عُرف التأمل قديمًا منذ آلاف السنين بين الشعوب المختلفة، وعلى أنه كان بالبدء جزءًا عميقًا أساسيًا من الديانات أو الطقوس السماوية والماورائية المقدسة ووسيلة روحانية بحتة، إلا أنه تحوّل مع الوقت إلى عادة أشبه ما تكون بالاسترخاء تهدف لتخفيف توتر الحياة والتخلص من الضغوطات الفردية الملحة، أي أنه بات أحد أنواع الطب التكميلي وعلم النفس الإيجابي لما له من فوائد تنعكس على كلٍ من الدماغ والجسم على حدٍ سواء.
بدايةً، يمكن تعريف التأمل في علم النفس بأنه “فن السيطرة الذاتية العقلية على الذهن والأفكار وعلى تدفُّق الصور الذهنية أو منع تدفقها أو تغيير اتجاهها ونوعيتها”، والتأمل ليس الطريقة الوحيدة للتحكم في الذهن، وإنما هو أقدم تلك الطرق وأبرزها، وما يُشاع عنه من أنّ التأمل يعمل على تحسين الحالة النفسية والمزاجية والعاطفية للفرد ليس محض كلامٍ يُقال وحسب، فقد خلصت العديد من الدراسات والأبحاث على الدماغ والخلايا العصبية فيه أنّ العديد من أجزاء الدماغ المسؤولة عن تنظيم العواطف والتفكير واتخاذ القرارات وحل المشكلات، يمكن أنْ تتأثر إيجابًا بممارسات التأمل المختلفة.
ولذلك لا عجب أنْ يأخذ التأمل “meditation” أو فن الاستغراق العقلي “mindfulness” جزءًا كبيرًا من مجالات الأبحاث العصبية والنفسية في السنوات الأخيرة، فلا تكاد تجد موقعًا أو برنامجًا تلفزيونيًا يتطرق لموضوع الصحة الجسدية والعقلية والنفسية إلا ويذكرهما ويؤكد على دورهما الرفاهيّ في حياة الأفراد. لكن ما الذي يحدث بالضبط في الدماغ أثناء التأمل؟
يمكن تعريف التأمل في علم النفس بأنه “فن السيطرة الذاتية العقلية على الذهن والأفكار وعلى تدفُّق الصور الذهنية أو منع تدفقها أو تغيير اتجاهها ونوعيتها”
قد أظهرت العديد من الدراسات التصويرية للأفراد أن مناطق الدماغ التي تلعب دورًا كبيرًا في الانتباه والتركيز والعاطفة والعمليات الذهنية والإدراكية تتأثر بطريقة إيجابية في مختلفة مراحل التأمل، إحداها أشارت إلى أنّ التأمل يعمل على تنشيط الخلايا العصبية في جذع الدماغ والتي قد تشترك في تنظيم التنفس ونبضات القلب.
الغاية من التأمل أعم وأشمل من أن تقتصر على هدف واحد
أشارت الدراسة نفسها أنّ تلك الخلايا ترتبط بشكلٍ مباشر مع منطقة الموضع الأزرق في الدماغ “Locus coeruleus“، وهَ نواة تلعب دورًا وظيفيًا فيما يتعلق بالضغط النفسي والفزع، أيْ أنّ التحكم في ذلك الجزء وفي نشاطه من خلال الممارسات التأملية يمكن أنْ يؤدي لمستوىً أقل من التوتر النفسيّ، وبالتالي لصحةٍ عاطفية ونفسية أفضل. الدراسة ذاتها أكدت على أنّ فهم كيفية تحكم الدماغ في التنفس يمكن أن يساعد أيضًا في تطوير أهداف علاجية جديدة لعلاج حالات مثل القلق واضطرابات الهلع واضطرابات النوم المختلفة مثل الأرق.
فوائد التأمل أو الاستغراق العقلي لا تقتصر على الجسم والدماغ وحسب، بل تشمل المستوى الروحيّ للأفراد، حيث يعمل على تدريبهم على المشاعر الروحانية الإيجابية كالتعاطف والتسامح
وفي دراسة أخرى، قامت سارا لازار وفريق بحثها عام 2011 باستخدام جهاز الرنين المغناطيسي بدراسة الاختلافات في كمية المادة الرمادية داخل أدمغة عدة مشاركين ببحثٍ هدف لدراسة آثار التأمل. وفي تجربة احتوت على فريقين، أحدهما مارس التأمل يوميًا لمدة ثمانية أسابيع، والآخر كان بهدف المراقبة لا غير، توصل فريق البحث إلى أنّ كثافة المادة الرمادية في منطقة الحُصَين “hippocampus” قد ازدادت، ومن المعروف أنّ الحصين هو المسؤول عن الوعي بالذات والتعاطف والتعلم والذاكرة والتحكم ببعض العواطف المختلفة.
ولذلك يمكننا القول أنّ فوائد التأمل أو الاستغراق العقلي لا تقتصر على الجسم والدماغ وحسب، بل تشمل المستوى الروحيّ للأفراد، حيث يعمل على تدريبهم على المشاعر الروحانية الإيجابية كالتعاطف والتسامح، ولا ريب أنّ جميع الديانات والرسالات الروحية تحتوي في طياتها على هذه الممارسة، بل وربما تدعو لها وتؤكد عليها، كالديانات البوذية والهندوسية هذه الأيام.
كما أنّ كثافة المادة الرمادية في منطقة اللوزة الدماغية “amygdala“، والتي تلعب دورًا رئيسيًا في الخوف والإجهاد والتوتر، قد نقصت بشكلٍ ملاحظٍ وواضح، ولربما تفسر هذه التغيرات لماذا أصبح التأمل الذهني فعالًا جدًا للتخلص من الإجهاد والقلق في أيامنا هذه. وعلى صعيد آخر قريب، توصلت الدراسة إلى أنّ مستويات الكورتيزول، هرمون التوتر، قد انخفضت بشكلٍ ملموس في أجسام المشاركين الذين استمرّوا بالتأمل طيلة فترة الدراسة.
وعلى صعيد آخر قريب، توصلت المجموعة البحثية لاحقًا أنّ التأمل يقلل من أعراض الاضطراب ثنائي القطب واضطراب القلق العام، الأمر الذي يرجع أساسًا أيضًا إلى زيادة كثافة المادة الرمادية التي تلعب دورًا في الرفاهية النفسية، وبالتالي تخفف من حدة أعراض تلك الاضطرابات.
الهدف من التأمل هو إكساب العقل وعيًا وانتباهً يمكننانه من الإحاطة بالحواس والأشياء والأحداث من حوله إحاطة شبه تامة أو تامة، وبالتالي اكتشاف الروابط والعلاقات بينها
بالمحصلة، فالتأمل أو اليوجا وغيرها من الممارسات الذهنية، ليست مجرد عملية جلوسٍ صامتة، تسترخي فيها عضلات الجسم، وإنما هو حالة من الانتباه الآنيّ والحضور العميق للوعيّ والذهن، ولذلك تجدر الإشارة إلى أن ممارسة التأمل لا تكون لغرض أو هدف بعينه، وهذا ما يصعِّب الاقتناع بفائدة ممارسته عند الكثير من الأشخاص.
فالغاية من التأمل أعم وأشمل من أن تقتصر على هدف واحد، أو أن يملك تأثيره مفعولًا سحريًّا يغيّر حياة الفرد كافة، وإنما الهدف منه إكساب العقل وعيًا وانتباهً يمكننانه من الإحاطة بالحواس والأشياء والأحداث من حوله إحاطة شبه تامة أو تامة، وبالتالي اكتشاف الروابط والعلاقات بينها، بحيث يصبح واعيًا لنفسه وذاته كجزءٍ من الكل المحيط به دون تناقض أو صراع داخلي غير مفهوم.