تشتهر منطقة الوطن القبلي، شمال شرق تونس، بمزارع جميع أنواع القوارص وأشجار”النارنج” (الأرنج) التي توفر أكثر من 90% من الإنتاج التونسي من ماء الزهر، حيث تحتفل أغلب الأسر في مدن نابل وبني خيار ودار شعبان الفهري، بحلول فصل الربيع، بجمع أزهار شجر النارنج (الأرنج)، بروائحه الفواحة والزكية، وتحويله إلى “ماء الزهر” ليُسوق داخليًا وخارجيًا، في موسم هو العيد في أبهى مظاهره في هذه الربوع التي تقطر خضرة وجمالًا.
وموسم تقطير “الزهر” يعتبره أهالي هذه المنطقة عيدًا سنويًا، حيث تنظم المهرجانات في هذه المدن، خلال شهري أبريل ومايو من كل عام، فيتم الاستعداد لهذا الموسم وتتحول حقول القوارص وأشجار “النارنج” إلى خلية نحل لا تهدأ، وتنطلق عملية جمع الزهر وتجميعه، ثم تحويله إلى “ماء الزهر” من خلال عمليات التقطير، تقليدية كانت أم عصرية، فتضفي على كامل الشمال الشرقي التونسي، خلال هذه الفترة من كل عام، حركية تجارية وثقافية كبيرة.
النساء والأرنج
ولأنه من الأعياد التقليدية، فإن النساء يجتمعن حول “القطار العربي”، وهي آنية كبيرة من النحاس أو الفخار، وتتعاون في عملية تقطير الزهر وإعداد “العولة”، أي ما يحتفظ به في المنزل من ماء الزهر، لاستهلاكه خلال عام كامل وعدم اللجوء إلى شراء ماء الزهر المتوفر في الفضاءات التجارية الكبرى، وتتم عملية تجميع ماء الزهر فيما يطلق عليها “الفاشكة” وهي قارورة بلورية أو آنية شفافة، يعرض فيها ماء الزهر.
يؤكد مؤرخون تونسيون ومنهم الدكتور أنور المرزوقي، أن المهاجرين الأندلسيين إلى تونس الذين استقر أغلبهم في جهة نابل، جلبوا معهم شجرة الأرنج التي كانت منتشرة في إسبانيا
وبالتزامن مع عطلات الطلبة في المدارس والمعاهد، تتحول عائلات تونسية عديدة للاطلاع على هذا الحدث المهم في حياة التونسيين الذين يتزودون بماء الزهر الصافي والنقي مباشرة من المنتج إلى المستهلك، فهو يستعمل في أكلات عديدة، ويضيف إليها رائحة ومذاقًا مميزين.
ويستفيد أهل منطقة الوطن القبلي من هذا المنتج الذي يدر عليهم نحو مليوني دولار، عبر استغلال نحو 150 ألف شجرة نارنج على مساحة لا تقل عن 450 هكتارًا، ويصل معدل الإنتاج السنوي من زهر النارنج إلى نحو 1500 طن.
الأندلسيون وزهرة الأرنج
يؤكد مؤرخون تونسيون ومنهم الدكتور أنور المرزوقي، أن المهاجرين الأندلسيين إلى تونس الذين استقر أغلبهم في جهة نابل، جلبوا معهم شجرة الأرنج التي كانت منتشرة في إسبانيا، قادمة من الصين، وتطورت زراعة شجر الأرنج وتقنيات استثمار زهرها من خلال استخراج ماء الزهر.
مهرجان الزهر
في مدينة نابل، يسدل الستار مساء أمس الإثنين على الدورة الثالثة لمهرجان الزهر بنابل التونسية، شمال شرق تونس، مهرجان الزهر ينظم سنويًا، حيث تنصب الخيام على طول الشارع الرئيسي للمدينة، ويكتشف الزائر أنواع الزهر وطريقة تقطيره وتحويله إلى ماء الزهر الذي تتعدد استعمالاته، سواء في مواد صيدلانية أو مأكولات تونسية.
وأكد محمد الصالح أحد التجار لـ”نون بوست”، أن الموسم يمتد بين نهاية شهر مارس حتى شهر أبريل من كل عام، حيث يُجمع الزهر الذي يتحول إلى “بلوط”، مضيفًا: ننتج من زهر الأرنج ماء الزهر وزيت “النيرولي” (روح الزهر) الذي يصدر إلى أوروبا وتصنع منه جميع أنواع العطور الممتازة، ويباع بأسعار مرتفعة جدًا.
في محافظة نابل التونسية، شمال شرق تونس، يقدر الإنتاج السنوي بنحو 1500 طن من الزهر
فوائد ماء الزهر
لماء الزهر أهمية كبيرة وفوائد جمة، حيث يتم توظيفه في عديد من المجالات، وخاصة المواد الصيدلانية والأكلات والحلويات، وقال الصالح: “يستعمل ماء الزهر لخفض حرارة الجسم والتوقي من ضربة الشمس، وكذلك لعلاج البشرة والمساعدة على النوم الهادئ”.
بدورها، قالت منوبية، وهي تسهر على عملية التقطير مع نساء أخريات: “إنه العيد، موسم الزهر وتقطيره، حيث تشارك كل العائلات في عمليات التقطير، وبطريقة تقليدية”، مضيفة “في هذه الجهة، نعمل على المحافظة على هذه التقاليد، وموسم الزهر أصبح تراثًا في حد ذاته”.
1500 طن من الزهر
في محافظة نابل التونسية، يقدر الإنتاج السنوي بنحو 1500 طن من الزهر، كما تم تركيز عشر وحدات تحويلية لإنتاج ماء الزهر وتصدير زيت “النيرولي” الثمين جدًا، إلى أوروبا، حيث يتم استخدامه في إعداد مواد التجميل، والعطور الفاخرة والرفيعة.
يستخرج من الطن الواحد من الزهر نحو 600 لتر من ماء الزهر وكيلوغرام أو أكثر بقليل من زيت “النيرولي”، ويُصدر سنويًا نحو 600 كيلوغرام من زيت “النيرولي” إلى فرنسا، توفر نحو مليوني دولار من العملة الصعبة.