لكن ما نلاحظه مؤخرًا، أن الجميع تقريبًا أصبح يحن إلى الجنيه الذي كان قبل نحو عامين ونصف فقط، ويتحدثون عن قدرته الشرائية مقارنة بالحالي، كأن ذلك حدث قبل عشرات السنين، فالنسبة الضخمة لانخفاض العملة، والوتيرة المتسارعة التي جرى بها الأمر خلال الأزمة الاقتصادية الحالية، كانت صادمة لدرجة أنه ما زال من الصعب استيعابها والتكيف معها.
بشكل عام يمتلك كل شعب مخيلة عن أمس الذي كان أفضل بالنسبة لحال وأداء عملته، حتى الشعب الأمريكي نفسه و”دولاره” الذي يحكم العالم، لكن الفارق بين الأمس واليوم في حال العملات، يصبح في بعض البلدان والعملات فعلًا فارقًا ما بين زمن عريق المجد، وحاضر شديد البؤس.
كان الجنيه المصري منذ سكه للمرة الأولى عملة قوية، وإن لم تكن أوضاع الشعب المصري كذلك خلال عهد الخديوي، لكن هذا لا يمنع أن الشعب المصري اليوم يمتلك حنينًا إلى ذلك العصر الذي كان فيه الجنيه قادرًا على فعل الكثير من الأشياء وكأنه عصا موسى، حتى إن الأجداد أطلقوا عليه لقبًا يرمز إلى القوة هو “الجنيه الجبس”، ولكن عقودًا من الحروب أولًا، ثم الانهيار الاقتصادي، كانت كفيلة بأن يتحول ذلك الجنيه إلى مجرد “علكة” يعطيها لك البائع حين تتبقى لك بضعة جنيهات.
جنيه الأمس
لكي نفهم “جنيه” اليوم، علينا أن نعود قليلًا للوراء. كان لمحمد علي باشا والي مصر (1805-1845) حلم بالاستقلال عن الدولة العثمانية وتأسيس دولته الخاصة، استتبع ذلك أن يخوض حروبًا من أجل الاستقلال عن الباب العالي، وفي إطار تلك الدولة المستقلة التي أسسها محمد علي، جاء تأسيس عملتها، وهنا تبدأ قصة “الجنيه الذهبي” في أعقاب الحرب بين محمد علي والدولة العثمانية.
سك “الباشا” جنيه الذهب وكان مقداره 8 جرامات ونصف جرام من الذهب عام 1836، ليحل بديلًا عن “القرش العثماني” كعملة رسمية للدولة المصرية بقيمة 1\100، لكن ذلك لم يمنع القرش العثماني من أن يستمر في أداء دوره داخل دورة الاقتصاد، إذ يمكن للدولة أن تكون غنية ذات عملة قوية وهذا لا يعني بالضرورة أن الشعب كذلك، لذلك استمر القرش العثماني بلعب دوره في الاقتصاد اليومي لحياة المصريين.
ظل الجنيه الذهبي سائدًا قبل أن يتحول إلى عملة ورقية “بنك نوت” عام 1898، حين بدأ البنك الأهلي المصري في طرح العملة الجديدة التي تساوي 7.48 جرام من الذهب، ونظرًا لتلك القيمة الكبيرة للعملة قسمت إلى فئات أصغر مثل “القرش” و”المليم” وظل لهما حضور في الذاكرة حتى اليوم.
وبعد إعلان بريطانيا الحماية على مصر، في أعقاب نشوب الحرب العالمية الأولى، ربطت بريطانيا العملة المصرية بالجنيه الإسترليني، وصدّر البنك الأهلي الغطاء النقدي من الذهب إلى إنجلترا كجزء من مساهمة المستعمرات في تغطية نفقات الحرب، كما ذكر في كتاب “حروب الإمبراطوريات” وأصبح الجنيه الإسترليني يعادل 97 قرشًا.
كانت مصر قد وقعت تحت الاحتلال البريطاني (1882) من الأساس بسبب أزمة ديون، وفي فترة الحربين العالميتين (1914-1945) استطاعت مصر كما يذكر جلال أمين في كتابه “قصة الاقتصاد المصري” أن تقوم بأفضل أداء لها في سداد الديون، ما أثر على قوة العملة، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914-1918) استطاعت مصر أن تحقق فائضًا في ميزانها التجاري بسبب الارتفاع الكبير لأسعار القطن، لكن ذلك الفائض ظل خاضعًا لخدمة الديون، فانخفضت المديونية بين عامي 1914-1934 من 86 مليون جنيه إلى 39 مليونًا، ما يمثل 20% من الدخل القومي، بعدما كان 100% عند وقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939-1945) تحولت مصر من دولة مدينة إلى دولة دائنة بسبب قانون “تمصير الدين”، وكانت بريطانيا مدينة لمصر بمبلغ 340 مليون جنيه لم تستردهم مصر كاملين أبدًا حتى توقفت بريطانيا عن دفعهم بسبب أزمة السويس 1956، وهو ما يعرف في التاريخ باسم “الأرصدة الاسترلينية“.
إذًا وفي نهايات عهد الملك فاروق كانت الديون صفرية، ولا تنخفض قيمة الجنيه المصري آنذاك عن 4 دولارات أبدًا، ولكن في مواجهة تلك العملة القوية والدولة الغنية، لم يكن الحراك الاجتماعي يسير بنفس القوة، فلقد كانت الطبقة الوسطى، رغم نموها في أعقاب ثورة 1919، صغيرة الحجم، كما احتل الإقطاعيون الحياة البرلمانية – التي كانت أكبر إنجازات ثورة 1919 كما يذكر عاصم الدسوقي في كتابه “كبار ملاك الأراضي الزراعية ودورهم في المجتمع المصري 1914-1952” – بسبب قدرتهم على دفع ضريبة الأطيان المشروطة بإمكانية الترشح لعضوية مجلس الشيوخ.
كان الجنيه قويًا، لكنه لم يكن في متناول قطاعات كبرى من المجتمع، كانت تعيش بالقروش والمليمات، وتعطينا أفلام تلك الفترة صورة صادقة عن علاقة المصريين بعملتهم القوية، إذ لم يكن أحد يتحدث عن “الجنيه” إلا بإجلال لأنه كان بعيد المنال.
في عام 1939 قدم علي الكسار فيلمه “سلفني 3 جنيه”، تلك الثلاثة جنيهات كانت كفيلة إذا استطاع تحصيلها أن تحميه من الطرد من منزله، وفي عام 1950 في فيلم “ياسمين” تغني الطفلة فيروز أنشودة تعظيم للـ”ريال” الذي كان يعادل فقط 20 قرشًا من الجنيه المصري، قائلة: “معانا ريال معانا ريال..ده مبلغ عال مهوش بطال.. نروح في الحال على البقال..نجيب أصناف من التموين”.
الأحلام الناصرية.. والكوابيس
كانت مصر في منطقة “الجنيه الإسترليني” حتى عام 1961، حين بدأ البنك المركزي، بعد قرار تأسيسه عام 1960، نشاطه الفعلي في إصدار أوراق النقد المصرية. وفي عام 1962 غيرت مصر قيمة العملة وربطتها بالدولار الأمريكي.
رغم فك الارتباط بالجنيه الإسترليني عام 1961، فإن العرف كان ومنذ عام 1944، في نهايات الحرب العالمية الثانية وخروج الإمبراطوريات الأوروبية منهكة، أن تُربط العملات بالدولار وفقًا لاتفاقية “بريتون وودز”، وكان عبد الناصر في بعض الخطب ينحى لأن يحصي الأرقام وفقًا للدولار الأمريكي قبل عام 1961.
لذلك، ومنذ قيام ثورة 1952، كان للجنيه المصري قصة أخرى، منذ أن اقترن بالدولار الأمريكي. تسلم عبد الناصر البلاد وهي خالية من الديون، وفي الفترة من 1952 حتى 1967 ارتفع سعر صرف الدولار أمام الجنيه المصري من 0.25 إلى 0.38، ثم اضطر للاستدانة بعد ذلك لتمويل المشروعات الصناعية، وبناء السد العالي، وتمويل الإنفاق الحكومي كذلك، وبنهاية عهد جمال عبد الناصر كانت الديون المدنية بلغت نحو 1.8 مليار دولار، نحو 21% من الناتج المحلي الإجمالي، فما الذي حدث؟
إن ذروة السياسة الاقتصادية الناصرية تنحسر بين عامي 1956 و1965، كما يذهب جلال أمين في “قصة الاقتصاد المصري”، في تلك الفترة كانت مصر تدفع ديونها أحيانًا بالجنيه المصري، وأحيانًا بمنتجات مصرية الصنع، وارتفعت أجور العاملين بالقطاع الصناعي والزراعي بنسب متزايدة على مدار تلك السنوات الـ10.
اتبع النظام الناصري كغيره من الدول ما بعد الاستعمارية في تلك الفترة نظامًا اقتصاديًا يعتمد على التأميم و”إحلال الواردات”، كما يذكر محمد جاد في كتاب “متى ينتهي الغلاء في مصر؟”، تلك السياسة كانت لها تبعاتها على حال الصناعة الوطنية التي انتعشت. كان النظام الناصري قد بدأ مسيرة في تحديث نمط الحياة المصري من خلال الاعتماد على الصناعة، صنعت مصر الراديو والتلفزيون والسيارة، بالإضافة إلى مشروعات الدعم والتأمين الصحي وتعميم التعليم المجاني والصحة والقضاء على البطالة. شهدت تلك الفترة الزاهية انتعاشًا في مستوى الحياة للمواطن وكان الجنيه محافظًا على قوته، لكن الهاوية كانت قادمة لا محالة بسبب “المغامرات الناصرية”.
كانت مصر منذ دخول حرب اليمن عام 1962، التي يختلف الرأي العام حول تقديرها هل هي واجب في إطار مقاومة مصر للاستعمار، أم مغامرة أخرى ناصرية غير محسوبة، تنفق مبالغ يومية طائلة. في إحدى الوثائق التي نشرتها وكالة المخابرات الأمريكية على موقعها الرسمي عام 2004، يتبين لنا حجم الإنفاق من خلال تلك الوثيقة التي تعود إلى عام 1963 وتكلفة الحرب في اليمن على الخزانة المصرية.
في عام 1963 أي بعد سنة واحدة فقط كانت التقديرات تتراوح بين 85 إلى 110 ملايين دولار أنفقتها مصر في تلك الحرب دعمًا للثوار ولجيشها. أشارت أيضًا تلك الوثيقة في بندها الأخير إلى أن ذلك الإنفاق المصري على الحرب في اليمن لا يمكن أن يستمر دون أن تكون له تبعات على خطة التنمية في مصر.
وكانت القاصمة بالطبع هي نكسة 1967، ففي سبيل بناء الجيش في أعقاب الهزيمة في يونيو/حزيران، تكلفت خزينة الدولة المصرية الكثير بالإضافة إلى الديون، تسلم السادات خزانة خاوية تقريبًا، وسعر صرف للجنيه في مقابل الدولار كان آخذ في الارتفاع لصالح الدولار.
في عهد عبد الناصر حتى عام 1967، أصبحت الدولة أفقر، والخزانة مرهقة بالكثير من البنود، لكن الشعب في المقابل كان قد شهد ارتفاعًا في المستوى المعيشي بسبب سياسة الدعم، إذ كانت أسعار السلع الغذائية والكهرباء مخفضة ومثبتة كذلك بسبب التسعيرة الإجبارية كما يذكر جاد في كتابه، بالإضافة إلى مجانية التعليم والصحة وانخفاض أسعار إيجار الشقق بسبب سياسات الإسكان الاجتماعي.
في نهاية عهد عبد الناصر في ميزانية 1970، كانت الدولة تخصص من أجل الأجور مقدار 15% من الموازنة العامة وارتفع دخل الفرد منذ 1959 بزيادة 3% سنويًا وهي نسبة أعلى من العقود الأربع التي مضت على تلك الفترة كما يذكر جلال أمين، كانت 6 جنيهات تقيم أود أسرة مكونة من 4 أفراد في الشهر.
لكن عبد الناصر أيضًا، سلم لسلفه دولة مثقلة بالديون مرة أخرى، فرغم قلة موارد الدولة بسبب الحرب وغلق قناة السويس وبسبب التعويضات التي دفعتها عن التأميمات ومساعدات الدول العربية المختلفة، أراد عبد الناصر أن يستمر في خطته التنموية بنفس مستوى الاستثمار والاستهلاك، وهو ما لم يكن ممكنًا بأي حال.
الانفتاح.. السرداب المظلم
بدأ عبد الناصر مشروعًا لتحديث الحياة في مصر، فروج لنمط الحياة الحديث الذي تمتلك فيه كل أسرة سيارة خاصة وتلفزيون والسلع المعاصرة والسلع الأساسية. لكن ذلك النمط تعرض للانقطاع في السبعينيات، ما جعل السوق في طلب مستمر على هذا النمط من الحياة الحديثة. فأطلقت مصر حرية الاستيراد في الكثير من السلع الضرورية وغير الضرورية، خاصةً في أعقاب حرب 1973، رغم أن ضآلة موارد مصر من العملات الأجنبية والمعدل المنخفض للزيادة في الصادرات لم يكونا يسمحا بتلك الحالة من الانفتاح.
إلى جانب ذلك، لجأت مصر إلى تمويل جزء كبير من العجز في ميزان المعاملات بالاقتراض قصير الأجل، الذي بلغت نسبة الفائدة عليه في بعض الأحيان 15% كما يذكر جلال أمين، وكان هذا المعدل باهظ التكلفة خلال عهد السادات، وكانت تلك سياسة الانفتاح وآفاتها.
عانت سياسة الانفتاح من آفتين آثرتا بالسلب على الجنيه المصري، كما يذكر جاد في كتابه، الأولى هي أزمة الاستيراد من الخارج، فلم تكن مصر تستورد فقط السلع، بل تستورد التضخم كذلك من الخارج، فالأزمات التضخمية في الأسواق المصنعة للسلع التي نستوردها كانت تنقل عدواها كذلك للسوق المصري، والآفة الثانية أن تكاليف الإنتاج المحلية ارتفعت حين انخفضت قيمة الجنيه أمام عملات البلدان التي تستورد منها مصر المكونات المستوردة للتصنيع المحلي.
في عهد السادات تراجعت الثقة في أداء الجنيه المصري وقوته، وبعودة قناة السويس إلى العمل، وخروج العديد من المصريين للعمل في الخارج، عادت العملة الصعبة مرة أخرى، وبقوة. انتعشت سوق تجارة العملة الصعبة في أعقاب الانفتاح، وأصبحت العملة الأجنبية هي الأهم في المجتمع، فكانت هناك العديد من الشركات التي تتفاخر بدفع رواتب موظفيها بالدولار، كما أنه كانت هناك بعض العقارات التي قدرت قيمتها على أساس الدولار، وأصبحت أفضلية الحجز فيها لمن يدفع مقدمًا من الأموال بالدولار.
اتضح في عهد السادات أن الجنيه المصري “الجبس” كان صرحًا من خيال فهوى، فلم يعد قادرًا على فعل شيء، رغم أن الحكومة رفعت الحد الأدنى للأجور ليصل إلى 16 جنيهًا في الشهر، ولكنها لم تكن قادرة على وقف تدهور العملة.
كانت شعارات المظاهرات، التي أبرزت انعكاسات سياسة الانفتاح على المجتمع المصري في “انتفاضة الخبز” 1977، تحمل في طياتها صورتها عن أداء الجنيه المصري أمام السوق المغرقة بالسلع المستوردة، بل والسلع الغذائية التي كان دعمها ينخفض شيئًا فشيئًا.
كان أحد هتافات 1977 لرئيس الوزراء سيد مرعي كالتالي: “سيد يا بيه سيد بيه، كيلو اللحمة بقى بجنيه”، وفي خطاب المتظاهرين إلى زوجة الرئيس: “يا جيهان قولي للبيه.. جوز الجزمة (زوج من الأحذية) بـ6 جنيه”.
ترك السادات الخزينة المصرية بديون مدنية وعسكرية بلغت نحو 30 مليار دولار، ونظام اجتماعي يشبه كثيرًا ذاك النظام الذي قامت عليه ثورة يوليو، طبقة تمتلك كل شيء، وطبقة تمتلك تقريبًا لا شيء، وطبقة وسطى بعدما كانت تنمو وتتسع، أصبحت تتآكل.
كانت مصر عشية حرب الخليج في عام 1990 على وشك الانهيار، حيث بلغت الديون 47 مليار دولار، وكان ذلك يعادل 150% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن الحرب أنقذت مصر
وفي نهاية عهده كان السادات قد كسر كل المقدسات التي تؤثر على قوة وأداء أي عملة، كانت مصر تعاني من فارق بين قيمة الصادرات والواردات لصالح الصادرات ما أثر على الميزان التجاري بالسلب، كذلك إدمان الديون قصيرة الأجل ذات الفائدة العالية وتسديدها بالعملة الأجنبية، والذي كان إنفاقها يجري على مشروعات بنية تحتية لا تدر دخلًا، لذلك زاد الطلب على العملة الأجنبية مقابل تراجع أداء العملة المحلية، إذ كان عهد السادات هو عهد دولة أدمنت الطلب على النقد الأجنبي، وكان ذلك هو المسمار الذي دق في نعش الجنيه المصري، والتي ستستمر عليه الأنظمة إلى اليوم.
قتل السادات عام 1981، لكن نظامه السياسي والاقتصادي الذي رعاه لم يمت. أدار حسني مبارك أزمات سلفه الاقتصادية بنفس الطريقة، لكنه قلل من سرعة تهاوي الاقتصاد المصري والجنيه. أنفق مبارك في بداية عهده ملايين الجنيهات المصرية على مشروعات اتضح أنها فاشلة، مثل مدينة السادات وتوشكى وترعة السلام، بالتوازي مع اتجاه الدولة في عهده للخصخصة وجذب الاستثمار الأجنبي لحل الأزمة، وكانت مصر في تلك الآونة تتجه أكثر فأكثر لأن تكون دولة ريعية، تعتمد على العملة الصعبة القادمة من السياحة وتحويلات المصريين بالخارج وقناة السويس وآبار البترول القليلة.
ضربت أزمة انخفاض أسعار النفط في الثمانينيات الاقتصاد المصري بشكل عنيف، حيث عاد الكثير من العاملين بالخارج، وانخفضت إيرادات مصر من العملة الصعبة، وانخفضت قيمة الجنيه أمام الدولار ليصبح الجنيه الواحد يساوي دولارًا ونصف عام 1988، وسرعان ما تساوت قيمة العملتين عام 1990، وهي السنة التي سيعقبها ارتفاع الدولار أمام الجنيه بشكل دائم وحتى اللحظة.
كانت مصر عشية حرب الخليج في عام 1990 على وشك الانهيار، حيث بلغت الديون 47 مليار دولار كما يذكر جلال أمين، وكان ذلك يعادل 150% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن الحرب أنقذت مصر.
- البنك المركزي المصري (الأوروبية).
أصبح الجنيه المصري يعاني من أزمات الاقتصاد العالمية كالتضخم ولا يجاريها، رصد محمد جاد دراسة في كتابه، تغطي أوضاع التضخم في العالم بين عامي 2000 و2011، أوضحت الدراسة أن الأزمات الخارجية وارتفاع الأسعار العالمية كانت تؤثر على الجنيه المصري، ما يتسبب في تراجع قيمته وارتفاع مستويات التضخم، وحينما كانت تلك الأسعار تنخفض في الخارج، لم تكن تنخفض في مصر.
ونلاحظ أن مسببات تلك الأزمة ما زالت مصر تعاني منها إلى اليوم: الاعتماد المبالغ فيه على الواردات الأجنبية، وجمود الأسواق، وضعف الإنتاجية، ونقص المنافسة، وعدم فعالية جهاز حماية المستهلك.
وخلال الألفية الجديدة، خفض نظام مبارك الجنيه أكثر من مرة فيما أصبح يعرف شعبيًا بـ”التعويم”، وبنهاية عصره في عام قيام الثورة 2011، كان الدولار قد أصبح يساوي 6 أضعاف الجنيه. وهو ما يذكرنا بالخلاصة التي وصل إليها الباحث الاقتصادي سامر سليمان عام 2006، في كتابه الشهير “النظام القوي والدولة الضعيفة” حينما قال: “تظل حقيقة ساطعة لا يمكن إنكارها، وهي أن السادات قد استلم دولة متضخمة من عبد الناصر، وسلمها أكثر تضخمًا إلى مبارك، الذي لم يجد بدًا هو الآخر من أن يتركها تتضخم”.
عصر الانهيار الأكبر
هل سنسقط أم أننا سقطنا بالفعل، السؤال ذاته في تلك المرحلة الحرجة التي تعيشها مصر وعملتها، هل سقطت العملة ونحن نعيش في تبعات ذلك السقوط؟ أم أننا لم نسقط بعد؟
في أعقاب ثورة يناير/كانون الثاني 2011، استمرت مصر تواجه العديد من المشكلات الهيكلية، مع زيادة الخلل في إمدادات العملات الأجنبية مقابل فاتورة استيراد مستمرة في الارتفاع، أدى ذلك إلى تأثير الدومينو.
كانت المصادر الرئيسية للعملة الأجنبية في مصر آنذاك هي: الصادرات، والتحويلات المالية (بما في ذلك القروض والمنح)، والسياحة، والاستثمار الأجنبي المباشر، ورسوم قناة السويس.
عانت جميع هذه المصادر بسبب حالة الاضطراب وعدم اليقين الواضحة التي أعقبت ثورة 2011. كانت صناعة السياحة واحدة من أكبر القطاعات المتضررة (وربما أول من تسبب في تأثير الدومينو). بعد أن كانت مصدرًا رئيسيًا للعملة الأجنبية ومساهمًا كبيرًا في الناتج المحلي الإجمالي يمثل أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي قبل عام 2011.
ازداد الوضع سوءًا عندما تحطمت طائرة “متروجت” الروسية في أثناء طيرانها من شرم الشيخ إلى سانت بطرسبرغ، ما أدى إلى سلسلة من حظر الطيران من عدة دول أوروبية. ونتيجة لذلك، بدأت السوق الموازية للعملة الأجنبية في التطور، وبالتالي، بدأت التحويلات المالية تتدفق خارج القطاع المصرفي الرسمي حيث استخدم الناس السوق الموازية للحصول على أسعار صرف أكثر ملاءمة. كما تم فرض ضوابط على رأس المال، ما أدى إلى محدودية التحويلات المالية إلى خارج البلاد وجعل من المستحيل تقريبًا على الشركات متعددة الجنسيات إعادة أرباحها إلى الوطن، ما تسبب في انخفاض كبير في الاستثمار الأجنبي المباشر.
أدى ذلك إلى تفاقم مشكلة نقص العملات الأجنبية. وانتقلت تبعات تلك الأزمة إلى القطاعات الرئيسية في السوق، وأصبح من الصعب على المصنعين استيراد المواد الخام والآلات. ومع انخفاض أسعار النفط وملل الدول الخليجية من اعتماد الاقتصاد المصري على المساعدات التي تقدمها، تراجع دعم الدول النفطية لمصر الذي بدأ مع انقلاب 30 يونيو/حزيران.
أدى الانخفاض الكبير في أسعار النفط إلى جعل شركات الشحن على الطريق بين أوروبا وآسيا تجد أن الإبحار حول الطرف الجنوبي لإفريقيا أكثر اقتصادًا من دفع رسوم العبور لقناة السويس. أدت كل هذه العوامل مجتمعة إلى زيادة نقص العملات الأجنبية في البلاد، ونتيجة لذلك قفز عجز الحساب الجاري في مصر إلى مستوى عالٍ في يوليو/تموز 2016.
في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2016، كان الدولار في السوق الموازية قد وصل إلى أعلى سعر له آنذاك في مواجهة الجنيه المصري، فلقد كان يعادل 100% من سعر الصرف الرسمي في البنك، كان الدولار في السوق السوداء يقدر بـ16 جنيهًا، بينما كان سعر الصرف الرسمي 8.8 جنيه للدولار.
وأمام كل هذه المتغيرات، لم يجد النظام المصري أي خيار سوى الذهاب إلى صندوق النقد الدولي، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام قرر البنك المركزي السماح بتعويم الجنيه المصري للمرة الثالثة في تاريخ مصر بعد تعويم عام 2003 وتعويم عهد السادات 1977، لتنخفض قيمة الجنيه أمام الدولار بنسبة 32.3% ويعادل الدولار الأمريكي الواحد 16.5 جنيه مصري. وبعد أيام قليلة، وافق صندوق النقد الدولي على البدء في منح مصر أكبر قرض في الشرق الأوسط آنذاك بقيمة 12 مليار دولار.
تراجع استهلاك 85% من الأسر من اللحوم، وخفضت 75% استهلاكها من البيض، و73% من الدواجن، و61% من الأسماك، و60% من اللبن
كان للسياسات التي اتبعتها الحكومة المصرية آثار سريعة وصادمة على الجنيه المصري، ففي عام 2017 وكما تشير إحدى الدراسات التي ضمنها جاد كتابه، اتضح أن الجنيه المصري يستطيع شراء مقدار 2% مما كان يشتريه عام 1979، ويستطيع أن يستبدل بـ4% من العملة الأمريكية التي كان يمكن شراؤها عام 1983.
لم تكتف الحكومة الحالية بهذا التعويم، فبسبب الهوس بالمشروعات الكبرى، تبنت سلسلة من المشروعات الضخمة التي تتطلب إنفاقات عالية تستمر في إنهاك الاقتصاد والعملة، كما أتبعت الحكومة التعويم بتعويمين آخرين عام 2022 وعام 2024، ليستقر السعر الحالي للدولار أمام الجنيه عند 48 جنيهًا تقريبًا.
هل انتهى الجنيه المصري الذي عرفه أباؤنا وعرفناه لسنين قليلة؟ تجيب إحدى الدراسات عن نمط معيشة الفقراء في ظل الأزمات المتتابعة، فمن خلال عينة 6 آلاف أسرة من الفقراء، اختبرها المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، اتضح أنه قد تراجع استهلاك 85% من الأسر من اللحوم، وخفضت 75% استهلاكها من البيض، و73% من الدواجن، و61% من الأسماك، و60% من اللبن. وكانت تلك الدراسة في عام 2022، أي قبل التعويم الأخير والتضخم الذي بلغ أعلى معدل له مع مطلع العام الجاري.
وبينما يحتاج المصري إلى 6000 جنيه كما ترى الحكومة في الحد الأدنى للأجور الذي أقرته مؤخرًا، وهو رقم قابل للشك أصلًا على قدرته في وفاء حد الكفاف لأسرة مصرية من 4 أفراد، فضلًا عن العدد المحدود للموظفين الذين يستطيعون الحصول على هذا المقابل، فقد أثبتت دراسة أجرتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن هناك الكثير من الأسر الواقعة تحت خط الفقر، ما زالت تعيش بمعدلات 500 و800 جنيه شهري، لذلك من الصعب تخيل هذا النمط من المعيشة وحاله ما لم يختبره المرء بنفسه، إنها معجزة كاملة الأركان أن تنجو أسرة بهذا المبلغ في الشهر.
ستستمر معاناة الجنيه المصري حاليًا في ظل عجز الدولة المستمر، واتجاه الحكومة للاقتراض المحلي بكثافة مقابل أسعار فائدة تصل إلى 30%، بالإضافة إلى الفجوة التمويلية بالعملة الأجنبية، وعجزها عن جذب إيرادات دولارية تغطي احتياجاتها الأساسية وتمكنها من سداد مستحقات الديون الخارجية، ما ينذر بالمزيد من الانخفاض في قيمة العملة، وتدهور مستمر لا يبدو أنه سيتوقف.