من الغوطة الشرقية، وهي تحمل في أحشائها جنينها ذو التسعة أشهر، وتجر خلفها ابنها البكر البالغ من العمر سنة ونصف. نزلت هذه المرأة في مخيم الاستقبال المؤقت، في بلدة هريرة، وهو المخيم المأهول بأكبر عدد من السكان على عكس باقي المخيمات التي هيأها النظام السوري في ضواحي دمشق.
عموما، كانت سلطانة سعيد، ابنة فاطمة، آخر اسم يدونه المحافظ المحلي للمنطقة، عبد الرحمان جتيد، في سجله السميك ذو الغلاف الأخضر. في المقابل، لا تسجل في صفحات الدفتر أي ملاحظات حول الصدمات التي عانى منها حوالي 23.524 شخص نزح إلى هذا المكان. وفي هذا المخيم المكتظ بالنازحين، لا يستعمل سجل الأسماء إلا لإضافة أسماء المواليد الجدد وشطب أسماء الموتى.
محمد باشا يصلي أمام قبر والده، الذي توفي في مخيم النازحين في بلدة هريرة بعد يومين من الفرار من الغوطة الشرقية.
حول معاناة الحوامل، تقول القابلة نسرين، التي تثبّت بين التارة والأخرى نظاراتها البالية التي تبرز من تحت حجابها الذي يغطي رأسها: “نحن لا نملك في المستشفى فيتامينات لتقديمها للحوامل اللاتي تغذين خلال الأشهر الأخيرة على بقايا الأعلاف والذرة”. تُعد نسرين واحدة من بين الممرضات القلائل اللاتي تعملن في الغوطة تحت القصف. انتقلت نسرين الآن لتعمل في مخيم النازحين، وقدمت المساعدة لحوالي 20 امرأة، قامت بتوليدهن خلال أسبوع واحد.
شأنها شأن باقي الجيران، تعد عائلة فاطمة سعيد من الفلاحين البسطاء في المنطقة، الذين تحرق الشمس بشرتهم. وعندما بدأ الحصار سنة 2013، كانت هذه المجموعة تعمل في الحقول مقابل ألف ليرة في اليوم (أي ما يعادل أقل من اثنين يورو). ونظرا لتدني الرواتب، لا يكفي أجر عمل يومين متواصلين لشراء كيس من الخبز في هذه البلاد التي أصبح اقتصادها في الحضيض. وفي وقت لاحق، جعل قصف الحكومة هؤلاء الفلاحين البسطاء من دون أراضي صالحة للزراعة، بشكل تدريجي، بعد أن تحولت إلى مقابر لحوالي 1500 ضحية.
كانت سماء الغوطة تمطر على السكان التفجيرات والقصف. كما استهدفهم الرصاص على الأرض، خاصة عندما استقرت الفصائل الرئيسية الثلاث المسلحة في المنطقة
في الأثناء، أكدت النازحات الموجودات في المخيم أن “المسلحين لا يتدخلون في شؤون المدنيين، أو يقتحمون منازلهم”. لكن، مع اشتداد الحصار وتغلغل المجاعة بين صفوف جميع المحاصرين، بدأت الاحتكاكات والتوترات مع “المسلحين”؛ وهي العبارة التي أطلقتها النساء النازحات على رجال مليشيا فيلق الرحمان، الذين يسيطرون على بلدة جسرين.
في هذا السياق، احتجت فاطمة قائلة: “في الوقت الذي يموت فيه صغارنا من الجوع، يملك المسلحون الطعام والماء طوال الوقت”. شأنها شأن باقي النازحين، تتهم فاطمة “المسلحين” بإعادة بيع المساعدات الإنسانية القليلة التي تدخل البلدة، بأسعار باهظة. فعلى سبيل المثال، يتم بيع كيلوغرام السكر بقيمة 16 ألف ليرة سورية ( ما يعادل 25 يورو) في الغوطة، في الوقت الذي يباع فيه هذا المنتوج بحوالي 250 ليرة ( ما يعادل 40 سنتا) في دمشق.
من بين الحالات الأخرى، يمكن الحديث عن رب عائلة يعيش في أحد الضواحي رفقة عائلته التي تضم 12 فردا، في هذا البلد الذي لا يمنع تعدد الزوجات. ومن أجل إطعام صغاره، اضطر هذا المدني إلى بيع منزله لشراء كيلوغرامين من السكر، وكيس من الطحين فقط.
تحدثت إحدى النساء المسنات عن معاناتها، موجهة رأسها إلى النافذة وهي تضحك: “لقد كنت بدينة للغاية، أما الآن فقد أصبحت مثل العارضة”. وبين الضحك والصمت الطويل من أجل الهروب من البكاء، يتناوب النازحون على الحديث عن قصصهم. أكد أحدهم أنه خلال سنتي الحصار الأولى، قطع العديد من النازحين مسافة ساعة ونصف من المشي في أحد الأنفاق. وكانت رحلتهم بمثابة السباق لتجنب الاختناق بسبب انعدام الأكسجين في هذا المكان. وبعد قطع هذه المسافة، وجد النازحون أنفسهم في العاصمة دمشق.
في هذا المكان، يزور النازحون أقاربهم الذين يعيشون في الجانب الآخر من الحصار، أو يقومون بشراء مستلزماتهم، أو يتوجهون للمداواة في إحدى عيادات الأطباء. وعبر هذه الأنفاق اللامتناهية، التي تمتد على أكثر من 20 كيلومترا من الطول وأربعة أمتار من العرض، يتم تزويد الجماعات المسلحة بالسلاح، والمستشفيات بالأدوية.
في خضم هذه الحرب، حافظ التجار الأكثر ذكاء على علاقات جيدة مع سكان دمشق في “الجهة الأخرى”، لضمان شراء كميات كبرى من الذرة والطحين. وفي وقت لاحق، يبيع التجار هذه المنتجات مع تحقيق ربح يصل إلى ألف بالمائة، خاصة خلال الفترات التي يشتد فيها الحصار. وعندما فجر الجيش السوري هذه الأنفاق، قبل سنتين، أصبح كل شيء أسوأ.
كانت سماء الغوطة تمطر على السكان التفجيرات والقصف. كما استهدفهم الرصاص على الأرض، خاصة عندما استقرت الفصائل الرئيسية الثلاث المسلحة في المنطقة، وبدأت في شن حروب داخلية مستعرة. وأسفرت هذه الصراعات عن أول موجة نزوح داخل نفس المنطقة المحاصرة.
يقدر عدد النازحين الذين لجأوا إلى مخيم في بلدة هريرة، بحوالي 23 ألف شخص
تذكر مصطفى هاشا هذه الأحداث قائلا: “لقد اضطررنا إلى مغادرة منازلنا والبحث عن ملجأ في بلدة حمورية”. وقد غادر عدد من السكان منازلهم، بما يكفي لاحتلال منازل السكان الأكثر ثراء الذين انظموا إلى قائمة السكان الذين لجأوا إلى البلدان المجاورة، والذين يقدر عددهم بحوالي 5.6 مليون شخص.
في هذا الإطار، أشارت عائلة هاشا إلى أنهم كانوا محظوظين، لأنهم عثروا على منزل “عائلة ثرية، تم بناؤه مع أرضيات رخامية، ويحتوي على العديد من الحمامات، وتوجد فيه شرفة”. أما الأثاث المنقوص من المنزل، فقد تم تعويضه من المباني الأخرى المهجورة. فعلى سبيل المثال، تم جلب خزانة من منزل يقع في حي آخر. وفي وقت لاحق، جعلت سلسلة النزوح، التي تتكرر في جميع أنحاء البلاد، من حمص إلى الرقة، مرورا بحلب ثم عفرين؛ عائلة هاشا تعيش لمدة ثلاث سنوات في ظروف لا يمكن مجابهتها في ظل عدم توفر أي دخل للعائلة. وتنفس هاشا الصعداء قائلا: “أتمنى أن نعود قريبا إلى هذا المنزل”.
الحياة في أنفاق الغوطة
بلغ عدد الأشخاص الذين يعيشون في الأنفاق ذروته بالتزامن مع الهجوم الجوي والأرضي الذي أطلقه الجيش النظامي السوري منذ شهر ونصف. في الوقت الحالي، توقف هذا الهجوم المزدوج بعد الاتفاق حول إجلاء أكثر من 15 ألف عنصر من الجماعات المسلحة، و30 ألفا من عائلاتهم نحو إدلب في شمال غرب البلاد، الواقعة اليوم تحت سيطرة جبهة النصرة. ووفقا للأرقام التي أدلت بها الأمم المتحدة، أجلي 100 ألف مدني إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوري. في المقابل، أكدت الحكومة السورية أن هذا الرقم وصل إلى حدود 135 ألف مدني. أما في الغوطة، فقد بقي فقط فقراء السليمانية.
أكدت فاطمة أن المسلحين أطلقوا النار على والدها عند محاولتهم الفرار من المنطقة المحاصرة. ثم سقطت على هذا الرجل قذيفة هاون أثناء هروبه. وأفاد الأشخاص الذين تمكنوا من الفرار أن “المسلحين قاموا بإعادتهم من نقاط التفتيش بحجة أن الجيش السوري قد اغتصب النساء وقطع رؤوس الأطفال”. أضافت القابلة نسرين: “إن مستشفى رجال الميليشيا الخاص بهم وبعائلاتهم، أفضل بكثير من المستشفى المخصص للمدنيين”. في المقابل، اختار غالبية زملاء القابلة إخلاءهم إلى إدلب، خوفا من القمع في المناطق التابعة للنظام السوري.
“أحيانا تنتهي النقاشات العائلية بإطلاق الرصاص. وفي مرات أخرى، تنتهي بالطلاق مع رحيل الرجل دون التفكير في العودة”
خلال هذه الحوارات، كثيرا ما تم تداول قصص أبطال مجهولي الأسماء. ويتذكر أهالي الغوطة ابن شقيق الخباز أو ابن عم الحداد، الذي حاول إنقاذ فتاة جريحة أثناء إحدى التفجيرات، لكنه دفع حياته ثمنا لذلك وسقط قتيلا في نفس المكان. كما توجد ممرضات على غرار نسرين، تركضن مثل الأرانب بمعاطفهن بين قذائف الهاون. ولعل المهمة الأكثر تعقيدا هي مساعدة النساء الحوامل اللاتي ولدن في الأقبية.
خلال القصف، اختبأت الآلاف من الأسر في هذه الملاجئ وحتى في الأنفاق لمدة 30 يوما. ومن المفارقات أن تعيش تحت الأرض وتموت فوق الأرض. وفي ظل هذا الوضع، انتشر الربو بين الأطفال وجفت بشرة الكثير من النازحين، التي تعد بدورها أحد أعراض نقص الطعام والشمس.
يزداد الوضع سوءا في هذا البلد الذي أعيته المجاعة والخوف. كما جعل هذا الوضع العائلات تستسلم للضغط والغضب في أقبية الغوطة. روت منار بابتسامة خفيفة: “أحيانا تنتهي النقاشات العائلية بإطلاق الرصاص. وفي مرات أخرى، تنتهي بالطلاق مع رحيل الرجل دون التفكير في العودة”.
في نهاية الأمر، اتفق هؤلاء الحاضرون على أن الأمر الأكثر أهمية هو راحة البال، والقدرة على النوم بشكل سليم. وبعد أن كانوا يفكرون فقط في الموت في الأنفاق، أصبحوا الآن يفكرون في الرجوع إلى منازلهم. وخلال الحديث عبرت هذه المجموعة عن تجاهلها لحدث اجتماع ثلاثة رجال يحملون أسماء صعبة النطق، في أنقرة، ليقرروا مستقبل سوريا وهم قادة إيران، وتركيا، وروسيا.
في ظل هذا الوضع، اختارت عائلة باشا البقاء في الملجأ بعد أن أضعفتهم قلة الطعام وعدم القدرة على المشي. وفي الأثناء، تنتظر هذه العائلة نداء الجهة الفائزة في حرب الغوطة
قبل أسبوعين، كان على المحاصرين أن يختاروا بين الموت تحت القنابل أو الموت في محاولة للهروب من القصف. وفي نفس الوقت، لم تتوقف دورة الحياة في هريرة، حيث ولدت سلطانة قبل ثلاثة أيام. وفي نفس هذا المكان، دفن المزارع عمر باشا الذي يبلغ من العمر 49 سنة، والده في قبر مرتفع بعض الشيء يكسوه الطوب. ويعد إبراهيم باشا البالغ من العمر 92 سنة، آخر ميت في هريرة بسبب مشاكل في التنفس.
في ظل هذا الوضع، اختارت عائلة باشا البقاء في الملجأ بعد أن أضعفتهم قلة الطعام وعدم القدرة على المشي. وفي الأثناء، تنتظر هذه العائلة نداء الجهة الفائزة في حرب الغوطة. ومن جهة أخرى، يعد الجيش السوري الجهة الوحيدة التي يكن لها عمر الامتنان، حيث قام بنقل والده في سيارة، وقدم الطعام والماء لعائلته. بالإضافة إلى ذلك، دفع الجيش ثمن القبر الذي سيعود عمر في القريب العاجل لزيارته.
في مكان آخر، توجد أم عمر، أميرة، البالغة من العمر ثمانين سنة، التي غطت الهالات السوداء عينيها. تجلس هذه المرأة أمام الكاميرا وكأنها تصوّر نفسها مرة أخرى لتجديد بطاقة الهوية. عبرت أم عمر عن حزنها قائلة: “ليس لدي المزيد من الدموع لأذرفها. أنا فقط أتطلع إلى الموت بسلام في الغوطة، في أرضي”.
من المعلوم أن النظر إلى الوراء أمر صعب بالنسبة لهؤلاء الأشخاص المتواضعين الذين لا يملكون حتى هاتفا خلويا، لإظهار المناظر الطبيعية في الغوطة قبل الحرب. ومن المفارقات أن هؤلاء الأشخاص لا يظهرون أي نوع من الكره تجاه الأفراد المسلحين أو تجاه عناصر الجيش على حد السواء. ببساطة إنهم يفضلون توكيل أمرهم لله.
المصدر: البايس