“اختفاء لغة من اللغات يؤدي أيضا إلى اختفاء العديد من أشكال التراث الثقافي غير المادي، لا سيما ذلك التراث الثمين القائم على التقاليد، وعلى أشكال التعبير الشفهي من قصائد وأساطير وأمثال ونكات، لدى المجتمعات التي تتداولها. كما أن فقدان اللغات يجري على حساب العلاقة التي يقيمها الإنسان مع التنوع البيولوجي حوله، لأن اللغات تنقل في الحقيقة الكثير من المعارف عن الطبيعة والكون”، هذا ما قاله المدير العام لليونسكو كويشيرو ماتسورا عن اللغات المهددة بالانقراض.
واجهت إفريقيا على مدى العقود الماضية عدوانًا أوروبيًا واسعًا من بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا، وجاء على صورة ضغوط دبلوماسية وحركات استعمارية وتدخلات سياسية وانتهاكات اجتماعية ابتلعت كنوز أرضها وحقوق مواطنيها بوحشية، فغيرت من حاضر البلاد وتحكمت بمستقبلها، فلقد عرفت هذه الدول الاستعمارية بحيلها وأساليبها التي تزيدها نفوذًا وهيمنة.
خلقت الدول الاستعمارية في إفريقيًا إحساسًا مشوهًا بين الأفارقة وهويتهم وتاريخهم الثقافي، فمنذ فترة الاستعمار، بدأت الكلمات والمفردات الإفريقية بالاختفاء، حيث قل استخدامها وتداولها في المدارس والمنازل والشوارع، وأصبحت لغة المستعمر هي اللغة الرسمية في البلاد، وما بقي من اللغات المحلية فلقد أصبح غير واضح المعنى أو مهدد بخطر الانقراض أو محصور في دائرة معينة، وهذا ما قلل من أهمية اللغة الأم، فما المشكلة من ضياع اللغة؟ وكيف استخدم الاستعمار اللغة كأداة لإضعاف هذه الدول؟
إفريقيا تتكلم أكثر من ألفي لغة
من بين ست آلاف لغة في العالم، تحتوي إفريقيا على ثلث لغات العالم، 80% منها لا تملك صياغة كتابية محددة، وهذا بالمقارنة مع أوروبا التي تملك ثمن سكان العالم وتضم نحو 300 لغة فقط. تنقسم اللغات الإفريقية إلى 1436 لغة إلى أسرن نيجر كونغو، و371 أفروآسيوية، و196 لغة نيل صحراوية، و35 لغة خويسان في جنوب القارة.
يرجح العلماء هذا الغنى اللغوي بالتنوع الجيني والعرقي في البلاد، الذي يعود إلى نظرية “الخروج من إفريقيا” التي تقول بإن الإنسان الحديث ظهر في إفريقيا قبل مائة ألف عام وأنطلق منها مهاجرًا، وهذه الأصول أدت إلى إحداث تنوع جيني عالٍ في القارة وحفزت أنواع أخرى للظهور.
دولة بابوا غينيا الجديدة تضم أكبر تنوع لغوي في العالم بامتلاكها على أكثر من 800 لغة متداولة
إضافة إلى، اعتماد الكثير من الملوك الأفارقة القدامى على المترجمين من مختلف المناطق التي حكموها؛ ما ساعد في ازدهار لغات مختلفة فيها، وهذا بالعكس من الامبراطوريات الأوروبية التي كانت تفرض لغتها الأجنبية على مستعمراتها.
لكن هذا العدد الهائل من اللغات والتنوع اللغوي اختفى منه الكثير، ومن المرجح جدًا أن يختفي ما لا يقل عن 10 في المائة مما تبقى خلال القرن القادم، إلا أن دولة بابوا غينيا الجديدة مثلًا، التي تضم أكبر تنوع لغوي في العالم بامتلاكها على أكثر من 800 لغة متداولة تعتبر بين أقل الدول احتواء على اللغات المهددة، إضافة إلى غانا التي أضافت لغتها المحلية بالجانب إلى اللغة الإنجليزية لتعليم الأطفال في المدارس مع الحفاظ على ثقافتهم، ومع ذلك، فهناك نحو 50 لغة تواجه الخطر في الجنوب.
كيف أذى الاستعمار اللغات الإفريقية؟
وصلت اللغات الأوروبية إلى إفريقيا كوسيلة للتواصل والترجمة، ومع الأطماع السياسية والاقتصادية، تداخلت الألفاظ الأجنبية مع اللهجات المحلية، وتسارع اختفاء الكلمات الإفريقية مع السياسات اللغوية الرسمية التي اعتمدتها الدول في نظامها التعليمي، إلى جانب تأثير الأفكار الاجتماعية التي نشرتها القوى الاستعمارية بين الشعوب الإفريقية.
روجت الدول الاستعمارية إلى أن العادات واللغات الإفريقية هوية الشعوب الهمجية المتخلفة، وأن استخدام اللغات الأجنبية وإهمال هذه التقاليد القديمة يعني الانضمام إلى الجزء المتقدم من العالم والانتماء إلى حضارة جديدة، وهذه الدعايات السياسية أفقدت الإفريقي هويته وتاريخه وعواطفه الوطنية، وقللت من قيمته الثقافية وعززت الوجود الأجنبي والتمدد الأوروبي حتى يسعى الإفريقي للحصول على اهتمام المستعمرين وامتيازاتهم ويصبح منهم.
كان البلجيكيون يقومون بتسمية مستعمريهم من البانتو في الكونغو بالمتطورين أي الذين تطوروا من الوحشية إلى التمدن والتحضر
على سبيل المثال، اعتادت البرتغال على مكافأة الإفريقي الذي وصل إلى مستو معين من اللغة والمعرفة، وكان البلجيكيون يقومون بتسمية مستعمريهم من البانتو في الكونغو بالمتطورين أي الذين تطوروا من الوحشية إلى التمدن والتحضر بفضلهم، إضافة إلى الإنجليز الذين دعوا الأفارقة إلى التفكير بالعقلية الإنجليزية المرنة لتحقيق التنمية الإفريقية.
وهذا ما كتب عنه أدوين سميت في القرن الثامن عشر عندما وضح طرق الاستعمار الأوروبي في قمع الدول الإفريقية، فقال: “أول طريقة هي تدمير المؤسسات والتقاليد والدين، والبناء على أطلالها ما تؤمن به القوة الاستعمارية على أنه أفضل نظام للحكم البلاد”.
أما بالنسبة إلى ماتياس برينزنجر، مدير مركز التنوع اللغوي الإفريقي في جامعة كيب تاون، فيقول إن “تم القضاء على الكثير من لغات جنوب إفريقيا من قبل المستوطنين البيض، وفي بعض الأحيان بدعم من السكان المحليين، ولا شك أن الإبادة الجماعية لعبت دور رئيسي في انقراض هذه اللغات”.
في الخمسينيات من القرن الماضي، أطلق عدد من المحطات الإذاعية باللغات الأوروبية مثل البرتغالية والإنجليزية والفرنسية في الدول الإفريقية، واهتمت فرنسا بشكل خصوصي في الجرائد والمجلات والقنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية لنشر لغتها على أوسع نطاق والتضييق على اللغات المحلية الأخرى.
أوغندا اعتمدت نظام التعليم البريطاني واللغة الإنجليزي كلغة رسمية في شرق أفريقيا، في حين أن هناك أكثر من 60 لغة محلية أخرى.
وفي ظل هذه التراكمات السياسية، دمجت اللغات الأجنبية وأهمها الإنجليزية والفرنسية داخل المناهج التعليمية في المدارس الإفريقية، فحتى بعد استقلال بعضها من الاستعمار إلا أنها لم تنجح في النجاة من قيود اللغة الأجنبية مثل أوغندا التي اعتمدت نظام التعليم البريطاني واللغة الإنجليزي كلغة رسمية في شرق أفريقيا، في حين أن هناك أكثر من 60 لغة محلية أخرى.
والبعض الآخر من الدول الإفريقية توجه إلى سياسة اللغات الثنائية، والتي تجمع بين لغة أم أو محلية ولغة أجنبية، مثل تنزانيا وكينيا اللاتي اتخذتا اللغة السواحيلية والإنجليزية كلغتين رسميتين في البلاد، أما نيجريا فاعتمدت اللغة الفرنسية والإنجليزية ضمن سياستها الرسمية، وهذا النظام لم يترك المجال للغات المحلية بالازدهار، وهذا ما يثير التساؤل حول مدى وعي واهتمام الحكومات المحلية باتباع سياسات لغوية تدعم من وجودها اللغوي في وسط هذه الفوضى الثقافية والمعرفية.