ترجمة وتحرير: نون بوست
تشكل الفاشية تهديدا خطيرا للغاية الآن أكثر من أي وقت مضى، وتحديدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في 28 من نيسان/ أبريل سنة 1945، أي قبل 73 سنة، ثبت الإيطاليون جثة ديكتاتورهم السابق بينيتو موسوليني رأسا على عقب بجوار محطة وقود في ميلانو. بعد يومين، انتحر أدولف هتلر في مخبئه تحت شوارع برلين التي دمرتها الحرب، ليبدو وكأن الفاشية قد ماتت.
لضمان عدم تكرار الأمر، تضافرت جهود الناجين من الحرب والمحرقة لإنشاء الأمم المتحدة، ومؤسسات مالية عالمية، وتعزيز سيادة القانون من خلال صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. في سنة 1989، انهار جدار برلين، في حين تعزز السجل الشرفي للحكومات المنتخبة في أوروبا الوسطى، فضلا عن أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا. في الأثناء، بدا أن الديكتاتوريين في كل مكان تقريباً قد وقع التخلص منهم وحل محلهم الديمقراطيون، في حين كانت الحرية في أوجها.
في الوقت الراهن، نعيش في حقبة جديدة، نختبر فيها مدى صمود راية الديمقراطية في مواجهة الإرهاب والصراعات الطائفية والحدود المتهاوية ووسائل الإعلام الاجتماعية المارقة والمخططات الخبيثة للرجال الطموحين. في الواقع، لن يكون الجواب بديهيا. قد نشعر بشيء من الارتياح لأن معظم الأشخاص في مختلف البلدان لا يزالون يرغبون في العيش بحرية وسلام، ولكن لا يجب أن نتجاهل العاصفة التي بصدد التشكل في الأفق. في الواقع، باتت الفاشية والاتجاهات التي تؤدي إليها، تشكل تهديدًا أكبر من أي وقت مضى، وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
أخذت بعض المؤشرات التحذيرية تتجلى من خلال الاستيلاء المتنامي على السلطة من قبل الأطراف الحاكمة في المجر والفلبين وبولندا وتركيا، وجميع هذه الدول من حلفاء الولايات المتحدة. وينتشر غضب واضح يعمل على تغذية الفاشية عبر المحيط الأطلسي حيث تنمو حركات الأهلانية المعارضة لفكرة أوروبا الموحدة، بما في ذلك ألمانيا، حيث برز البديل من أجل ألمانيا على اعتباره حزبا معارضا رئيسيا. كما يظهر خطر الاستبداد في روسيا فلاديمير بوتين، الذي عمد إلى غزو أوكرانيا.
في ظل تصريحاته والأمور التي قام بها وفشل في فعلها، قلص ترامب بثبات نفوذ الولايات المتحدة الإيجابي في المجالس العالمية
ولم يتوان بوتين عن التدخل في الديمقراطيات الأجنبية، كما أنه متهم بكونه قاتل على المستوى السياسي وكاذب وقح والابن الفخور للجنة أمن الدولة KGB. وقد وقع إعادة انتخاب بوتين للتو لفترة ست سنوات، بينما من المتوقع أن ينتصر نيكولاس مادورو، الأيديولوجي الذي لا يتسم بالرحمة، في الاقتراع الزائف في الشهر المقبل في فنزويلا. أما في الصين، فقد أقنع شي جين بينغ مجلس الشعب الصيني المُنصب برفع الحد الدستوري لفترة بقائه في السلطة.
حول البحر الأبيض المتوسط، كان الوعد الذي مثّله الربيع العربي قد غُرر به من قبل زعماء استبداديين على غرار المصري عبد الفتاح السيسي الذي أعيد انتخابه والذي لطالما استخدم حجة الأمن لتبرير سجن الصحفيين والمعارضين السياسيين. وبفضل الحليفين موسكو وطهران، لا يزال الطاغية بشار الأسد يضيق الخناق على معظم سوريا. في أفريقيا، عادة ما يكون الرؤساء الذين يظلون في الحكم لفترة طويلة، الأكثر فسادا في حين تتنامى الأضرار التي يلحقونها ببلدانهم بعد كل سنة. في الأثناء، تتعزز إمكانية منح الفاشية فرصة جديدة للبروز في المسرح العالمي بفضل الرئاسة المتقلبة لدونالد ترامب.
إذا كان للحرية أن تتغلب على العديد من التحديات التي تواجهها، لا بد من تدخل القيادة الأمريكية في أقرب وقت ممكن. كان هذا من بين الدروس التي لا يمكن نسيانها والمستمدة من القرن العشرين. ولكن في ظل تصريحاته والأمور التي قام بها وفشل في فعلها، قلص ترامب بثبات نفوذ الولايات المتحدة الإيجابي في المجالس العالمية. فبدلاً من حشد التحالفات الدولية لمواجهة المشاكل العالمية، روج ترامب لعقيدة “كل أمة تعمل من أجل نفسها”، في حين دفع البلاد إلى موقف انعزالي فيما يتعلق بالتجارة والتغير المناخي والسلام في الشرق الأوسط.
عوضا عن الانخراط في الدبلوماسية بشكل فعال، أهان جيران الولايات المتحدة وحلفائها، ونأى بنفسه عن الاتفاقيات الدولية الرئيسية، في حين سخر من المنظمات متعددة الأطراف، وجرد وزارة الخارجية من مواردها ودورها. وبدلاً من الدفاع عن قيم المجتمع الحر، قام ترامب، من خلال ازدرائه الشديد لجماعات بناء الديمقراطية، بتعزيز سطوة الدكتاتوريين. وبالتالي، باتوا في مأمن من انتقاد الولايات المتحدة لهم فيما يتعلق بحقوق الإنسان أو الحريات المدنية. بل على العكس، أصبح بإمكانهم أن يستشهدوا بتصريحات ترامب الخاصة لتبرير أعمالهم القمعية.
قد يؤدي تهديد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني لسنة 2015، إلى تفكيك الاتفاقية التي جعلت العالم أكثر أمنا
في وقت ما، هاجم ترامب السلطة القضائية، وسخر من وسائل الإعلام، ودافع عن ممارسة التعذيب، في حين تغاضى عن وحشية الشرطة. فضلا عن ذلك، حث ترامب أنصاره على مضايقة الآخرين وتخويفهم ووضع المخالفين سياسيا في قائمة الخونة. كما حاول تقويض الثقة فيما يتعلق بالعملية الانتخابية الأمريكية من خلال تكليف لجنة استشارية مزيفة لتقصي نزاهة الناخبين. كما يقوم ترامب بشكل روتيني بتشويه مؤسسات إنفاذ القانون الفيدرالية، في الوقت الذي يعمل فيه على توجيه الشتائم للمهاجرين وبلدان المنشأ. وغالبًا ما تتناقض تصريحاته مع الحقيقة، تظهر على أنها تنم عن جهله العميق، لكنها في الواقع إفادات خاضعة لحسابات بهدف تعميق الانقسامات الدينية والاجتماعية والعرقية.
في الخارج، بدلا من الوقوف في وجه الاستبداد، يبدو أن ترامب يحب المستبدين، في حين يسعدهم أن يمثلهم على اعتباره يجسد القيم الأمريكية. وإذا كان على المرء أن يصور سيناريو يؤرخ لانبعاث الفاشية من جديد، لعل المشهد الأول ضمن هذا السيناريو يتمثل في تخلي الولايات المتحدة عن دورها الأخلاقي القيادي. ومما يبعث على القلق، احتمال أن يقوم ترامب بافتعال أحداث لن يستطيع هو أو أي شخص آخر السيطرة عليها.
في الوقت ذاته، ما فتئت سياسته تجاه كوريا الشمالية تتغير يوما بعد يوم، وقد تعود بسرعة العلاقات إلى حالة التوتر إذا تشبثت بيونغ يانغ بعنادها قبل أو أثناء المحادثات. وقد يؤدي تهديد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني لسنة 2015، إلى تفكيك الاتفاقية التي جعلت العالم أكثر أمنا، ويمكن أن يقوض ذلك سمعة الولايات المتحدة فيما يتعلق بمصداقيتها في اللحظات الحرجة.
دعم ترامب للرسوم الجمركية ضمن سياسة الحمائية يدعو إلى الانتقام من الشركاء التجاريين الرئيسيين، كما يخلق صراعات غير ضرورية ويعرض الملايين من الوظائف المعتمدة على التصدير للخطر. كما أن التطهير الأخير في صفوف فريقه للأمن القومي يثير أسئلة جديدة حول مدى نجاعة المشورة التي سيحصل عليها، خاصة وأن جون بولتون قد بدأ العمل في البيت الأبيض يوم الاثنين الماضي.
يجب علينا أيضا أن نفكر في تعريف العظمة، فهل يمكن لدولة ما أن تستحق هذه الصفة عن طريق مواءمتها مع الطغاة والمستبدين
ما الذي يجب القيام به؟
أولا، الدفاع عن الحقيقة، حيث لا تعد الصحافة الحرة، على سبيل المثال، عدو الشعب، با إنها تحمي الشعب الأميركي. ثانيا، يجب أن نعزز المبدأ القائل بأنه لا يوجد أحد، ولا حتى الرئيس، فوق القانون. أما ثالثا، فينبغي أن يقوم كل منا بدوره لتنشيط العملية الديمقراطية عن طريق تسجيل ناخبين جدد، والاستماع باحترام إلى أولئك الذين نختلف معهم، والترويج للمرشحين المفضلين وتجاهل المشورة الساخرة القائلة: “لا يوجد شيء يمكننا القيام به”.
على الرغم من أني أبلغ من العمر 80 سنة، لكن ما زال بإمكاني أن أكون مصدر إلهام عندما أرى شبابًا يجتمعون للمطالبة بالحق في الدراسة دون الحاجة إلى ارتداء سترة واقية. يجب علينا أيضا أن نفكر في تعريف العظمة، فهل يمكن لدولة ما أن تستحق هذه الصفة عن طريق مواءمتها مع الطغاة والمستبدين، وتجاهل حقوق الإنسان، والإعلان عن حرب مفتوحة ضد البيئة، وإحباط استخدام الدبلوماسية في وقت تتطلب فيه كل المشاكل الخطيرة التعاون الدولي؟
بالنسبة لي، يكمن جوهر العظمة فيما هو أعمق بكثير من الرخام الذي نضعه في ردهات الفندق، وما إذا كان لدينا عرض عسكري على الطراز السوفياتي. تمثل الولايات المتحدة في أفضل حالاتها مكانا يعمل فيه أفراد من خلفيات متعددة معا لحماية الحقوق وإثراء حياة الجميع. هذا هو النموذج الذي لطالما كنا نطمح لتصويره، والذي يتوق الأشخاص، الذين يعانون الجوع في مناطق مختلفة من العالم، لرؤيته. ولا ينبغي السماح لأي سياسي، ولا حتى الأفراد المنتمين للمكتب البيضاوي، بتشويه هذا الحلم.
المصدر: نيويورك تايمز