ما مشكلة المدارس العربية مع الأنشطة الفنية والرياضية؟

dsc015981

كتب المؤلف الأمريكي كيرت فونيغوت رسالة إلى مجموعة من تلاميذ مدرسة طلبوا منه زيارتهم لكنه لم يستطع الذهاب لوضعه الصحي، فأرسل إليهم هذه الرسالة: “مارسوا الفن بجميع أشكاله من الموسيقى والغناء والرقص والتمثيل والرسم والنحت والشعر والكتابة والخيال، لا لأن تحصلوا على المال والشهرة، ولكن لتتعرفوا على أنفسكم وما بداخلكم، وتجعلوا أرواحكم أكبر”.

إذا كنت أحد طلاب المدارس العربية الحكومية، فأنت على الأرجح تدري تمامًا أن دروس الرسم والموسيقى والرياضة والمسرح ما هي إلا أوقات للعب أو الاسترخاء وربما لإنهاء بعض الواجبات المدرسية الأخرى، لأنك ببساطة معفي من أي التزامات أو واجبات تجاه هذه الدروس، وفي بعض الأحيان قد تطالب برسم رسمة واحدة تكررها طيلة حياتك المدرسية أو تحفظ السلم الموسيقى لا غير لتضمن نجاحك بتفوق في مادة التربية الموسيقية، أما حصص الرياضة فلا تتعدى دقائق من التمرينات الروتينية، فلماذا تحرم المدارس العربية طلابها من تنمية مواهبهم؟ وما أهمية هذه الأنشطة من الناحية التربوية والعلمية؟ وهل هذه الفنون تعتبر جسمًا غريبًا عن ثقافتنا الأم؟

الانغلاق الفكري حول الموسيقى والرياضة

قد يعتقد العديد من الأشخاص أن هذه الأنشطة بعيدة كل البعد عن الثقافة العربية، وأنها دخيلة على عاداتنا وتقاليدنا المحافظة، لذلك ينظر إلى هذه الفنون بنظرة استخفاف واستهتار، خاصة أن مستقبلها المهني في سوق العمل في الدول العربية غير محبب، ومع ذلك، فإن التاريخ الإسلامي اعتنى بهذه الفنون وعزز من قيمتها، والدليل ما أنتجه العلماء المسلمين من نظريات ومناهج قائمة على الموسيقى والرياضة والشعر.

الرازي والكندي والفارابي وابن سينا وابن الرشد أهم العلماء الذين بنوا نظريات تربوية وتعليمية قائمة على فن الموسيقى والرياضة

لأعوام مديدة، اعتبرت الموسيقى علمًا خالصًا ومبحثًا من مباحث الفلسفة التي اقتبسها المسلمون عن الإغريق، ومنهم الرازي والكندي والفارابي وابن سينا وابن الرشد الذين اشتهروا بمؤلفاتهم مثل “كتاب الموسيقى الكبير” و”آداب السماع والوجد”، وكان لهم نظريات تربوية وتعليمية عن أهمية هذه الفنون في تنشئة الأجيال.

وأثرى ابن الرشد هذه الثقافة عندما رأى أن تعليم الفضائل يجرى بطريقتين، الأولى الرياضة والثانية الموسيقى، وأكد أن الهدف منهما أخلاقي، فكتب “الرياضة هي اكتساب الفضيلة الصحيحة للجسم، أما الموسيقى فإنما هي تهذيبها وتمكينها من اكتساب الفضيلة الخلقية”، وأشار إلى أن الإفراط في إحداهما لن يكون له نتائج محمودة، وشجع بالمقابل المواهب الكتابية كنهج خاص في تطوير القدرات الذهنية والخيالية لدى الطلاب.

انشغل الفلاسفة بدراسة طبيعة الموسيقى وعلاقتها بفهم العالم والنفس وتفسير الطبيعة البشرية وتقلباتها النفسية ودورها في التأثير على مشاعر وأحاسيس الإنسان، وأسست علمًا قائمًا على علاج الأمراض الجسدية والنفسية بالموسيقى

إضافة إلى ما قاله الإمام الغزالي عن الموسيقى “إن في أعماق النفس الإنسانية شوقًا نحو شيء عظيم مجهول، والموسيقى هي التي تحرك هذا الشوق وتؤججه”، وغيرها من الاقتباسات التي أنقذت هذه الفنون من مخالب الجهل.

بصفة عامة، انشغل هؤلاء الفلاسفة بدراسة طبيعة الموسيقى وعلاقتها بفهم العالم والنفس وتفسير الطبيعة البشرية وتقلباتها النفسية، ودورها في التأثير على مشاعر وأحاسيس الإنسان، وهذه الدراسات المعمقة أسست علمًا قائمًا على علاج الأمراض الجسدية والنفسية بالموسيقى، وأسست نظريات جمالية في فن الموسيقى ورفعت من قيمته في الثقافة الإسلامية، لكن قلة الوعي بالتاريخ والاستسلام للآراء المتشددة أثرت على وجهة نظر المجتمعات والمؤسسات، فنتج عنها حالة تجاهل كامل لهذا الفن.

وهذا ما أكدته الدراسات الحديثة التي عرضتها مستشفى جامعة ميدستار جورج تاون التي بينت أن الموسيقى لا تخفف فقط حالات القلق والتوتر بل تقلل أيضًا من حاجة المريض إلى الجرعات الطبية، وبجانب ذلك، فهي تحسن المهارات اللغوية عند الصغار وتحسن من تحصيلهم الدراسي.

الإشكالات المادية والخبرات التعليمية

أصبحت المدارس الحكومية الخيار الأسوأ لاكتشاف المواهب، والمكان الأمثل لدفنها حية أو طردها، رغم أن وظيفتها تربية وتهذيب الأخلاق والأذواق واستغلال الطاقات الفكرية والجسدية للأطفال.

إذ يلعب الإنفاق الحكومي دورًا رئيسيًا في تراجع الاهتمام الأكاديمي بهذه الدروس، وذلك لما تحتاجه من معدات وغرف نشاط ومسابقات ومكافآت، فلا يمكن توقع هذه الخدمات في ظل تراجع النمو الاقتصادي والأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة في الأوساط العربية.

والأمر نفسه بالنسبة إلى الأهالي الذين يفتقرون إلى الوعي بأهمية هذا الجانب الفني لدى أطفالهم، وفي نفس الوقت، ويرون أن هذه الأنشطة ضياعًا للوقت وإهمالًا للمواد الأساسية، علاوة على عدم قدرتهم على تحمل أي نفقات وتكاليف إضافية، فيصبح من الصعب إحياء الميول الفنية في منظومة تركز على التحصيل الدراسي والتقييم المبني على العلامات.

يبرر المسؤولون هذا الخلل بنقص الميزانية وعدم قدرة وزارة التعليم على تدريب المعلمين بطريقة تمكنهم من تطبيق هذه الأنشطة بشكل فعال

وبشأن منظومة التعليم، فإن الكوادر الأكاديمية المشرفة على هذه الأنشطة لا تمتلك الإمكانات المعرفية اللازمة لتعليم الطلاب الأساسيات أو تطوير ما لديهم من معارف سابقة، ويبرر المسؤولون هذا الخلل بنقص الميزانية وعدم قدرة وزارة التعليم على تدريب المعلمين بطريقة تمكنهم من تطبيق هذه الأنشطة بشكل فعال.

لو أننا تعلمنا كيف نرسم ونعزف ونبدع

من الناحية العلمية، قالت الرابطة الألمانية لأطباء الأطفال والمراهقين إن الموسيقى تساهم في تحسين الفهم اللغوي لدى الأطفال، نظرًا لأن حاسة السمع المدربة موسيقيًا يمكنها تمييز الأصوات على نحو أسهل، سواء كانت نغمات أم كلامًا، وذلك استنادًا إلى دراسة أمريكية حديثة.

حيث فحص الباحثون موجات المخ لدى الأطفال لاكتشاف كيفية استجابتهم للأصوات اللغوية، وكانت النتيجة أن الأطفال الذين تلقوا حصصًا موسيقية بانتظام على مدار عامين كانوا أكثر سرعة ودقة في تمييز الأصوات مقارنة بالآخرين من زملائهم ممن لم يتلقوا أي من هذه الدروس، كما أشارت التجربة إلى أهمية الموسيقى في رفع مستوى التركيز وتقوية الذاكرة لتأثيرها الإيجابي على الوظائف العصبية.

الطلاب الذين يذهبون إلى المتاحف والمراكز الفنية، لا يتمتعون فقط بمستويات عالية من القدرة على التفاعل الاجتماعي، ولكنهم يظهرون استيعابًا أكبر للأحداث التاريخية

وبالنسبة إلى الرسم، قال فريق من علماء الاجتماع في جامعة أركنساس إن الطلاب الذي يذهبون إلى المتاحف والمراكز الفنية، لا يتمتعون فقط بمستويات عالية من القدرة على التفاعل الاجتماعي، ولكنهم يظهرون استيعابًا أكبر للأحداث التاريخية، فضلًا عن قوة ذاكرتهم ومهارات تفكيرهم النقدي لتركيزهم على التفاصيل، ولا شك أن قدرتهم على التعبير عن أنفسهم أفضل من غيرهم.

والفائدة تنطبق أيضًا على التمارين الجسدية التي تساعد الطفل على تحطيم الحواجز الاجتماعية وتنقذه من الخجل والانطواء وتعزز روح المنافسة والفريق لديه، والأكثر أهمية من ذلك، أن المدرسة تساعده على تربية هذه العادات منذ الصغر فتصبح جزءًا من نظام حياته في المستقبل.

كلما زاد معدل ممارسة الطفل للرياضة، قل إفراز هرمون الكوريتزول وتراجع احتمال تعرضه للضغط العصبي

حيث أثبتت دراسة فنلندية أن ممارسة الرياضة تحمي الأطفال من الضغوط العصبية وتساعدهم على التعامل مع المواقف الصعبة جسديًا ونفسيًا بطريقة مرنة، فلقد راقب الفريق الباحث نحو 252 طفلاً بعمر الثامنة يمارسون أنشطة حركية مختلفة، وقاموا بقياس نسبة إفراز هرمون الكورتيزول -هرمون يساعد في قياس التوتر والضغط الذي يعيشه الجسم – لديهم عن طريق تحليل عينة من اللعاب.

وبعد ذلك، طلب من الطلاب أن يحلوا مسائل رياضية أو إلقاء محاضرة أما جمهور واسع، باعتبار أنها مسببات للضغط العصبي، وكانت النتيجة أنه كلما زاد معدل ممارسة الطفل للرياضة، قل إفراز هرمون الكوريتزول وتراجع احتمال تعرضه للضغوط العصبي.

وفي محاولة للاستفادة من إيجابيات هذه الأنشطة، أدرجت عدة مدارس في العالم العربي تعليمات تنص على ضرورة تنفيذ هذه الدروس بشكل أسبوعي ضمن المنهاج الدراسي، وكان من بينها المبادرة المغربية التي تعاونت مع أساتذة من المغرب والمجر وفرنسا لدراسة وسائل تطوير مناهج تدريس التربية الموسيقية في المدارس المغربية بالاتفاق مع وزارة الثقافة المغربية، للتعلم من التجربة الهنغارية والفرنسية في تدريس الثقافة الموسيقية بالمدارس وأهميتها في خلق جسر من التواصل الحضاري بين الثقافات وإثراء الثقافة الوطنية بفنون عصرية.

أما بالنسبة إلى مصر، فلقد صرحت إحدى المدارس بأن إدخال الموسيقى في المناهج المدرسية وإدماجها مع الدروس الأخرى زاد معدل الحضور بنسبة 20% وهذا ضمن مشروع “المليون فكرة” الذي استهدف المدارس التي تعاني من نقص الإمكانات الخاصة بالأنشطة مثل غرف الموسيقى وأدواتها وملاعب الرياضة.