أثارت محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، حسب وصف مكتب التحقيقات الفيدرالي، الكثير من الجدل بشأن منفذها ودوافعها، في وقت يحتدم فيه السجال والتلاسن مع الرئيس الديمقراطي جو بايدن، وتختلط فيه الكثير من الملفات عن هوية من يمثل القطبين الحزبين في الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
تعرض ترامب مساء أمس السبت خلال تجمع انتخابي في ولاية بنسلفانيا، لإطلاق أعيرة نارية من شخص مجهول أسفرت عن إصابته في الأذن، فيما حيّد ضباط جهاز الخدمة السرية، المكلفون بحماية الرئيس السابق، منفذ العملية، الذي كشف مكتب التحقيقات عن هويته ويدعى توماس ماثيو كروكس، ويبلغ من العمر 20 عامًا.
تفاصيل الحادث وما به من غموض وتساؤلات عدة كانت محل نقاش كبير داخل الأوساط السياسية والأمنية، ورغم نجاة ترامب وخروجه من المستشفى الذي نُقل إليها عقب الواقعة، فمن المتوقع أن تُلقي واقعة كتلك في هذا التوقيت الحساس بظلالها على المشهد السياسي، وربما تلعب دورًا محوريًا في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
دراما الاغتيال
كان ترامب يلقي كلمة له أمام تجمع جماهيري في الهواء الطلق في بتلر بولاية بنسلفيانيا، وهو التجمع الذي يأتي قبل يوم واحد فقط من انطلاق المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري لعام 2024 المقرر عقده خلال الفترة من 15 إلى 18 يوليو/تموز الحالي، في مدينة ميلووكي بولاية ويسكونسن، والذي سيشهد اعتماد الحزب ترشيح دونالد ترمب رسميًا للسباق الانتخابي.
وبعد 6 دقائق فقط من انطلاق كلمة ترامب بدأ سماع وابل من الطلقات النارية، وفجأة أمسك الرئيس السابق بأذنه اليمنى ونظر إلى الدم على يديه ثم سقط سريعًا على الأرض خلف المنصة التي كان يقف عليها، ليهرع إليه على الفور 6 من ضباط الخدمة السرية والتفوا حوله وأجلسوه على ركبتيه، فيما عمت الفوضى المكان بأكمله.
وبينما كان ترامب على ركبتيه ومحاطًا بضباط الخدمة السرية، إذ بوابل ثان من الطلقات النارية في الهواء، ليبقى الرئيس على الأرض لمدة قاربت 25 ثانية، قبل أن يتوقف الرصاص ويُعلن عن تحييد منفذ العملية، كما قال شهود عيان.
بعدها رفع الضباط ترامب وقد بدت عليه علامات الذهول، إذ سقطت قبعة البيسبول الحمراء التي كان يرتديها، ليظهر بشعره الأشعث والدماء التي لطخت أذنه وأجزاء من الوجه، طالبًا من حراسه إحضار حذائه الذي خُلع جراء الهرولة والارتباك، وما إن ارتدى حذاءه وأقامه حراسه حتى وقف ولوّح بقبضة يده وهو يردد “قاتلوا”، فيما رفع الحاضرون هتاف “الولايات المتحدة، الولايات المتحدة”، ثم نُقل إلى سيارة سوداء كانت قريبة من المكان، وواصل رفع قبضته وسط المزيد من الهتافات ومنها إلى مستشفى قريب لتلقي العلاج.
وكشف مكتب التحقيقات الفيدرالي في بيان له صباح اليوم هوية منفذ العملية، توماس ماثيوكروكس (20 عامًا) ينتمي إلى عائلة ثرية وذات أغلبية بيضاء من بيثيل بارك بولاية بنسلفانيا، وكان يرتدي زيًا مموهًا رماديًا، وأنه كان مستلقيًا على سطح مبنى شركة “AGR International Inc” (عبارة عن مصنع يقع شمال أرض معرض “Butler Farm Show” حيث أقيم تجمع ترامب) وهذا هو المكان الذي استهدف منه الرئيس السابق ويبعد عن المنصة التي يقف عليها بنحو 150 مترًا فقط، فيما أكد المدعي العام لمقاطعة بتلر في بنسلفانيا، ريتشارد غولدنغر، أن المشتبه به في إطلاق النار “كان خارج المكان الذي أقيم فيه التجمع الانتخابي في الهواء الطلق” حسبما قال لشبكة “سي إن إن” الأمريكية.
علامات استفهام
حملت تفاصيل الحادث عددًا من علامات الاستفهام أطلت برأسها باحثة عن إجابة، إذ تفك تلك الإجابات الكثير من الطلاسم والغموض الذي يحيط بالواقعة التي يتوقع أنها لن تمر مرور الكرام:
أولًا: كشف مكتب التحقيقات الفيدرالي أن منذ العملية كان منتسبًا في السابق للحزب الجمهوري الذي من المحتمل أن يمثله ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وكان أحد أعضائه في بيثيل ببنسلفانيا المتأرجحة بطبيعة الحال بين الديمقراطيين والجمهوريين.
ثانيًا: بحسب شهود العيان الذي نقلت عنهم شبكة “بي بي سي” البريطانية فإن منفذ العملية كان يزحف أعلى سطح المبنى الذي أطلق من فوقه الرصاص باتجاه ترامب، حاملًا بندقية بيديه، وكان مرئيًا للجميع، وهو ما دفع أحدهم إلى إبلاغ عناصر الشرطة الموجودة لتأمين المكان، لكن دون أن يستجيب الضباط، فيما تساءل أحدهم: “فكرت في نفسي، لماذا لا يزال ترامب يتحدث؟ لماذا لم يسحبوه من على المسرح؟ والشيء التالي الذي حصل، هو أن خمس طلقات أطلقت”.
تلك الشهادة تثير الكثير من الأسئلة الجادة بحسب كبير محللي القانون والاستخبارات في شبكة “سي إن إن ” الأمريكية الذي أضاف “سيكون هناك فحص مفصل للغاية ومؤلم حول من كان يعرف ماذا، وكيف تم توصيل ذلك، ومن قرر اتخاذ أي إجراء أو عدم اتخاذ أي إجراء”.
ثالثًا: وفق ما ذكرت وكالة “أسوشيتد برس”، فإن السطح الذي كان يرقد عليه منفذ العملية على بعد أقل من 150 مترًا من المكان الذي كان يتحدث فيه ترامب، وهي مسافة قصيرة جدًا ويمكن لأي قناص متوسط المستوى أن يصيب هدفًا بحجم الإنسان.
هذا بخلاف أن البندقية المستخدمة في العملية من طراز “AR-15” والتي تحمل صفات البندقية العسكرية (M-16) التي يستخدمها المجندون في الجيش الأمريكي ويمكن من خلالها إصابة صورة بحجم الإنسان من على تلك المسافة، الأمر الذي يدفع للتساؤل: هل أراد منذ العملية قتل ترامب فعلًا، في ضوء إمكانية ذلك بحسب نوعية السلاح المستخدم والمسافة بينه وبين المنصة، أم كان الهدف إصابته فقط؟
بايدن في مرمى الاتهام
لا شك أن حادثة كتلك ستوجه أصابع الاتهام فيها ابتداء إلى الديمقراطيين وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، في ضوء السجال المتبادل بينه وبين ترامب والذي بلغ ذروته خلال المناظرة التي جمعت بينهما الشهر الماضي وما حملته من هجوم متبادل وتنابذ بالاتهامات والتهديدات.
الجمهوريون اعتبروا أن ما حدث بالأمس هو نتيجة منطقية لما أسموه “البيئة السامة” التي خلقها بايدن بهجومه المستمر على ترامب، مستندين إلى التهديد الصريح الذي وجهه إليه خلال لقائه بالمانحين في 8 يوليو/تموز الجاري حين قال: “حان الوقت لوضع ترامب في مركز الهدف”.
في السياق ذاته يرى السيناتور الجمهوري جي دي فانس، أحد المرشحين المحتملين على البطاقة الانتخابية لترامب، أن محاولة الاغتيال التي تعرض لها ترامب لا يمكن اعتبارها حدثًا منعزلًا، مضيفًا “العنف السياسي بجميع أشكاله غير أمريكي وغير مقبول، وهناك أسئلة كثيرة والأمريكيون يطالبون بإجابات، والفرضيّة الأساسية لحملة بايدن هي أن الرئيس ترامب فاشي استبدادي يجب إيقافه بأي ثمن، وقد أدى هذا الخطاب مباشرة إلى محاولة اغتيال الرئيس ترامب”.
ترامب الرابح الوحيد
في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1954، وخلال إلقاء الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر (كان رئيسًا للوزراء حينها) خطابًا في منطقة المنشية بالإسكندرية (شمال مصر)، فوجئ الجميع بشخص يدعى محمود عبد اللطيف يطلق 8 رصاصات باتجاه عبد الناصر الذي لم يصب حينها، فيما تعرض بعض الحضور لإصابات طفيفة.
حينها وقف عبد الناصر وألقى كلمات حماسية في الحاضرين قال فيها: “أيها الرجال فليبق كلٌ في مكانه، حياتي فداء لمصر، دمي فداء لمصر، أيها الرجال، أيها الأحرار”، ليخرج بعدها محمولًا على الأعناق بعدما اهتزت القاعة هتافًا باسمه وفداءً له.
أثارت تلك الواقعة آنذاك جدلًا كبيرًا داخل الوسط المصري، وبعد سنوات اعترف مقربون من عبد الناصر أن الحادثة كانت مدبرة لتثبيت وجود مجلس قيادة الثورة في الحكم، وإحراج المطالبين بالديمقراطية وقطع الطريق على كل من يفكر في المطالبة بإلغاء الحكم العسكري بعد ثورة يوليو/تموز 1952.
ليس مقصودًا من هذا الاستدعاء الرضوخ لنظرية المؤامرة والبحث عن تشابه محتمل بين حادثة المنشية في مصر 1954 وحادثة بنسلفانيا 2024، رغم ردود الفعل المتقاربة بين عبد الناصر وترامب، فالأول ألقى كلمات انفعالية حماسية لكسب دعم الموجودين والثاني لوح بقبضة يده وطالب أنصاره بالقتال قائلًا “أمريكا أمريكا”، غير أن توظيف المشهد لخدمة أهداف سياسية ربما يكون السمة الأكثر تطابقًا بين الحدثين.
وقوع هذا الحادث قبل يوم واحد فقط من انطلاق المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك ترشيح ترامب رسميًا ممثلًا للجمهوريين في الماراثون الانتخابي، هذا بجانب ارتكاز الحزب خلال أيام المؤتمر الثلاث على تلك الواقعة ومحاولة توظيفها لتشويه صورة الديمقراطيين لدى الشارع الأمريكي.
وسيعتمد الجمهوريون بطبيعة الحال على تصريحات بايدن غير المسؤولة باتجاه ترامب، كونها الأرضية التي بُنيت عليها تلك العملية، – هكذا يقولون – وهي الاستراتيجية التي ستعزز يقينًا فرص الحزب الجمهوري وحظوظ ترامب في مواجهة الديمقراطيين الذين لم يستقروا بعد على مرشحهم الذي يفترض أن يخوض الانتخابات القادمة في ظل الانقسام حول قدرة بايدن على حسم تلك المعركة التي ازدادت صعوبة بعد تلك الواقعة.
وفي الأخير فإنه من السابق لأوانه الجزم بدوافع محاولة الاغتيال التي تعرض لها ترامب في ظل ما يُقال بشأن استمرار التحقيقات لعدة أشهر، فالمخفي أكثر من المعلن، لكن ما حدث سيكون له ما بعده، وقد يزيد الأوراق تعقيدًا داخل الحزب الديمقراطي فيما لن يدخر الجمهوريون جهدًا ولا وقتًا لتوظيف ما حدث لحسم المعركة الانتخابية مبكرًا.