إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية جديدة بالقرب من مدينة منبج السورية، في وقت يدور الجدل فيه حول مصير القوات الأمريكية الموجودة في سوريا التي أعلن قبل أيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه بصدد سحبها نهائيًا قريبًا.
الخبر الجديد عن تعزيز الوجود الأمريكي في سوريا يناقض ما طرحه الرئيس الأمريكي بالأمس القريب عندما تحدث أنه يفكر بسحب القوات الأمريكية من سوريا بعد اقترابها من إتمام مهمة التخلص من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فهل دفع ابن سلمان كُلفةَ بقاء هذه القوات؟
التناقض سيد الموقف
ليست هذه المرة الأولى التي تعمل فيها الولايات المتحدة التي تدعم “وحدات حماية الشعب الكردية” بالسلاح ضمن إطار مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، على إقامة قواعد عسكرية خاصة بها في سوريا، إذ كشفت وسائل إعلام مواقع لـ10 قواعد أمريكية في الأراضي السورية.
لكن توقيت إنشاء قواعد عسكرية جديدة في منطقة العون الواقعة في الجهة الشمالية لمدينة منبج، يأتي بعد أيام من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عزمه سحب قواته في سوريا “في وقت قريب جدًا”.
يُضاف إلى ذلك تعزيز وجود القوات العسكرية الأمريكية في مدينة منبج والقرى المحيطة بها بإرسال، ما يُشككَ بصدقية هذه التصريحات التي أطلقها ترامب، ويشير إلى أن أموالاً سعودية حركت المياه الراكدة.
تصريحات ترامب حيرت الكثيرين في البنتاغون، إذ جاءت في نفس اليوم الذي قتل فيه جنديان، أحدهما أمريكي والثاني بريطاني، بانفجار في مدينة منبج السورية.
وذكرت شبكة “CNN” الأمريكية أن هذه الخطط خضعت للبحث لعدة أيام، بالتزامن مع زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لواشنطن، وهناك عقد الصفقات ودفع الأموال.
الولايات المتحدة تنشئ قاعدة عسكرية جديدة بالقرب من مدينة منبج السورية
ابن سلمان في جيب ترامب
بدأ اللغط بإعلان ترامب رغبته في سحب القوات الأمريكية من سوريا خلال خطاب في أوهايو؛ ليخرج ولي العهد السعودي بعد ساعات طالبًا من القوات الأمريكية ألا تنسحب من سوريا، وأنه يجب على الأمريكيين البقاء في سوريا على المدى المتوسط على الأقل.
رد ترامب على الطلب السعودي بعقلية رجل الأعمال، وأوضح بعد يومين من تصريحه الأول أن السعودية مهتمة جدًا ببقاء قوات بلاده هناك، لكنه يريد عودتهم إلى الوطن قريبًا، لكن “إذا كانت السعودية ترغب ببقائنا فيها فيجب عليها أن تدفع مقابل ذلك”.
اعتمد وليّ العهد السعودي في طلبه إلى حدٍّ كبير في ترتيب أوراقه على شخصية ترامب الميّالة إلى المال، وبدا أن ابن سلمان يسعى لإنهاء أزماته السياسية عبر صفقات مالية، وهو ما بدا جليًّا خلال جولته الأخيرة في مصر وبريطانيا وأمريكا وحاليًا في فرنسا.
منذ سيطرته على زمام الأمور العام الماضي، أصبح لجوء الأمير السعودي إلى البيت الأبيض أمراً لا مفرّ منه
ويبدو أن ترامب قد أغرته ثروات المملكة فتراجع عن قراره، إذ وافق في اجتماع لمجلس الأمن القومي على إبقاء القوات الأمريكية في سوريا لفترة أطول من أجل هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لكنه يريد سحبها في وقت قريب نسبيًا.
بعد التغير الكبير في الموقف السعودي تجاه الأزمة السورية، تكشفت حقيقة اعتماد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في حسم ملفات معقدة؛ عادة ما يقف خلفها النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، من خلال تقديم تنازلات في ملفات أخرى كمصير قضية فلسطين والثورة السورية، وربما الأزمة الخليجية.
فمنذ سيطرته على زمام الأمور العام الماضي، أصبح لجوء الأمير السعودي إلى البيت الأبيض أمرًا لا مفر منه، فهو يواجه حربًا ضروسًا في الداخل، ومن ثم فإن خصمه الإقليمي الشرس، إيران، قد يستغل هذا التمزّق الداخلي ليبدأ مواجهة مباشرة معه، أو ليزيد من مواجهته غير المباشرة الدائرة في اليمن.
كما أبدى ابن سلمان، موافقة كبيرة على “صفقة القرن” التي يسعى ترامب من خلالها لتصفية قضية فلسطين وتحويل القدس المحتلة إلى عاصمة يهودية، وقطع شوطًا كبيرًا في طريق التطبيع مع دولة الاحتلال، وأشواطًا أخرى في طريق إدخال بلاده عصر “الانفتاح”، ومع ذلك فإن ثمة مخاطر كبيرة تحيط بأحلامه في السلطة.
مَنْ سيدفع في النهاية؟
سبق لصحيفة واشنطن بوست أن ذكرت في مقالها الذي ترجمه “نون بوست” أن ترامب حدد قبل أيام المبلغ المطلوب من السعودية، وكشفت أن الرئيس الأمريكي طلب من ولي العهد السعودي 4 مليارات دولار للمساهمة في تسريع خروج القوات الأمريكية من سوريا.
وتوقعت الصحيفة أن يتم وضع اللمسات النهائية للاتفاق خلال زيارة ابن سلمان لواشنطن، بحيث تدفع السعودية المبلغ المطلوب، وإن كانت تعتقد أنه أكبر من اللازم، وهو ما تبيّنت إشاراته لاحقًا بعقد أولى الصفقات بأكثر من مليار دولار.
وكان البيت الأبيض قد طلب أموالاً من السعوديين وآخرين أيضًا، لإعادة بناء المناطق التي استرجعها في سوريا، بعد أن أمر ترامب بتجميد أكثر من 200 مليون دولار مخصصة لإعادة إعمار سوريا.
الرئيس ترامب لم يتوقف إلى الآن عن محاولاته لابتزاز السعودية ودول الخليج الأخرى
وللتقريب، عندما ساهمت الولايات المتحدة في طرد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من العراق في إطار التحالف الدولي، دفعت بغداد كلفة قيام الطائرات الأمريكية بالهجمات والغارات الجوية، وبحسب السفير الأمريكي في العراق، بلغت كُلفة الهجمات أكثر من 5 ملايين دولار يوميًا؛ مما يعني أن الدفع والتمويل مقابل بقاء القوات الأمريكية في سوريا استثمار جيد للجيش الأمريكي على صعيد التدريب والدخل.
يعلم ترامب جيدًا أهمية الملف السوري بالنسبة للسعودية، كونه أحد أبرز ساحات الصراع على النفوذ مع الغريم التقليدي إيران، كما يعلم أيضًا أن تحقيق الرياض لأهدافها داخل سوريا مرتبط بالوجود الأمريكي هناك، وحال انسحاب الأخير ستمنى المملكة بخسارة جديدة تضاف إلى سجلات هزائمها أمام طهران، خاصة أن جراحها في اليمن لم تلتئم بعد.
الرئيس ترامب لم يتوقف إلى الآن عن محاولاته لابتزاز السعودية ودول الخليج الأخرى، لأنه لا يجد حتى الآن غير التجاوب الكامل مع طلباته، وفي كل مرة يتحدث بثقة وكأنه يعلم من سيدفع في النهاية تعويضًا عما خسرته أمريكا، فقد أعلن أن بلاده أنفقت 70 مليار دولار في سوريا، و7 تريليونات دولار أُخرى في الشَّرق الأوسط على مدى السنوات الماضية.
ربما ليس جديدًا على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ممارسة “دبلوماسية الصفقات” التي يعقد فيها الصفقات السياسية بمنطق الصفقات المالية، ولكن الجديد أن يمارس تلك الدبلوماسية بنفسه وبشكل علني وواضح وصريح خلال لقائه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في البيت الأبيض بالعاصمة واشنطن.
في حال تمكّن النظام السوري من إخماد الثورة تمامًا، فإن إيران ستجد من الوقت ما تلتقط فيه أنفاسها وتعيد ترتيب أوراقها، في حين أن السعوديين غارقون في مستنقع اليمن حتى أنوفهم
بمنطق تلك الدبلوماسية جاءت المباحثات بين الجانبين أشبه بمقايضة، فرضت فيها المملكة الملفات السياسية لأجندة المباحثات، بحسب أولوياتها، وفي المقابل طالب ترامب بضرورة زيادة الصفقات المليارية وتوفير الملايين من الوظائف للأمريكيين، هذا إلى جانب بعض القضايا التي تحتمها الموازنات والتوازنات في ضوء المستجدات الإقليمية والدولية.
وتشير المعطيات أن السعودية توجب عليها الدفع هذه المرة، لأن ما يدور في سوريا التي أوشك نظام الأسد على استعادة السيطرة السياسية والعسكرية عليها بدعم من الروس والإيرانيين؛ مما يعني أن طهران – خصم السعودية الإقليمي – على وشك تعزيز وجودها العسكري والسياسي بالقرب من الرياض.
وفي حال تمكّن النظام السوري من إخماد الثورة تمامًا، فإن إيران ستجد من الوقت ما تلتقط فيه أنفاسها وتعيد ترتيب أوراقها، في حين أن السعوديين غارقون في مستنقع اليمن حتى أنوفهم، الأمر الذي يعزّز احتمالية أن يسعى ابن سلمان لإخراج نفسه من مأزق اليمن ويأمن مخاطر الوجود الإيراني في دمشق على حساب السوريين، ومن قبلهم الفلسطينيين.