تعدّ الغيرة شعورًا بشريًّا لا تكاد تخلو أي علاقة رومانسية أو عاطفية منه ومن السلوكيات والتصرفات التي تتطوّر جرّاءها. ولو جئنا لتعريفها فيمكن القول باختصار بأنها ردّ الفعل الناشئ أو الناتج عن الشعور بالتهديد الذي قد يحيط بالعلاقة من طرفٍ ثالثِ منافس، سواء كان شعورًا حقيقيًّا أو وهميًّا.
غالبًا ما تتراوح مستويات الغيرة وتختلف، تمامًا كما تختلف السلوكيات المصاحبة لها، فهناك الغضب أو السخط أو الازدراء أو الخوف، أو حتى قد تصل لمرحلة جرائم القتل أو الاعتداء الجسدي، لا سيّما بين الزوجات والزوجات السابقات، أو قد تصبح شكلًا من أشكال التملّك غير الصحي الذي يتحوّل لوسواسٍ يعيق استمرارية الحياة بشكلٍ طبيعيّ من خلال بعض الممارسات مثل المراقبة والتتبع أو محاولة التفرّد بالشريك في كافة الأوقات ومنعه من الالتقاء بالأصدقاء وإقامة العلاقات الاجتماعية.
ولكن على الرغم من كلّ ذلك، تؤدي الغيرة غرضًا أساسيًّا في العلاقات الإنسانية؛ ولذلك علينا بدايةً أنْ نتفق أنّ شعورنا بالغيرة على الحبيب أو الزوج، أو فلنسمّه هنا “الشريك العاطفي”، ليس خطأً أو ضعفًا؛ إنه نتيجة عدم التوافق بين منظومة المنطق والاستنتاج التي ورثناها خلال تاريخنا التطوّريّ من جهة وبين الطبيعة المعقّدة للحياة اليومية التي نواجهها في وقتنا الحالي من جهةٍ أخرى.
الغيرة في العلاقات العاطفية هي استجابة موروثة زادت من فرصنا للبقاء على قيد الحياة
فنحن عاجزون تمامًا عن إعادة تشكيل شخصياتنا وذواتنا بالكامل بعيدًا عن جيناتنا التي تعود بأصلها إلى أسلافنا قبل ملايين السنين. وبكلماتٍ أخرى؛ نحن محكومون بطبيعتنا بتشكيل حياتنا ومعالجة العالم من حولنا من خلال الآليات التي خضعت لها أدمغتنا خلال مراحل تطورها منذ بدء الخليقة لكي تتمكّن من البقاء والنجاة في البيئات الكارثية آنذاك.
ولكي نفهمَ لماذا نغار ولماذا نرغب بتملّك الشريك أو نغضب وندخل في حالة من الذعر والتهديد في حال شعرنا بوجود طرفٍ ثالث، لا بدّ لنا من النظر في علم النفس التطوّري قبل كلّ شيء، فأيّ تفسيرٍ بعيدًا عنه سيكون ناقصًا لا يُعطي الإجابة الشافية.
وفقًا لعلماء النفس التطوريّين، فقد تطوّرت الغيرة عند الإنسان منذ ملايين السنين، إذ كان على الذكر أنْ يمتلك أنثاه خوفًا من أنْ تحمل في بطنها جيناتٍ لسلالة ذكرٍ آخر. لكنْ على الصعيد المقابل، فالتهديد الحقيقيّ عند الأنثى كان إذا أصبح الرجل مرتبطًا عاطفياً بامرأة أخرى، ما يعني فقدانها لمصدر الحماية والأمان الغذائي في تلك البيئة الطاحنة التي يسعى الجميع فيها للبقاء على حساب الآخر.
غيرة الذكر على الأنثى كانت خوفًا من أنْ تحمل في بطنها جيناتٍ لسلالة ذكرٍ آخر أما التهديد الحقيقيّ عند الأنثى كان إذا أصبح الرجل مرتبطًا عاطفياً بامرأة أخرى، ما يعني فقدانها لمصدر الحماية والأمان الغذائي
ونتيجة لتلك الضغوط المختلفة للبقاء على قيد الحياة منذ فترة طويلة، فيرى علم النفس التطوّري أنّ أدمغة كلٍ من الرجال والنساء مبرمجة بأشكال مختلفة حيال الاستجابة لخيانة الشريك العاطفي؛ حيث يكون الرجال أكثر حساسيةً تجاه الخيانة الجنسية، والنساء أكثر خوفًا حيال الخيانة العاطفية.
ولتوضيح أكبر؛ الغيرة في العلاقات العاطفية هي استجابة موروثة زادت من فرصنا للبقاء على قيد الحياة. فبالنسبة للرجل، فإنّ الخيانة الجنسية ستؤدي إلى عدم يقينه في أبوّة أبنائه نظرًا لغيابه الدائم عن عائلته لطبيعة حياة الصيد والترحال، ما يعرّض فرصه للبقاء وتمرير جيناته لخطرٍ صريح.
أما بالنسبة للمرأة، فإنّ خيانة شريكها الجنسيّ لها لا تعرّض يقينها بطفلها للتساؤل والشكّ، فالطفل لها بغض النظر عن والده، لكنّ الخيانة العاطفية هي الأهمّ عندها، فإذا أصبح شريكها مهتمًا بامرأة أخرى، فإن ذلك سيؤدي إلى فقدان وقته واهتمامه وطاقته وموارده وحمايته والتزامه بأطفاله، وهذه الخسارة تشكّل ضرورةً لنموّ مشاعر الغيرة العاطفية بقدرٍ أكبر من غيرتها الجنسية.
ذلك الاختلاف في أسباب الغيرة لا يعني أبدًا أنّ النساء لا تهتم بالخيانة الجنسية أو أنّ الرجال لا يهتمون بالخيانة العاطفية، بل على العكس من ذلك تمامًا، فكلا الجنسين يهتمان لكافة أنواع الخيانة ويطوّران شعورًا بالغيرة ولكن بنسبٍ مختلفة.
يرى الكثيرون أنّ الغيرة ما هي إلّا نتاج ثقافاتٍ وعوامل مجتمعية متعددة وليست نتاجًا للتطور كما افترضت النظرية الداروينية.
وفي الوقت نفسه، ما يزال الكثير من العلماء الآخرين غير مقتنعين بنظريات علم النفس التطوّري هذه، ولذلك يجادلون دومًا بأنّ اختلافات وجهات النظر بين الرجال والنساء التي ينسبها علماء النفس التطوري إلى عملية الانتقاء الطبيعي، مثل الغيرة وميل الرجال إلى تعدد الزوجات والنساء إلى العلاقة الأحادية، ما هي إلّا نتاج ثقافاتٍ وعوامل مجتمعية متعددة وليست نتاجًا للتطور كما افترضت النظرية الداروينية في القرن الماضي.
فالغيرة بالنسبة لهم ليست واضحة بشكل متساوٍ في جميع الثقافات، ممّا يشير إلى أنه حتى لو كان لها جذورًا جينية وأساساتٍ بيولوجية في الدماغ، إلا أنّها لا تخلو بكونها سلوكًا بشريًّا من مكوّناته الاجتماعية والثقافية القوية. وبكلماتٍ أخرى؛ فالغيرة عندهم هي سلوكٌ يمكن زراعته في النفس بشكلٍ جزئيّ نتيجة العوامل البيئية المحيطة بالأفراد.
قد تتلخص تلك العوامل البيئية أو الاجتماعية بالخوف من فقدان الشريك أو فقدان وجوده الكامل، الأمر الذي يمكن ترجمته بكونه شعورًا ناتجًا عن الخوف من اهتزاز صورة الذات أمام طرفٍ ثالث أو أمام المجتمع ككلّ، نظرًا لأنّ فقدان الشريك لطرفٍ آخر قد يعني تفوّق ذلك الطرف أكثر.
ويميل آخرون للاعتقاد أنّ المسألة هي مسألة لغة ليس إلا، فالمشاعر التي تشعر بها في حال خوفك من فقدان الشريك أو شعورك بالتهديد حيال ذلك ما هي إلا مشاعر حزنٍ، أو شعورك بعدم العدل لاختياره شخصًا آخر غيرك في حين أنّك ما زلت تختاره وتميل إليه، غير أنك تعجز عن التعبير عن حزنك أو تصف حالتك، فتظنّ أنّ تلك المشاعر هي مشاعر الغيرة.
وبغض النظر عن الأسباب التي تدفعك للإحساس بتلك العواطف والمشاعر، فمما لا شكّ فيه أنّها ضرورية وأساسية لبناء المنظومات الاجتماعية والعلاقات العاطفية، لكنّ المشكلة تكمن في كيفية فهمها وإسقاطها على واقع العلاقة دون الإضرار بها أو تحويلها لوسواسٍ قهريّ قد يخرّب أو ينهي كلّ شيء.