بعث الإضراب المفتوح الذي يقوده الأطباء المقيمون (طلبة الطب في مرحلة التخصص) وطلبة المدرسة العليا للأساتذة هذه الأيام أملاً جديدًا بعودة الحركة الطلابية في الجزائر للعب دورها مثلما كان سابقًا، بعدما عرفت في السنوات الأخيرة خمودًا قد لا يعكس ماضيها الحافل بالنضال المتواصل سواء ضد الاستعمار الفرنسي أم بعد الاستقلال لافتكاك حقوق الجامعيين وتحسين مستوى التعليم العالي، وحتى لكسب حقوق سياسية في تجربة طلابية قد لا تشبه باقي التجارب التي عرفتها دول أخرى.
وحين العودة بعجلة الزمن إلى تاريخ الحركة الطلابية في الجزائر، يتضح أنها كانت على الدوام في صلب الأحداث التي عرفتها البلاد، منذ ظهورها للعلن بشكل بارز عام 1883، حين تم تأسيس شركة الطلاب لمدينة الجزائر التي تغير اسمها عامين بعد ذلك إلى “الجمعية العامة للطلبة الجزائريين”، وكان هدفها وقت ذلك توحيد طلاب يعدون على الأصابع لنشر الوعي وسط السكان لمواجهة الاستعمار الفرنسي، وكذلك البحث عن إجراءات تمكن من تأمين حقوقهم في ظل حكم احتلال غاشم بغيض.
التأسيس من أجل التحرير
استمر نشاط الطلبة الجزائريين يسير في الظاهر بخطوات محتشمة، لكن عند النظر لما حققه فقد كان يؤسس لتنظيم جديد يمهد لقلب نظرة الحركة التحررية الجزائرية، بما أن الهم كان في ذلك الوقت همين: هما كسب تحدي أكبر عدد من المتعلمين للتقليص من نكبة التجهيل التي كان يعتمدها الاحتلال الفرنسي، وكذا التوعية السياسية والنضالية بما أن الهدف الأسمى كان دائمًا الاستقلال، وتوج هذا العمل في الأخير بتأسيس جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا عام 2027، وضمّت طلاب الجامعة الفرنسية من جزائريين وتونسيين ومغربين.
شكل هذا التأسيس إشارة انطلاق لتوسع عمل الطلبة سواء داخل هذا التنظيم أم عبر الأحزاب والجمعيات التي كانت موجودة كحزب الشعب وجمعية العلماء المسلمين وأحباب البيان والكشافة الإسلامية، ولما كان النشاط داخل الجزائر صعبًا انتظم الطلبة الجزائريون في تونس تحت لواء جمعية الطلبة الزيتونيين (نسبة لجامع الزيتونة) سنة 1936، واجتمع طلبة جامعة القرويين ضمن ودادية الطلبة الجزائريين بالمغرب.
خط هذا الاتحاد الوليد كان واضحًا منذ البداية وهو دعم جبهة التحرير الوطني المطالبة بالاستقلال عن الاحتلال الفرنسي
في عام 1944 أُنشئ فرع طلابي للطلبة المسلمين في شمال إفريقيا سمي بالطلبة المسلمين الأحرار في الجزائر وشارك عام 1947 في مؤتمر طلابي بغرونوبل الفرنسية حاول الفرنسيون إجهاضه، خاصة مع انضمام جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا إلى الاتحاد الدولي للطلبة، وبدء تبلور فكرة العمل المسلح لتحقيق حلم الاستقلال بعد أحداث 8 من مايو 1945 التي أبادت فيها باريس آلاف الجزائريين المطالبين بالاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية.
في فبراير 1955، دعت جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا الطلبة إلى الانضمام والمشاركة في تشكيل الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين الذي عقد مؤتمره التأسيسي بعدها في باريس وانتخب أحمد طالب الإبراهيمي رئيسًا له وهو نجل البشير الإبراهيمي أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
أحمد طالب الإبراهيمي أول رئيس لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين
خط هذا الاتحاد الوليد كان واضحًا منذ البداية وهو دعم جبهة التحرير الوطني المطالبة بالاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، لذلك لم ينتظر طويلاً ودعا إدارة الاستعمار مطلع سنة 1956 بالكف عن سفك دماء الجزائريين ووقف حملاته المتواصلة ضد الطلبة، وفي أشغال المؤتمر الثاني في مارس من العام نفسه أعلن الاتحاد موقفه الداعم للكفاح التحرري الذي تقوده جبهة التحرير الذي توج في 19 من مايو 1956 بإضراب الطلبة الشهير الذي دعا الجميع للالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني، وهو التاريخ الذي يحتفل به سنويًا في البلاد كيوم وطني للطالب.
الإضراب الطلابي 1956
لم يتم إيقاف هذا الإضراب إلا مع بدء السنة الجامعية 1957 – 1958، لكن مضايقات الاستعمار الفرنسي تواصلت ضد الطلبة بما أن معظمهم كانوا ممثلين لجبهة التحرير الوطني أو كتابًا في الصحف الثورية، ففي نوفمبر 1957 اُعتقل الأمين العام للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين محمد خميستي قبل أيام من انعقاد المؤتمر الثالث للاتحاد، وهو المؤتمر الذي طالب بالاستقلال والتفاوض مع جبهة التحرير الوطني بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الجزائري.
محمد خميستي أحد رواد الحركة الطلابية الجزائرية
لكن هذا الخطاب لم يعجب فرنسا الاستعمارية فقررت في 1958 حل الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين وتشميع مكاتبه ومصادرتها سواء في الجزائر أم في فرنسا، لكن ذلك لم يمنع الحركة الطلابية الجزائرية من مواصلة النضال خاصة أن بعض عناصرها كانوا ضمن قادة الحركة التحريرية الجزائرية.
انعكس انتهاج الجزائر النظام الاشتراكي مسارًا للحكم في البلاد على نشاط التنظيمات الطلابية
نضال ضد الأحادية
بعد استقلال الجزائر في 5 من يوليو 1962، صار هم أعضاء الحركة الطلابية الذين تحول أغلبهم إلى مسؤولين في الدولة الفتية هو كسب رهان التعليم في بلد بلغت فيه نسبة الأمية مستويات قياسية بعد 132 سنة من الاحتلال، إلا أن الخلافات والإيديولوجيات السياسية التي بدأت تظهر بين الحكام الجدد انعكست أيضًا على مسار الحركة الطلابية، فقد قرر المؤتمر الرابع للاتحاد العام للطلبة المسلمين المنعقد عام 1964 تحويل اسم التنظيم إلى الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين.
وعام بعد عام، بدأت تنعكس الخلافات الموجودة داخل هذا التنظيم الذي ارتبط بالمسيرة التحريرية للبلاد، فبعد الانقلاب الذي قاده هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة، رفض الاتحاد تزكية هذه الخطوة التي سميت وقتها “التصحيح الثوري”، وهو ما سرع في تجميد نشاطه عام 1967، وحله في 1972، ثم دمجه في المنظمة الطلابية الجديدة للسلطة الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية.
وانعكس انتهاج الجزائر النظام الاشتراكي مسارًا للحكم في البلاد على نشاط التنظيمات الطلابية، حيث كان يمنع التعدد التنظيمي للطلاب؛ مما فتح المجال للنشاط السري لمختلف التيارات الفكرية الرافضة للاشتراكية، وأصبحت الجامعة الفضاء الأنسب لزرع الأفكار الرافضة لواقع الأحادية.
شكلت الجامعة الجزائرية عبر الحركة الطلابية والأساتذة التيار الإسلامي في الجزائر، فقد كان رواده مثل أعضاء “الفيس” المحل أو حركة مجتمع السلم إما أساتذة أو طلاب كعباسي مدني ومحفوظ نحناح وعبد الله جاب الله وأبو جرة سلطاني وعبد الرزاق مقري وغيرهم، والأمر ينطبق أيضًا على باقي التيارات وروادها كلويزة حنون وخليدة تومي وسعيد سعدي، فالجامعة الجزائرية كانت مقرًا لمختلف التيارات من إسلاميين وشيوعيين واشتراكيين وليبراليين.
كما كانت الجامعة فضاءً للمطالبة بتعزيز اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية، فالربيع البربري الذي يحيي ذكراه كل عام في 20 من أبريل انطلق بعد منع محاضرة عن الشعر الأمازيغي في 1980، كما شكلت الجامعة فضاءً لاحتجاجات الحركة النسوية التي رفضت في 1984 قانون الأسرة.
سيطرت التنظيمات الطلابية التابعة للأحزاب الإسلامية على إدارة مساجد الجامعات ومكتبات الإقامات الجامعية، في حين اهتمت التنظيمات الأخرى بالنشاط الرياضي وتنشيط الحفلات الفنية
الطلبة في زمن التعددية
بعد أن أقرت البلاد التعددية السياسية في البلاد مع مطلع التسعينيات، انعكس ذلك أيضًا على إمكانية تعدد التنظيمات الطلابية، لكن ارتبطت هذه التنظيمات في الغالب بأحزاب سياسية، فكان لحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية والاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين والتحالف الوطني الطلابي، وأسست حركة مجتمع السلم المحسوبة على التيار الإخواني الاتحاد العام الطلابي الحر، وأنشأت حركة النهضة الرابطة الوطنية للطلبة الجزائريين.
وسعى كل حزب لأن يكون له عين في الجامعة من خلال الحركة الطلابية التي كان وجودها بارزًا ومؤثرًا في مرحلة التسعينيات سواء بدعم أو رفض مختلف القضايا التي تهم الجامعة أو الجزائر أو حتى القضايا ذات البُعد العربي الإسلامي كالقضية الفلسطينية.
سيطرت التنظيمات الطلابية التابعة للأحزاب الإسلامية على إدارة مساجد الجامعات ومكتبات الإقامات الجامعية، في حين اهتمت التنظيمات الأخرى بالنشاط الرياضي وتنشيط الحفلات الفنية، وتظل حتى اليوم ولو بدرجة أقل الإقامات الجامعية منبرًا للصراع بين التنظيمات الطلابية لكسب أكبر نفوذ داخلها.
ظل للحركة الطلابية تأثير ووجود فعال في الجامعة في التسعينيات وبداية القرن الجديد، إلا أن ذلك بدأ يأفل بعد الانتخابات الرئاسية عام 2004 حينما قرر جناح من الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية بقيادة عبد العزيز بلعيد دعم المرشح علي بن فليس ضد الرئيس بوتفليقة، حيث عملت السلطة بعد ذلك على احتواء التنظيمات الطلابية، وبدأ يظهر على رأس هذه التنظيمات مسؤولون يبحثون في غالب الأحيان عن تحقيق مصالح شخصية على حساب حقوق الطلبة ومصلحة الجامعة، وانحسرت انشغالات الحركة الطلابية بعدها في أشياء تتوقف عند تحسين ظروف الإطعام والإيواء والنقل والمنحة الجامعية، وأهملت القضايا الأساسية كتحسين مستوى التعليم.
شكلت السنة الجامعية الحاليّة استثناءً في النشاط الجامعي الجزائري المسجل في السنوات الأخيرة، بعد أن استطاع الأطباء المقيمون إعادة بوصلة الحراك الطلابي إلى سكته الصحيحة، والمتمثل في المطالبة بحقوق الطلبة وتحسين مستوى التعليم
فشلت الحركة الطلابية في ثني الحكومة عن تطبيق النظام الجديد “آل آم دي” رغم الانتقادات العديدة الذي وجهت له، وبدا واضحًا تراجع شعبية التنظيمات الطلابية من خلال تقلص الملتحقين بالاحتجاجات التي تنظمها بعد أن أصبحت هذه المنظمات متهمة بالمتاجرة بقضايا الطلبة لتحقيق مصالح ضيقة.
ويدلل البعض على ذلك بظفر العديد من رؤساء التنظيمات الطلابية بمسابقات الماجستير والدكتوراة ومناصب في الوزارات، وخروج الاتحاد العام الطلابي الحر من عباءة حركة مجتمع السلم والتحاقه بحزب تجمع أمل الجزائر بعد أن قررت الأولى مغادرة التحالف الرئاسي، وظهور الثاني كلاعب أساسي في الائتلاف الحكومي.
عودة جديدة
شكلت السنة الجامعية الحاليّة استثناءً في النشاط الجامعي الجزائري المسجل في السنوات الأخيرة، بعد أن استطاع الأطباء المقيمون إعادة بوصلة الحراك الطلابي إلى سكته الصحيحة، والمتمثل في المطالبة بحقوق الطلبة وتحسين مستوى التعليم، فقد رفض الأطباء المقيمون وقف إضرابهم المفتوح الذي بدؤوه منذ أشهر، إلا في حالة استجابة الحكومة لمطالبهم.
إضراب الأطباء
تدعو تنسيقية الأطباء المقيمين الحكومة إلى الالتزام بما تم الاتفاق عليه بعد مسيرة 2011 وعلى رأسها مراجعة مدة الخدمة المدنية وتسهيلات للإعفاء من الخدمة العسكرية وتوفير مخابر للأطباء البيولوجيين وضمان مناصب عمل بعد التخرج.
ورغم جلسات المشاورات العديدة التي جمعت الأطباء المقيمين بالوزارة إلا أن حل هذه القضية يبقى مؤجلاً، وهو ما جعل عدة أطباء يعلنون سنة جامعية بيضاء هذا العام.
لعل المتابع لمسار الحركة الطلابية في الجزائر يستنتج أن قوتها تستمد من عدم حصرها في شخص معين أو تنظيم محدد
لم تقتصر عودة الحركة الطلابية على مجال الطب، فقد شن طلبة المدارس العليا للأساتذة هم أيضًا إضرابًا مفتوحًا احتجاجًا على سياسة التوظيف التي بدأت وزيرة التربية نورية بن غبريت تعتمدها تجاه خريجي هذه المدارس، كما مكنت هذا العام احتجاجات طلبة اللغة الأمازيغية من جعل الحكومة تتخذ إجراءات جديدة لترقية تعميم وتدريس هذه اللغة التي تكون الهوية الجزائرية بمقتضى نصوص البلاد.
عبد الرحمن طالب شهيد المقصلة
ولعل المتابع لمسار الحركة الطلابية في الجزائر يستنتج أن قوتها تستمد من عدم حصرها في شخص معين أو تنظيم محدد، رغم وجود مناضلين بارزين كعمارة رشيد وفرحات عباس ومحمد خميستي وأحمد طالب الإبراهيمي وعبد الرحمن طالب الذي أعدمه الاستعمار بالمقصلة وغيرهم ممن لهم بصمة خاصة خلال مرحلة التحرير، وعبد الحفيظ سعيد عضو الاتحاد العام الطلابي الحر الذي اغتالته أيادي الإرهاب في 1995، وكان له دور بارز في الدفاع عن قضايا التعريب في المنظومة الجامعية والتربوية والدعوة للمصالحة الوطنية، وفق ما يقول رفقاؤه في النضال.
عبد الحفيظ سعيد اغتالته أيادي الإرهاب عام 1995