الأشهر القليلة التي سبقت مرحلة الاحتلال الأمريكي للعراق كانت متميزة في أنها شاملة لكل صور المؤامرات التي يمكن أن تخطر على الفكر البشري الشرير، وفي طياتها العديد من صور المخدرات الآكلة لعقول العراقيين.
المخدرات التي غزت العراق لم تكن فقط تلك المادة الدوائية المعروفة للجميع وإنما هي مخدرات من نوع خاص بالعراقيين، ومن بينها المخدرات الفكرية والعقائدية والاقتصادية الوهمية التي نشرت بين العراقيين أوهامًا مفادها أنهم سيجعلون بغداد أجمل من طوكيو وباريس، وأن العراق سيكون تجربة نموذجية في الشرق الأوسط.
وبعيدًا عن أنواع المخدرات الفكرية نحاول اليوم تسليط الضوء على آفة المخدرات التي غزت العراق بعد العام 2003، في حين كانت بلاد الرافدين تعد في بداية السبعينيات من الدول الخالية من المخدرات ذلك لأن الدولة بكل مؤسساتها المدنية والأمنية والمجتمع بطبقاته كافة تفهموا أنها السم القاتل الذي يدمر الأخلاق والقيم والمبادئ فضلًا عن صحة الإنسان ودوره في البناء والعطاء، لذلك ساهم الجميع في إيقاف هذا الداء القاتل، وكانت النتيجة إعلان العراق خال من المخدرات في العام 1972.
وبعد الغزو العراقي للكويت بدأت قوى الشر تحاول إدخال هذه السموم القاتلة إلى العراق وقد نجحت بشكل نسبي في إدخال المخدرات بمقدار لا يمكن تحديده، ورغم أن العقوبات القانونية في مرحلة ما قبل الاحتلال تصل إلى الإعدام، كما نص قانون المخدرات رقم (68) لسنة 1965، فقد لاحظنا وجود بعض صور الاتجار والتعاطي بسبب الحصار الاقتصادي القاتل الذي فرض على العراق لأكثر من 12 عامًا، انتهت بالاحتلال في العام 2003.
إحصائية لمكتب (المخدرات ومتابعة الجريمة) التابع للأمم المتحدة كشفت أن “من بين كل عشرة أشخاص تتراوح أعمارهم بين 18 و30 سنة يدمن ثلاثة على المخدرات”
في مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، انقلبت الصورة تمامًا وأصبح العراق سوقًا مهمة لبيع المخدرات وممرًا واسعًا، وربما دوليًا لمرورها، من إيران وأفغانستان نحو دول الخليج العربي، وربما صارت المخدرات من أبرز أنواع التجارات التي تدر على المتاجرين بها ملايين الدولارات في بلد امتازت فيه المنظومة الأمنية بالضعف أو ربما التواطؤ في بعض الأحيان مع أولئك التجار، وقد كان لقوات الاحتلال الأمريكي وغيرها الدور البارز في التغاضي عن تجارة المخدرات عبر إستراتيجية يراد منها تدمير المجتمع على المدى المنظور.
ورغم تنامي ظاهرة المخدرات في المجتمع لا توجد إحصائية دقيقة عن عدد المدمنين في العراق، إلا أن إحصائية لمكتب (المخدرات ومتابعة الجريمة) التابع للأمم المتحدة كشفت أن “من بين كل عشرة أشخاص تتراوح أعمارهم بين 18 و30 سنة يدمن ثلاثة على المخدرات”، فيما بيّن التقرير أن “من بين كل ثلاثة منتسبين في القوات الأمنية يتعاطى واحد مادة مخدرة”.
ويمكن تحديد أهم أسباب انتشار المخدرات في العراق بعد العام 2003، ومنها:
1-ضعف الوازع الديني لدى الكثير من المتعاطين.
2-تغول بعض المسؤولين وأولادهم وتبنيهم لتجارة المخدرات.
3-استغلال الزوار الإيرانيين مناسبات زياراتهم للعتبات المقدسة في العراق لإدخال المخدرات.
4-زراعة الحشيشة بأنواعها كافة في بعض المدن العراقية.
5-الدمار السياسي واستمرار حالة عدم الاستقرار فتحت الباب على مصراعيه لتجارة المخدرات في بيئة قلقة وربما غير مطمئنة.
6-فقدان السيطرة على المنافذ الحدودية بشكل واضح، رغم وجود بعض الجهود للقبض على كميات كبيرة من المخدرات بين حين وآخر.
7-تنامي المشاكل الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة.
8-عدم وجود أمكان ترفيه عامة يمكن أن يقضي فيها الشباب أوقاتهم.
9-عدم وجود توعية ثقافية كافية سواء أكانت إعلامية أم دينية أم حتى تربوية لبيان خطورة المخدرات على حياة الإنسان ومستقبله.
10-عدم وجود مادة قانونية قاسية يمكن أن تردع تجار المخدرات بعد إيقاف العمل بالمادة (68) التي تحكم بالإعدام لتجار المخدرات.
ذكرت بعض وسائل الإعلام العراقية أنه سُجلت أكثـر من 7000 حالة إدمان على المخدرات في العراق خلال عام 2017 الماضي
إن انتشار المخدرات في العراق جاءت نتيجة العوامل التي ذكرت، وكذلك عدم وجود عقوبات صارمة على تجارة المخدرات، فالتاجر يمكن أن يحكم وفق المادة (206) عقوبات بالحبس ستة أشهر فقط، ولا يوجد في القانون العراقي غيرها، وبعد استفحال قضية المخدرات أصدر المشرع في العراق قانون المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 50 لسنة 2017 الذي تصل فيه العقوبة إلى الإعدام لتجار المخدرات والمؤثرات العقلية، ورغم ذلك ما زالت المخدرات تغزو السوق العراقية وذلك لوجود تواطؤ من بعض المسؤولين والقيادات الأمنية مع تجار المخدرات.
اليوم في العراق لا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد المدمنين، رغم انتشار هذه الظاهرة في البلد بشكل واضح، فقبل يومين كشف شرطة محافظة الأنبار – 112 كيلومترًا غربي بغداد – أن “عددًا غير قليل من الشباب – بينهم طلبة جامعات – أصبح مدمنًا بشكل مخيف على الحبوب المخدرة، وأغلب الأشخاص الذين يتولون مهمة تهريب المخدرات من العاصمة بغداد يوجدون في مدينة الرمادي وبلدة الخالدية المجاورة، وأن تهريب الحبوب المخدرة يتم بالتنسيق مع بعض العناصر الأمنية الذين يتعاطون المخدرات ويقبلون تمريرها مقابل الحصول عليها”.
والغريب أن المصدر في شرطة الأنبار أكد أن “شرطة الأنبار نفذت أكثر من عملية مداهمة للمقاهي والقاعات الرياضية المشبوهة وعثرت على مواد مخدرة يتم تناولها عن طريق النارجيلة أو بشكل مباشر على شكل حبوب”، وأنه “في أغلب الأحيان يتم إطلاق سراح الشباب المتورطين بتداول وترويج المخدرات لأسباب عشائرية، أو نتيجة للضغوط التي تُمارس من بعض المسؤولين”!
المخدرات لا يمكن القضاء عليها دون وجود حملة وطنية قائمة على أساس التكاتف المجتمعي والمدعوم بمنظومة أمنية قادرة على ردع التجار
وفي بداية العام الحاليّ ذكرت بعض وسائل الإعلام العراقية أنه سُجلت أكثـر من 7000 حالة إدمان على المخدرات في العراق خلال عام 2017 الماضي، وقُدّرت معدلات الإدمان بين الشباب العراقي بنسب تتراوح بين 4 و5%، وقد صُنّفت بغداد في المرتبة الثانية بعد البصرة التي تتصدر مدن البلاد بكمية تعاطي المخدرات والاتجار بها، وخلال العام 2017 اُعتقل 1450 تاجر مخدرات في البصرة وحدها!
فإذا كان عدد التجار في البصرة وحدها في العام 2017 بلغ 1450 تاجرًا فكم عدد المتعاطين للمخدرات في البصرة، وكم أعدادهم في عموم العراق؟
المخدرات لا يمكن القضاء عليها دون وجود حملة وطنية قائمة على أساس التكاتف المجتمعي والمدعوم بمنظومة أمنية قادرة على ردع التجار، ويساهم في هذه الحملة الأوقاف الدينية للديانات والمذاهب كافة، وكذلك وسائل الإعلام المختلفة، وإلا فإنها ستقضي على شباب العراق وحينها لا ينفع الندم!