يتكرر السؤال دائماً: لِم اليمن تعيس؟ ولم البلاد المشتهرة في الكتب والحكايات بالسعادة لا تعرف إلا القهر والبؤس؟ وكيف للحضارةِ الضاربة جذورها آلاف السنين في التاريخ أن تنقلب حاضراً على أطلالِ مجد زائل ومحاولات يائسة للخروجِ إلى الحداثة؟
الإجابة تكمن في الرئيس اليمني الراحل على عبدالله صالح الذي تسلم الحكم بعد فترة وجيزة من انتهاء حكم الرئيس إبراهيم بن محمد الحَمْدي (من 13 يونيو 1974 حتى 11 أكتوبر 1977)، وقبله كان اليمن في بداية نهضة اقتصادية واعدة، فحسب تقارير البنك الدولي حينها، كان اليمن أمام معدل نمو مرتفع نسبيا وتصنيف ائتماني معقول وطفرة في البُنى التحتية والطرق والموانئ والمطارات.
لكن نظرة على ما حل بالاقتصاد اليمين بعد ثلاث عقود من حكم صالح تُظهر ثُقبًا أسودًا ابتلع الكثير من أموال الشعب اليمني رغم اكتشاف النفط والغاز وتدفق المساعدات الخارجية، فأينَ ذهبت خيرات اليمن السعيد؟ وأينَ أموال اليمنيين؟
رئيس بثراء فاحش وشعب على حافة الموت
يُطل اليمن على العالم اليوم دولة هشة أقرب إلى الانهيار، ورغم الصراعاتِ المسلحة التي عصفت به طويلاً والبنيةَ القبليةَ القوية التي كان لها دور كبير في تعثُّر التنمية بما تحملهُ من أواصرِ تعصب خارج الدولة إلّا أنّ السبب الأهم يبقى فيمن أدار ودبَّر وأمسك فأوصل اليمن إلى الدرك الأسفل الذي هو فيه.
عام 2015، قدَّر تقرير دوليّ للأمم المتحدة حجم الأموال التي نهبها على عبدالله صالح عن طريقِ الفساد خاصةً في عقود النفط والغاز بما بينَ 32 والـ 60 مليار دولار، بمعدِّل ملياري دولار سنويًا، وأن هذه الثروة وُضعت في نحو 20 بلداً.
ثروة هائلة يملكها هذا الرجل، تجعله واحداً من أغنى أغنياء العالم، وتفوق بـ 5 أضعاف موازنةَ اليمن في العام الماضي، فكيف إذًا لرئيس دولة تعد من الدول الأفقر في العالم أن يجمع هذه الأموال الطائلة؟
اعتمد صالح في تثبيت حكمه على شراء الولاءات القبلية والعسكرية؛ فعشش الفساد في هياكل المؤسسات والجيش ولم يشهد عهده أيَّ تنمية أو بناءِ بُنية تحتية.
وإذ يقال إنَّ المال السريع يرد غالباً من إرث أو سرقة يبدو علي عبد الله صالح في الخانة الثانية، إذ يقود سرقة منظمة تُسمى “تلطُفاً فسادًا”، بدأت بتأسيس استثماراته في الخارج في وقت مبكر من سبعينات القرن الماضي مع وصوله السلطة، وتراكمت على امتداد 33 عاماً مِن سنواتِ حكمه.
وعلى مدى هذه الفترة، نجا صالح وأمواله من ملاحقة ثورة فبراير/شباط 2011 بفضل المبادرة الخليجية التي تنازل فيها عن الحكم مقابل منحه حصانة من المحاكمة والتعهد بعدم ملاحقة أمواله، لكن دوره في مساعدة الحوثيين للانقلاب على سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي، دفع مجلس الأمن إلى إصدار قرار بفرض عقوبات عليه وتجميد أمواله.
فيلم “اليمن.. الأموال المنهوبة” من إنتاج قناة الجزيرة
شبكة نهب الأموال
حكم علي عبدالله صالح الرئيس اليمني السابق البلاد لأكثر من ثلاثة عقود مستنداً على دعم شبكة واسعة من المنتفعين، منهم من قام ببنائهم من الصفر، ومنهم من فتح سوق اليمن على مصراعيه لخدمتهم وفق نسبة من الأرباح يحصل عليها “صالح” أو أحد أفراد عائلته.
ولم تكن تقارير الأمم المتحدة هي الوحيدة التي تحدثت عن ثروة صالح ونهبه للأموال، إذ وصفت مؤسسة “تشاتام هاوس” الهيئة البريطانية البحثية العريقة في تقريرها الخاص سيطرة عشر عائلات يمنية فقط على أكثر من 80% من اقتصاد اليمن (الواردات والتصنيع والتحويل والخدمات المصرفية وخدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية والنقل).
ويشير التقرير إلى أن اليمن يحتل المرتبة الخامسة في حجم التدفقات الخارجية غير المشروعة لرأس المال بنحو 12 مليار دولار خلال الفترة بين الأعوام 1990-2008 ، وهي ثروة يستفيد منها أفراد من عائلة صالح إلى يومنا هذا، حتى بعد اغتياله وإدراج ابنه في قائمة العقوبات التابعة للأمم المتحدة.
صالح حطم كل المحظورات بين الثروة والسلطة، بسبب علاقاته مع بعض رجال الأعمال، والشبكة التي وظفها وتقاسمت معه المال، ومنهم شاهر عبدالحق، رجل الأعمال النافذ والذي حظي دوما بامتيازات استثمارية خاصة، وذكر التقرير الصادر عن فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن أن شاهر عبدالحق ضمن شبكة صالح.
التقرير أيضًا بيَّن بالوثائق أن إحدى شركات شاهر “إنسان ويكفس” قامت بتحويل مبالغ مالية لشركة “ريدان للاستثمار والمحاسبة ” التي يمتلك فيها خالد على عبدالله صالح ما نسبته 49%، ومقرها الإمارات، واستمرت هذه التحويلات حتى بعد إدراج علي عبدالله صالح تحت قائمة الجزاءات.
وكشف التقرير النهائي للجنة العقوبات الدولية الخاصة باليمن تفاصيل مثيرة بشأن غسيل الأموال في البلاد، حيث علم فريق التحقيقات المختص بالشبكات المالية المتعلقة بأشخاص محددين أن خالد علي عبد الله صالح يلعب دوراً بارزاً في إدارة الأصول المالية نيابة عن والده المخلوع وشقيقه أحمد المدرجَينْ على قائمة العقوبات.
ورصد الفريق تحويلات مشبوهة لنحو 84 مليون دولار في الفترة الممتدة بين 2014 و2016 ضمن ست شركات وخمسة مصارف في خمس دول خارج ممارسات إدارة الصناديق العادية من ذوي الثروات الكبيرة، ومن بين الشركات المتهمة شركة “رايدن” التي استخدمها خالد علي عبد الله صالح.
وبالنسبة لنشاطات السوق السوداء المالية المتعلقة بالتسلح على المستوى الإقليمي، أبرز الفريق دور فارس حسن مناع، والذي لفت انتباه الفريق خصوصاً بعد تعيينه في منصب وزير للدولة في حكومة صالح، وخصوصاً في ضوء علاقاته مع علي عبد الله صالح والحوثيين، وهو يسافر بكل حرية بجواز يمني دبلوماسي بما في ذلك إلى مناطق الشنغن بأوروبا.
للنهب أشكال أخرى
ليست أموال صالح وعائلته موجودة في الخارج فقط أو تتعلق بنجله الأكبر، فصالح وأقاربه سيطروا على الوظائف العليا في الجيش اليمني إضافة إلى الخطوط الجوية اليمنية والمؤسسة الاقتصادية، وكلاهما تابع للحكومة.
ورصدت ندوة عقدها التحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان عمليات سحب على دفعات قام بها صالح قبل مقتله من احتياط النقد الأجنبي من المصرف المركزي، كما قام بسحب الاحتياطيات النقدية من فروع المركزي في المحافظات، وإلغاء بعض الصفقات التي أبرمت باسم الدولة وتحويلها إلى أرصدته الشخصية في الخارج .
وخلال الندورة التي عُقدت بالأمم المتحدة، تحدثت رئيسة المبادرة العربية للثقافة والتنمية وسام باسندوة حول صفقات مشبوهة لبيع الأراضي والغاز والأسلحة، قائلة إن “كل ما سبق يُشير إلى أن عملية جمع الأرصدة تم عبر عملية فساد متوحش ومنظم في آن معًا، وصل لحد وضع اليد على المساعدات الطبية والغذائية، وبيعها في الأسواق المحلية.
واستمر التلاعب بميزانية الدولة لسنوات، اعتمادًا على بنود تشرعن للفساد، فقد كان هناك اعتمادات إضافية “غير مبوبة” لا تخضع لرقابة قبلية أو بعدية، ولا يطلع على تفاصيلها أحد سوى صالح وشبكته.
وتدخل صالح دائما لإرساء المناقصات، ليس استنادًا إلى أفضل العروض تقنيًا بل تبعا لحصته الربحية، وهو ما حدث في مناقصة ميناء عدن، فقد تدخل صالح شخصيًا لمنحها لموانئ دبي بدلاً من رابطة الكويت.
وتحول اكتشاف النفط “الذهب الأسود” إلى لعنة على اليمنيين؛ لأن صالح استفاد إلى أبعد الحدود من ذلك بعقود مشبوهة وصفقات غير نزيهة، حتى بات القريب والبعيد على دراية أن مؤسسات الدولة اليمنية صارت وسيلة لجمع ثروة آل صالح ومن يدينون له بالولاء.
وتدفقت الأموال إلى جيب صالح عبر الحصول على المال مقابل منح الشركات الأجنبية حقوقا خاصة للتنقيب عن النفط والغاز، وحين طالبت لجنة برلمانية بمساءلتها، لم يعتبرها رئيس البرلمان الحالي عضو اللجنة وقتذاك قضية فساد بل أقفل الملف بالقول إن صالح هو رأس الدولة وهو من يأمر وهو المالك والمتصرف.
ومن النفط إلى التجارة المباشرة لشبكة صالح المالية، أظهرت وثائق نشرتها قناة الجزيرة تخص أهم ملفات هذه التجارة، وهي شركة فولكان التي كان يديرها شاب يدعى خالد الرضي ضمن شبكة صالح إلى أن قتل في مواجهات بين الحوثيين ورجال نجل صالح.
بالإضافة إلى ذلك، استخدم صالح عدداً من الشركات الوسيطة لإدارة الشركات التي يقوم بتأسيسها، كما ظهرت في “وثائق بنما” التي أثارت ضجة واسعة عام 2016، وكشفت النقاب عن تأسيس شركات عبر وكلاء وهميين كشركة للغاز المسال في برمودا تابعة للرئيس صالح، وأسسها ثلاثة محامين بريطانيين.
أما قصة تهريب الأموال خارج البلاد، فهي الطريقة ذاتها التي يستطيع من خلالها أي ديكتاتور تحويل الأموال المنهوبة إلى ملكية خاصة وبطريقة قد تبدو قانونية، وذاك ما فعله صالح، فقد سُجلت بعض شركاته سجلت باسم ابنه فيما يُعرف بالملاذات الضريبية الآمنة، وهي قبلة أموال منهوبة وغير نظيفة من أنظمة وحكام فاسدين كثر.
العقارات الفاخرة هي أيضا إحدى وسائل نقل الأموال إلى الخارج، حيث يملك أحمد علي صالح أربع شقق في أرقى أحياء واشنطن وشقيقتين في أغلب مناطق باريس، تصل قيمة شقيقتي فرنسا ثلاثة عشر مليون دولار، وهي بالنظر إلى الثروة التي جمعتها العائلة هي مجرد نقطة في بحر الفساد.
اجتماع هيئة استرداد الأموال المنهوبة في اليمن
استعادة الأموال المنهوبة في براثن العدالة المؤجلة
رغم أن هناك تطورًا كبيرًا في القوانين الدولية في رصد الأموال المنهوبة، وثمة تعويل على الرأي العام للضغط على الحكومات الغربية بغية تفعيل هذه القوانين، إلا أن البنوك الغربية توفر ملاذات آمنة لأموال مصدرها العصابات والمخدرات والمستبدون الناهبون.
يُضاف إلى ذلك أن آليات الأمم المتحدة ما زالت بطيئة وغير فعالة في تتبع هذه الأموال؛ أي أن مجلس الأمن يفرض هذه العقوبات ولكن الدول المعنية هي من تقرر من ذات نفسها هل تريد أن تتجاوز وتتعاطى مع اللجان أم لا.
تبقى الملفات والأدلة تنتظر من يضعها أمام العدالة الدولية لاسترداد حق شعب يموت جوعًا، وفي رحلة طويلة سيموت قبلها وخلالها مزيد من اليمنيين فقرًا ومرضًا في زمن الحرب والكوليرا
وكان مجلس الأمنِ الدولي قد اعتمد في تشرينِ الثاني/ نوفمبر من العام الماضي عقوباتٍ من بينها تجميدُ أموالٍ بحقِّ صالح لكنَّ فلساً واحداً مِن الأموالِ التي نهبها لم يُستَرجَع.
وفي خطوة محلية، شارك نشطاء حقوقيون واقتصاديون باليمن في تأسيس “هيئة وطنية لاسترداد الأموال المنهوبة”، ولكن مع كل هذا، لا يبدو استرجاع المال من البنوك العالمية أمرًا يسيرًا، مما يضع على عاتق جيل الثورة اليمنية خوض المعركة في المنابر الدولية لتعود حقوقه إليه.
ولا شك أن ثمة تواطؤا من بنوك غربية وأحيانا من حكومات تغض الطرف عن أموال تدرك تمامًا أنها من حق شعب يعيش على المعونات والمواد الإغاثية.
من ناحية أخرى، يعيش اليمنيون في حرب تمزقه، بينما الحكومتان الشرعية والانقلابية لديهم ما يكفي من الأسباب للعزوف عن الخوض في هذا الملف، فبعض مَنْ في الحكم الآن كانوا يوما جزءا من مافيا المال والسياسة خلال سنين حكم صالح.
وتبقى الملفات والأدلة تنتظر من يضعها أمام العدالة الدولية لاسترداد حق شعب يموت جوعًا، وفي رحلة طويلة سيموت قبلها وخلالها مزيد من اليمنيين فقرًا ومرضًا في زمن الحرب والكوليرا، هل سيتمكن الشعب اليمني في المنظور القريب من استعادة حقه المسلوب؟