يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي تصعيده الإجرامي ضد الفلسطينيين في غزة لليوم الـ283، حيث استهداف مقومات الحياة كافة، وتدمير كل ما فوق الأرض وتحتها من شجر وبشر وحجر، مدارس ومشافي ومراكز إيواء وخيام لاجئين، محاولًا محو القطاع عن بكرة أبيه.
خلال الساعات الـ24 الأخيرة فقط ونتيجة 4 مجازر ارتكبها الاحتلال ضد العائلات في غزة، استشهد نحو 141 فلسطينيًا فيما أصيب 400 آخرين، لترتفع حصيلة الحرب منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى 38 ألفًا و584 شهيدًا و88 ألفًا و881 مصابًا وأكثر من 10 آلاف في عداد المفقودين، وتدمير ما يزيد على ثلثي القطاع وتشريد مليوني مواطن وتعريض حياة عشرات الآلاف من النساء والأطفال للموت جوعًا.
وفي مواجهة اللوحة التي تتقطر إجرامًا وانتهاكًا لأبجديات حقوق الإنسان، تصر الحكومات العربية على ألا تفارق مكانها، حيث الصمت والتجاهل والاكتفاء بالشجب والتنديد السلبي، بل وصل الأمر إلى تورط بعضها في حرب الإبادة تلك من خلال الدعم المقدم للكيان المحتل بشكل أو بآخر، وتحولها مع مرور الوقت إلى خنجر في ظهر المقاومة، لتقدم واحدة من أقبح صور الخذلان في التاريخ الحديث.
ذر الرماد بثلاثية الشجب والإدانة والاستنكار
لم يتغير الخطاب الرسمي العربي منذ بداية الحرب وحتى شهرها العاشر، مستندًا إلى ثلاثية الشجب والإدانة والاستنكار، دون مواقف حازمة تدفع الاحتلال إلى إعادة النظر في سياسة الأرض المحروقة التي يتبعها بحق الشعب الفلسطيني، إذ كان الموقف العربي هو الأضعف في حلقة المواقف الدولية إزاء حرب الإبادة التي تُشن ضد سكان القطاع.
استهل الموقف العربي مشواره إزاء تلك الحرب متأرجحًا بين إدانة عملية طوفان الأقصى والمطالبة بضبط النفس، ثم وصل هذا التأرجح الفاضح إلى أروقة مجلس الأمن والأمم المتحدة، ثم تحول تدريجيًا بعد العمليات البرية العسكرية الإسرائيلية نحو اللهجة الدبلوماسية الخالصة التي تطالب بالتهدئة، وصولًا إلى حالة الجمود مع تجاوز الجرائم الإسرائيلية مستويات غير مسبوقة من الوحشية والإبادة.
وأمام المناشدات الشعبية والنخبوية باستخدام أوراق الضغط التي بحوزة العرب لإثناء الكيان المحتل عن جرائمه، خاصة بعد توغله في العمليات الوحشية التي استهدفت وبشكل مباشر المشافي والمدارس ومراكز الإيواء، لم تحرك الأنظمة ساكنًا، حيث حاولت تبرئة ساحتها بعقد عدد من المؤتمرات واللقاءات والقمم المصغرة ثم إصدار عشرات البيانات التي تندد فيها وتطالب بإنهاء الحرب، لكن دون أي قرار عملي أو إجراء رسمي أو موقف يغير قواعد اللعبة.
المثير للدهشة هنا أنه في الوقت الذي اتخذت فيه بعض الدول غير العربية قرارات سياسية حاسمة تعبيرًا عن رفضها للانتهاكات الإسرائيلية الوحشية بحق الفلسطينيين مثل طرد سفراء الاحتلال لديها، تمسكت البلدان المطبعة مع الاحتلال بإبقاء العلاقات الدبلوماسية كما هي دون أي تغير ولو طفيف حتى، بل إن بعض الدول مثل الإمارات وقعت مع الجانب الإسرائيلي اتفاقية الطريق البري بين حيفا ودبي، علاوة على استضافتها “بحفاوة” رئيس دولة الاحتلال في قمة تغيّر المناخ للأمم المتحدة، وتوقيع مذكرة تفاهم جديدة بين النظامين الإسرائيلي والإماراتي للتعاون في مجال التوصيل الكهربائي.
شركاء في حرب الإبادة
يمثل الاقتصاد ورقة ضغط قوية في الحروب يمكن الاستعانة بها للضغط على الخصوم، بل يمكنها أن تتفوق على الورقة السياسية في كثير من الأحيان، وفي حرب غزة يمثل الاقتصاد لاعبًا أساسيًا في ملعب الأحداث يمكنه أن يحدث الفارق ويقلب الموازين، وهو ما وضعته المقاومة في الاعتبار.
ومن ثم جاءت استراتيجية المقاومة في أحد مرتكزاتها مستندة على تلك الورقة، يقينًا بما يمكن أن تمثله من أهمية في الضغط على الكيان المحتل لإنهاء الحرب وتجنب إطالتها في ظل الخسائر التي يتكبدها، حيث الكلفة الباهظة لإقامة أكثر من نصف مليون إسرائيلي في الفنادق والملاجئ بعدما غادروا مستوطنات الغلاف، هذا بخلاف الطوق الاقتصادي الذي فرضه الحوثيون باستهداف السفن القادمة للموانئ الإسرائيلية، ما شكل حصارًا اقتصاديًا معتبرًا أثار قلق الإسرائيليين، حكومة ومستوطنين.
وفي ظل هذا القلق المتنامي والمطالبات بإنهاء الحرب، اليوم قبل الغد، إذ بالمدد يأتي من الخارج، لكن المفاجأة أنه جاء من بعض البلدان العربية، وهو ما فضحه تقرير صادر عن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي عن حجم التجارة الخارجية لدولة الاحتلال خلال النصف الأول من هذا العام، حيث كشف مضاعفة 5 دول عربية (الإمارات – مصر – الأردن – المغرب – البحرين) حجم تجارتها مع تل أبيب، استيرادًا وتصديرًا، منذ بداية حرب غزة، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.
التقرير أشار إلى أن حجم الصادرات العربية الإسرائيلية بلغ أكثر من ملياري دولار منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى يونيو/حزيران 2024، تستحوذ الإمارات على النصيب الأكبر منها، نحو 81%، وهو ما ينسف بطبيعة الحال التصريحات المضللة الصادرة عن تلك البلدان بشأن دعم الفلسطينيين والضغط على دولة الاحتلال.
وبينما كانت تعاني دولة الاحتلال من حصار اقتصادي جراء توتير الأجواء في البحر الأحمر، كشف موقع “والا” العبري في 16 ديسمبر/كانون الأول الماضي وبعد شهرين من الحرب، عن وصول الدفعة الأولى من الشحنات التجارية التي أرسلتها الإمارات إلى تل أبيب، لمساعدتها في مواجهة الحصار الحوثي على مضيق باب المندب، وذلك عبر الجسر البري الذي يمتد من الأراضي الإماراتية إلى ميناء حيفا عبر السعودية والأردن، وسط احتفاء إسرائيلي كبير بهذا الدعم غير المتوقع من الدول العربية.
وبذلك قدمت الدول العربية لـ”إسرائيل” فرصة على طبق من ذهب، إذ خلصتها من واحدة من أخطر أوراق الضغط المؤثرة التي كانت تعول عليها المقاومة، الأمر الذي يجعل من تلك البلدان العربية شريكًا أساسيًا في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، بحسب اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة “إسرائيل” (BDS).
الموقف الإعلامي.. تبني السردية الإسرائيلية
يلعب الإعلام وخطابه المستخدم في الحروب دورًا محوريًا في خلق رأي عام مؤثر في المشهد، يمكن أن يكون له انعكاساته على تطورات الميدان بالضغط على الحكومات والأنظمة، وهو ما حاول الكيان الصهيوني ترجمته بشكل متطرف، حيث تبنى خطابًا إعلاميًا مشيطنًا للمقاومة وممررًا لسرديات مضللة، ساعده على ذلك الإعلام الغربي الموالي، ما ساهم بداية الحرب في تدشين مزاج شعبي مناهض لحماس وداعم لجيش الاحتلال، قبل أن يثبت زيف تلك السرديات وكذبها لاحقًا.
وبينما كان الشارع العربي يعوّل على الإعلام العربي في إحداث التوازن بتبني خطاب داعم للمقاومة ومؤيد لحق الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم بمواجهة الانتهاكات الإسرائيلية المتتالية، جاءت النتيجة مخيبة للآمال، إذ تبنى الإعلام الرسمي لبعض البلدان، وعلى رأسه قناتي “العربية” السعودية و”سكاي نيوز” الإماراتية، ومعه الجيوش الإلكترونية الممنهجة، خطابًا مشيطنًا للمقاومة ومشككًا في نواياها وناهشًا في جسد قادتها ورموزها، عازفًا على وتر الدعم الإيراني لحماس وانصياعها لأجندة طهران، وهي السردية ذاتها التي يعتمد عليها الخطاب الإسرائيلي لتشويه قادة المقاومة وتوسيع الفجوة بينها وبين قاعدتها الشعبية في غزة.
ورغم الانتقادات التي تعرض لها هذا النوع من الإعلام والمطالبة بإعادة النظر في توجهاته وسياسته المتناقضة تمامًا مع مرتكزات العروبة والقومية وحتى الإنسانية، فإن ذلك لم يغير من الواقع شيئًا، فخلال الساعات الأخيرة وفي الوقت الذي انتفض فيه الجميع تنديدًا بمجازر الاحتلال في المواصي بخان يونس واستهداف مدارس الأونروا، التي أسقطت المئات من الشهداء في غضون أقل من يومين، تبنت قناة “العربية” ذات الرواية الإسرائيلية التي حاولت تبرير تلك المجازر باستهداف قادة حماس وعلى رأسهم قائد كتائب القسّام محمد الضيف ومسؤول خان يونس رافع سلامة، وهو ما دفع متابعون فلسطينيون وعرب لتدشين وسم #العربية_شريك_في_الإبادة، ليعبّروا عن غضبهم إزاء تغطية القناة للحرب الإسرائيلية على غزة.
الموقف الشعبي.. القبضة الأمنية كلمة السر
لم تكتف الحكومات العربية بخذلان موقفها السياسي وانخراطها في دعم الاحتلال اقتصاديًا وإنقاذه من فخ الحصار، ناهيك عن تبني السردية الإعلامية المتماهية شكلًا ومضمونًا مع الرواية الإسرائيلية، بل وصل الأمر إلى وأد أي حراك شعبي من شأنه دعم غزة والتنديد بجرائم الاحتلال في مشهد يبلغ من الوضوح ما يغنيه عن التوضيح.
وسلطت الحكومات جيوشها الإلكترونية لاستهداف كل من يفكر أن يغرد خارج السرب ويدعم غزة أو يقول كلمة حق بشأن المقاومة، بل حاولت تلك اللجان جاهدة نهش جسد قادة المقاومة ورموزها ووصف كل من يدعمها بعبارات الخيانة والتشيع.
هذا بخلاف فرض طوق أمني مشدد على الميادين والشوارع العامة والجامعات للحيلولة دون خروج صوت الشارع الذي بلا شك سيضع تلك الأنظمة في حرج كبير، داخليًا وخارجيًا، ووصل الأمر إلى اعتقال العشرات من المشاركين في التظاهرات الرمزية التي قام بها البعض لدعم الفلسطينيين، كما حدث في مصر والأردن وتونس وغيرها.
بات من الواضح نجاح الاحتلال منذ انطلاق قطار التطبيع في 2020، في ضرب المرتكزات الوطنية العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، إذ حقق هدفه المنشود في توسيع الهوة بينها وبين الحكومات العربية، وتراجعت مكانتها بشكل واضح لدى العديد من الحكومات التي كانت تتخذ من دعم الفلسطينيين شعارها الأبرز.
وبينما دخلت الحرب شهرها العاشر وسط هذا الإجرام الوحشي من جيش الاحتلال بحق العزل من نساء وأطفال وشيوخ غزة، أما آن الأوان لخلع عباءة الخذلان واتخاذ مواقف إنسانية؟ أما أيقظت تلك المشاهد المؤلمة ضمائر العرب الميتة؟ ماذا تنتظر الحكومات والأنظمة للتحرك؟