لا يخفى على أحد ما تمارسه الإمارات من تدخلات مباشرة وغير مباشرة في شؤون الدول والتحالفات بغية تحقيق أهداف أبناء زايد الحالمين بالزعامة وقيادة المنطقة، مسخرين لذلك ما تحويه خزائنهم وأراضيهم، ولعل التحقيقات الجارية الآن مع جورج نادر رجل الأعمال الأمريكي، اللبناني الجنسية، الذي يعرف نفسه دومًا بأنه مستشار ابن زايد، بسبب اتهامه بالتورط في تقديم أموال إماراتية للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، الحلقة الأحدث في هذا المخطط.
برنامج “ما خفي أعظم” المقدم على قناة “الجزيرة” في حلقته أمس، تناول ملف إنفاذ الإمارات إلى المشهد السعودي، مستعرضًا عددًا من الوثائق والشهادات التي تكشف الدور الإماراتي في التأثير على صناعة قرار الرياض، وتحديد بوصلته الداخلية والخارجية على حد سواء، وذلك عبر حزمة من الإستراتيجيات التي اعتمدت عليها أبو ظبي في تحقيق أطماعها خلال مرحلة التغيير الجديدة التي تشهدها المملكة منذ قدوم ابن سلمان وليًا للعهد.
تجنيد أذرع إعلامية وبحثية
عشرات الوثائق والمراسلات السرية كشفتها “الجزيرة” في حلقة الأمس، تظهر وبشكل واضح حقيقة الدور الإماراتي في تجنيد أذرع إعلامية وبحثية سعودية لتنفيذ أجنداتها الخارجية وسياساتها الإقليمية، بهدف أن تكون صاحبة الكلمة العليا في المشهد السعودي اليوم إعلاميًا وسياسيًا وحتى فكريًا وثقافيًا.
ما تم كشفه لم يكتف بالإفصاح عن أسماء إعلاميين سعوديين مؤثرين في دوائر صنع القرار الداخلي ولهم دور بارز في تشكيل الرأي العام في الوقت الحاليّ وجندتهم أبو ظبي وحسب، بل تجاوز ذلك إلى إزاحة الستار عن حجم الأموال التي تدفع لهم من الإمارات مقابل تقديم خدمات لها، وهنا علامة استفهام كبيرة طرحها مقدم البرنامج على ضيوف حلقته، بشأن تأثير الإمارات السياسي الذي يروج عبر المنصات الإعلامية التي تملكها وتمولها السعودية وتبث من داخل الأراضي الإماراتية.
الوثائق لم تقف عند حد المقابل المادي الذي حصل عليه الدخيل نتيجة عمله مع مؤسسة إماراتية، بل كان الأهم من استثماراته العقارية في باريس ولندن وغيرها من العواصم والمدن، حيث كشفت أن مصدر الأموال كلها أو معظمها على أقل تقدير دولة الإمارات
مضاوي الرشيد أستاذة علم الإنثربولوجيا الديني في قسم اللاهوت والدراسات الدينية بكلية الملوك بجامعة لندن، وحفيدة آخر حاكم من أسرة الرشيد الحاكمة في حائل السعودية، علقت على هذا الموضع بقولها: “الإمارات استطاعت أن تخترق مؤسسة الحكم في الرياض، بعد الانبهار بالنمط الإماراتي والنمو الاقتصادي والقمع السياسي على السواء”.
فيما كشف عبد الله فواز الشمري، أحد مؤسسي شبكة المعلومات العربية “نسيج”، معلومات أكثر تفصيلاً بشأن هذه الجزئية حين ألمح إلى أن “أبوظبي اشتغلت بذكاء على طريقة استهداف السعودية من خلال المستشارين حول القيادة الجديدة، وهم تركي الدخيل وسعود القحطاني وتركي آل الشيخ”.
تركي الدخيل نموذجًا
سلط البرنامج الضوء على أحد أبرز النماذج الواضحة على تجنيد الإمارات لإعلاميين سعوديين، وهو تركي الدخيل مدير قناة “العربية” السعودية التي تبث من دبي، وأحد أبرز المقربين من دائرة الحكم في السعودية، ودوره الحاليّ دفع المذيع للتساؤل عن خلفياته الفكرية، فالصعود المتسارع للدخيل أثار تساؤلات داخل المملكة نفسها بشأن ثروته ومصادرها.
وصف الدخيل المقيم في الإمارات منذ عام 2003 بأنه عراب التحول الفكري الذي نجح في استقطاب عدد من رموز تيار التغيير والقطيعة عن الماضي، على رأسهم منصور النقيدان ومشاري الذايدي وَعَبد الله بن بجاد، وأقنعهم بالعمل معه في الإمارات عبر تدشين مظلة بحثية جمعت الأربعة تحت لواء واحد وكان ذلك عام 2005.
الشمري أوضح أن: “تركي الدخيل تم برمجته في الولايات المتحدة، بعد أن كان متعاونًا مع موقع نسيج كمحرر في العام 1998″، حيث خضع لعملية تغيير فكري، فانتقل من التشدد إلى الانفتاح، وعلى وقع ذلك تسير المملكة بأسرها، وبالتوازي مع هذا الدور المضطلع للدخيل تحول فجأة إلى أحد أكثر الإعلاميين السعوديين ثراءً وهو ما أثار الانتباه وقتها، لكن في تلك الأثناء لم يفكر أحد في مساءلته أو محاسبته، وتلك كانت علامة استفهام أخرى.
“الجزيرة” نشرت عددًا من الوثائق التي تكشف جزءًا من إجابة السؤال عن مصادر ثروة الدخيل، منها وثيقة تعاقده مع مؤسسة أبوظبي للإعلام مقابل تقديم خدمات لم يفصح عنها بعد، غير أن اللافت لنظر مقدم الحلقة أن التعاقد جاء بالتزامن مع عمل الدخيل مع قناة العربية.
الوثائق لم تقف عند حد المقابل المادي الذي حصل عليه الدخيل نتيجة عمله مع مؤسسة إماراتية، بل كان الأهم من استثماراته العقارية في باريس ولندن وغيرها من العواصم والمدن، حيث كشفت أن مصدر الأموال كلها أو معظمها على أقل تقدير دولة الإمارات.
المعارض الإماراتي جاسم الشامسي، مساعد وكيل وزارة المالية الإماراتية سابقًا، كشف كيفية إدارة الأموال الإماراتية التي تنفق في الخارج وعلى مثل هذه النشاطات، قائلاً: “توجد أرقام وموازنات علنية في دولة الإمارات، بينما توجد موازنة أخرى سرية لا تخرج للعلن، ولا يمكن أن يدقق عليها ديوان المحاسبة من أجل خدمة أجندات معينة وليس أمن الإمارات بشكل عام”.
ومن النماذج التي ساقتها حلقة الأمس للوثائق التي تكشف تجنيد الإمارات للدخيل، حصوله ذات مرة على 633 ألف دولار من وزارة الخارجية الإماراتية وتحويل هذا المبلغ إلى حسابه في 13 من يوليو 2014، كذلك استثماراته العقارية في لندن وخاصة في شارع بوشان بونراقي، حيث توجد شركة للاستثمارات العقارية الضخمة التي يدخل فيها الدخيل كشريك أساسي.
لكن المثير للانتباه أن الدخيل تسلم ملكية عقارين شخصيين على نهر التايمز صبيحة اختراق وكالة الأنباء القطرية في 24 من مايو الماضي، وبثها تصريحات منسوبة لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ورغم نفيه لها، فإن قناة “العربية” كانت أول من أذاع هذه الأخبار وهي الحادثة التي أججت الأزمة الخليجية فيما بعد.
بيتر أوبورن، كاتب وصحفي بريطاني، في تفسيره لحقيقة النفوذ الإماراتي في المشهد السعودي، قال “هناك كيمياء وانسجام شخصي بين قيادتي البلدين، وهو سبب واضح لتأثير أبوظبي على سلطات الرياض، وبالتالي هناك سيطرة تامة من أبوظبي على قرار الرياض”.
الشمري: أبوظبي اشتغلت بذكاء على طريقة استهداف السعودية من خلال المستشارين حول القيادة الجديدة، وهم تركي الدخيل وسعود القحطاني وتركي آل الشيخ
مستقبل محكوم بالفشل
مع إستراتيجية الإمارات في النفاذ إلى المشهد السعودي عبر بوابة تجنيد الإعلاميين والباحثين والمفكرين، يبدو أن العلاقات بين البلدين لن تستمر على هذه الوتيرة التي يتوقعها البعض، في ظل التباين الواضح في مرتكزات كل نظام على حدة، وهو ما أراد أوبورن أن يؤكد عليه أكثر من مرة، حين قال: بحسب تقديري فإن الإمارات قد تشكل نموذجًا للنمو الاقتصادي وتعتمد سياسة موالية لأمريكا و”إسرائيل” والسعودية، وإن كان من نموذج تفتش عنه السعودية فالأرحج الملائم قد يكون قريبًا من النموذج الإماراتي بمعنى أن تنفتح الرياض كالإمارات.
ولكن التحدي الأبرز أمام السعودية يتمثل في الصعوبات الاقتصادية والمالية، خاصة أن سكانها يزيدون على 20 مليونًا في مقابل عدد سكان أقل من ذلك بكثير في الإمارات، وعلينا أن نتذكر أن معدل الفقر مرتفع في السعودية.
أما عن رأيه فيما إذا كان النموذج الإماراتي يعد رقمًا إيجابيًا في معادلة الدول المتقدمة، تابع الصحفي البريطاني: “لا أرى أي دليل يشير إلى أن الإمارات دولة متقدمة، بمعنى أن تتبنى حرية التعبير وتعلي حكم القانون بل على العكس من ذلك لقد رأينا الإمارات تنتهج التعذيب وتضطهد الأقليات، وبالتالي لا نرى إشارات أنها دولة ديمقراطية وعصرية”.
لذا توقع عدم ازدهار العلاقات بين البلدين وأنها محكومة بالفشل: “انظر إلى التحالفات التي اختاروها منها نتنياهو في “إسرائيل”، فهو شخصية غير متزنة، وبالتالي جاء اختيارهما لشركائهم في مشروع لتشكيل الشرق الوسط بالغ الغرابة ولا أعتقد أن مشروعهم سينجح”.
مضاوي الرشيد اتفقت مع الصحفي البريطاني في رؤيته، لافتة إلى أن النمط الإماراتي هو القمع مقابل الثروة الاقتصادية، معلقة على ذلك بقولها: “لا أحد يدري كيف ستتطور هذه العلاقات، فهناك نقاط الاختلاف بين البلدين منها مناطق حدودية مثلاً لم تستطع الإمارات والسعودية حلها، كذلك المنافسة الرأسمالية، رأسمالية فجة في الإمارات ربما تأكل نفسها من الداخل”.
تجنيد الإمارات لأذرع إعلامية وبحثية سعودية لتنفيذ أجندتها وسياساتها الخارجية
الصحفي البريطاني بيتر أوبون: “هناك كيمياء وانسجام شخصي بين قيادتي البلدين، وهو سبب واضح لتأثير أبوظبي على سلطات الرياض، وبالتالي هناك سيطرة تامة من أبوظبي على قرار الرياض
ماذا تريد الإمارات؟
“الإمارات تريد أن تكون رقمًا أول في الخليج والمنازع لها السعودية وذلك من الطبيعي أن تسيطر عليها إعلاميًا، أما عسكريًا وأمنيًا فصعب على الإمارات”، هكذا أجاب الشمري عن دوافع أبناء زايد من وراء إستراتيجية تجنيد وشراء الإعلاميين السعوديين في السنوات الأخيرة.
محادثات خاصة للإعلامي داود الشريان الذي تم تعيينه مؤخرًا رئيسًا لهيئة الإذاعة والتليفزيون السعودي، كشفها البرنامج لخصت المشهد برمته، حين قال: “لك أن تتخيل إنسانًا يعيش بمستوى موظف مرتبه عشرة آلاف ثم يصبح يعيش بمستوى إنسان دخله خمسة ملايين في السنة، القصة ملعونة، الجماعة درسوا تجربتنا في شراء جهاد الخازن وشلته وطبقوها علينا، ما تفعله أبوظبي يصعب رفضه من معظم البشر فضلاً عن الذي لا ذمة له، اتركونا من المثاليات، أبوظبي لا تشتري الصحفيين عبر وزارة الإعلام بل عبر الاستخبارات، يعني تعمل حسب التعليمات ما هو على كيفك، بعض ما يسمى بالصحفيين السعوديين صار أرخص”.