ترجمة وتحرير: نون بوست
القاهرة تؤوي الآن عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين فروا من الحرب في غزة، مع قلة فرص العمل، وتناقص المدخرات، وعدم وجود طريقة لإدخال أطفالهم في المدارس العامة المحلية.
في غزة، كان الفلسطينيون يمتلكون أشجار الزيتون، وحدائق الزهور، والمصانع، والمتاجر، والمنازل التي بنوها ورعوها لعقود. وكانوا يحتفظون بذكرياتهم في الصور العائلية، في التذكارات الصغيرة، وفي الشالات المطرزة. وكانوا يملكون سيارات لقيادتها، وصفوفًا دراسية يحضرونها، والشاطئ على بعد دقائق.
الآن، في العاصمة المصرية القاهرة، حيث فر عشرات الآلاف من الفلسطينيين، يجدون أنفسهم في شقق مستأجرة من الخرسانة، ولديهم فرص عمل قليلة، ومدخرات متناقصة، ولا مدارس للأطفال؛ عالم جديد يعرفون أنه آمن، ولكنه بالكاد يشعرهم بالمستقبل.
بدون وضع قانوني في مصر أو وضوح بشأن متى قد تعود غزة لتقديم لمحة من الحياة الطبيعية، فإن معظمهم عالقون: غير قادرين على بناء حياة، أو تجربة حظهم في بلد ثالث، أو التخطيط للعودة إلى وطنهم. جسديًا، الفلسطينيون في مصر، وعقليًا، يتمسكون بذاكرة غزة التي لم تعد موجودة.
قالت نهلة الباشتي، البالغة من العمر 60 عامًا، والتي وصلت إلى مصر مع عائلتها من غزة في كانون الأول/ديسمبر: “لدينا هذا الشعور بأن هذه مجرد فترة مؤقتة في حياتنا”؛ حيث بدأت – يائسة للحصول على دخل – مؤخرًا ببيع دبس الرمان وأطعمة فلسطينية أخرى من مطبخها المستأجر الصغير، وتفتقد في كل لحظة أشجار الفاكهة في حديقتها القديمة، ونقول: “نريد حياتنا الحقيقية مرة أخرى، أشعر بالاختناق”.
ولكن مدى كون هذه الفترة مؤقتة يبقى سؤالًا مفتوحًا. بالنسبة للغزيين، تعد مصر أرضًا غير مستقرة، فهي بلد يعلن دعمه للقضية الفلسطينية ويدين الحرب في غزة، ولكن خوفه من حماس دفعه، إلى جانب “إسرائيل”، إلى فرض حصار على المنطقة الفقيرة لمدة 17 عامًا.
وعلى الرغم من أن مصر كانت ممرًا حيويًا للمساعدات الإنسانية إلى غزة خلال الحرب، فإن المسؤولين يعارضون بشدة السماح بدخول أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، محذرين من أنهم قد يهددون الأمن القومي وأن إفراغ غزة من سكانها سيقوض احتمالات قيام دولة فلسطينية مستقبلية.
ومع ذلك، قال السفير الفلسطيني في القاهرة إن ما يصل إلى 100,000 غزي تمكنوا من العبور، سواء من خلال الاتصالات، أو بدفع مبالغ للوكلاء غير الرسميين، أو كواحد من الجرحى أو المرضى الذين يعانون من حالات خطيرة التي تكفلت الحكومة المصرية بعلاجهم.
وعندما عبرت هي وعائلتها الحدود؛ قالت شيرين صباح، البالغة من العمر 25 عامًا، وهي مترجمة من مدينة غزة، إنها شعرت بالمرض لتركها غزة، فق كانوا على وشك أن يصبحوا بلا مأوى، بلا أصدقاء، وبلا عمل.
وأضافت السيدة صباح: “إنه مثل أن يتم أكلك من الداخل”؛ حيث دفعت عائلتها للهروب من غزة باستخدام تبرعات خاصة.
لقد دُمر المنزل الذي نشأت فيه السيدة صباح وأخواتها، وكذلك بساتين الزيتون والحمضيات المحيطة به. كما تم تدمير عمل صهرها، وهو ورشة لإصلاح السيارات، حسبما قالت، وقد نفدت مدخراتهم تقريبًا. ولا يزال والداهم وأشقاءهم الآخرون يتجنبون القنابل في غزة.
وقالت أختها فاطمة شعبان، البالغة من العمر 31 عامًا: “ليس لديك مستقبل، ولا ماضٍ، ولا شيء”.
كل شيء في مصر كان يبدو غريبًا.
قضى الفلسطينيون وقتًا طويلاً بدون لحم أو فواكه أو خضروات، بدون كهرباء، بدون استحمام، وكانت وفرة مصر وأمانها صدمة لهم لكنهم لم يتمكنوا من نسيان أن عائلاتهم في غزة لم يكن لديها أي من ذلك.
وقال حسام البطنيجي، البالغ من العمر 28 عامًا، وهو مهندس معماري فر من غزة إلى القاهرة مع عائلته: “لم نكن قادرين على فهم الحرب التي مررنا بها، حيث كان همنا الوحيد هو العثور على الطعام والبقاء على قيد الحياة. ثم وجدنا أنفسنا في عالم آخر حيث يعيش الناس حياة طبيعية. وسألنا، لماذا لا يمكننا أن نعيش حياة طبيعية أيضًا؟”.
يتجلى اضطراب الفلسطينيين العاطفي في حالتهم القانونية غير المستقرة في مصر.
بمجرد انتهاء صلاحية تأشيرة السياحة لمدة 45 يومًا التي يحصل عليها معظم الوافدين، لا يمكن للفلسطينيين الحصول على الأوراق اللازمة للإقامة لفتح حسابات بنكية وأعمال تجارية، أو التقدم للحصول على تأشيرات إلى دول أخرى، أو تسجيل أطفالهم في المدارس العامة المصرية.
ولا يمكنهم أيضًا التسجيل رسميًا لدى وكالة الأمم المتحدة التي تساعد اللاجئين في مصر من سوريا والسودان وغيرها. وقالت رولا أمين، المتحدثة باسم الوكالة، إن مصر لم تمنح موافقتها على أن تتولى الوكالة شؤون الفلسطينيين.
وتفتقر وكالة الأمم المتحدة التي تدعم الفلسطينيين إلى التفويض القانوني للعمل في مصر. ومنذ بداية الحرب الحالية، لم تقبل أي دول أعدادًا كبيرة من الفلسطينيين لإعادة التوطين أو اللجوء بشكل دائم. وتخشى الدول العربية أن تحاول “إسرائيل” تحويل نفي الغزيين إلى طرد دائم، مما يخلق تعقيدات سياسية وأمنية ويهدد مستقبل الدولة الفلسطينية.
ولأسباب مماثلة، تقول الدول الغربية علنًا إن الغزيين يجب أن يكونوا قادرين على البقاء في غزة، ويمكن أن يجعل الشعور المعادي للهجرة في الداخل من الصعب استقبال أعداد كبيرة.
في حالة مصر، تشعر الحكومة بالقلق من أن الغزيين الذين نزحوا إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، التي تحد غزة و”إسرائيل”، قد يتطرفون، فهناك خوف قد ينضمون إلى الجماعات المسلحة الموجودة في سيناء التي أزعجت مصر لسنوات أو يشنون هجمات على “إسرائيل” من الأراضي المصرية.
وفي القاهرة؛ يقول الفلسطينيون إنهم يشعرون بالرهبة من التنقلات الطويلة عبر المدينة الضخمة ويشعرون بأن الغرف المستأجرة صغيرة جدًا مقارنة بمنازلهم؛ حيث غادروا تلك المنازل معتقدين أنهم سيعودون قريبًا. والآن يملكون القليل من الملابس والهواتف التي يتحققون منها بشكل شبه مستمر للتأكد من أن عائلاتهم في غزة لا تزال على قيد الحياة.
وظلت السيدة الباشتي تراقب صور حيها القديم على الأخبار بقلق، متسائلة: هل لا يزال خزان الماء موجودًا؟ إذاً يجب أن يكون المنزل بخير، كانت تخبر نفسها باستمرار، حتى أرسل لها الأقارب صورة لتل من الأنقاض الذي أصبح عليه.
وقالت: “عندما أشتري شيئًا هنا، أقول، ‘سأستخدمه في حديقتي’، ثم أتذكر؛ لم نعد نملك حديقة بعد الآن”.
تتضخم الخسائر من هناك. وفقًا لأفراد العائلة، قُتل العشرات من أقارب عائلة البطنيجي في الحرب؛ حيث تركوا وراءهم مصنعًا للمجوهرات ومتجرًا ومنازل متعددة الأجيال التي قضى والد السيد البطنيجي ربع قرن في بنائها.
وفي مصر؛ ليس لدى والده رأس مال لفتح مصنع ولا رغبة في البدء من جديد، حسبما قال السيد البطنيجي. لذا يحاولون كسب لقمة العيش بطرق مختلفة، حيث يبيع شقيقه الملابس المستعملة، ويعمل السيد البطنيجي كمستقل عبر الإنترنت لشركات الهندسة المعمارية.
ومن خلال المتطوعين المصريين، حصلت السيدة فاطمة شعبان على عرض من شركة مصرية، لكنها استقالت بعد أول رحلة حافلة والتي كانت مربكة لها، فقد استغرقت ساعتين ونصف، وكانت المسافة بعيدة جدًا، وأطفالها المصابون بالصدمات النفسية يحتاجونها في المنزل، كما قالت.
ووجد غريب آخر لها عملًا في ترجمة الفيديوهات لأبحاث أحد الأساتذة، بينما تعمل شقيقتها السيدة صباح عن بعد في الترجمة لوكالة الهجرة الكندية. لكن شقيقتها الثالثة، علا، المصورة، لم تتمكن من العثور على عمل.
ومن المقرر أن يبدأ أطفال السيدة فاطمة شعبان، الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و10 سنوات، دروسًا عبر الإنترنت مع مدرسة في الضفة الغربية، لكن مع الحاجة إلى الكمبيوتر المحمول الوحيد للعائلة لوظائف البالغين، سيتعين على الأطفال اللحاق بثمانية أشهر من التعليم المفقود باستخدام هواتف والديهم.
وبإدراكهم مدى قلق الآباء على تعليم أطفالهم، فتح المتطوعون المصريون مؤخرًا مركزًا تعليميًا في القاهرة لحوالي 350 طفلًا فروا من غزة خلال الحرب. وأدركت مؤسِّسة المركز، إسراء علي، في وقت مبكر أنهم بحاجة إلى تصميم الفصول الدراسية مع مراعاة الصدمات، وإبقاء المعالجين النفسيين على مقربة.
وقالت السيدة إسراء علي إن فتاة صغيرة انهارت أثناء رسم عائلتها، فمعظمهم ميتون أو مفقودون. ويقفز أطفال آخرون من مقاعدهم في منتصف الفصل، محاصرين بالحاجة إلى التأكد من سلامة أشقائهم.
وقالت السيدة إسراء، علي: “في لحظة واحدة، يمكن أن يتسبب أي شيء في إثارة مشاعرهم، فلن تفهم أبدًا أنك في نفس الغرفة مع طفل تم سحبه من تحت الأنقاض وفي هذه العملية، فقد ثلاثة من أشقائه ووالديه”.
إن الأموال شحيحة، والسيدة فاطمة شعبان وزوجها مشغولان بالتفكير في غزة، مما يمنعهما من تلبية طلبات الأطفال للخروج. فعندما أخذتهم إلى السينما مرة واحدة، قالت إنهم اختبأوا تحت مقاعدهم بمجرد بدء العروض الترويجية التي أصدرت أصواتًا عالية. ةفي تلك اللحظة، تجمدت أنفاسها.
يُناقش الفلسطينيون في مصر دائمًا ما إذا كانوا سيبقون أو سيعودون. وإذا عادوا، هل ستكون هناك مدارس؟ أو ماء، أو صرف صحي، أو كهرباء؟
فاطمة شعبان وعلا صباح أرادتا البحث عن الاستقرار في بلد آخر، ربما في الخليج، رغم أنهما لا تملكان طريقة للتقدم للحصول على تأشيرات، ولكنهما ما زالتا تأملان في العودة، يومًا ما.
وقالت السيدة فاطمة شعبان: “المشكلة ليست مع غزة؛ فأنت أحب غزة. المشكلة هي مستقبل أطفالي. كم من الوقت سيستغرق إعادة بناء غزة؟ سنوات، عقود، أشهر؟ لا تعرف”.
ولكن بالنسبة لشيرين صباح، كان الجواب واضحًا.
قالت: “هذا المكان، آمن، لكنه ليس منزلي. لأن المنزل بالنسبة لي هو غزة”.
المصدر: صحيفة ذا نيويورك تايمز