قبل شهر من الآن، شهدت الجامعة التونسية انتخابات المجالس العلمية التي أفرزت فوز الاتحاد العام التونسي للطلبة بأغلبية المقاعد في مختلف الأجزاء الجامعية في البلاد، انتخابات كانت فرصة للوقوف على حجم الصراع بين الاتحادات الطلابية في تونس.
صراع يسعى من خلاله كل اتحاد لإثبات وزنه في الساحة الطلابية، وتأكيد تفوقه وسيطرته على الجامعة التونسية، وإثبات قدرته على التأثير على عموم الطلبة، والترويج لبرنامجه ورسالته التي يتبناها داخل أسوار الجامعة.
واقع يحكمه الصراع
لم يكن حجم هذا الصراع قبل الـ14 من يناير 2011، على الشكل الذي نراه اليوم، فقبل ذلك التاريخ كان المسيطر على الجامعة التونسية طلبة التجمع الدستوري الديمقراطي (الذراع الطلابي لحزب التجمع المنحلّ)، رغم محاولات الاتحاد العام لطلبة تونس المحسوب على اليسار، النشاط وفرض كلمتهم في الساحة الطلابية التونسية، فقد عرف الحراك الطلابي في فترة بن علي تراجعًا هائلاً، حيث مارس نظام الاستبداد كل أشكال القمع المباشر ضد الحركة الطلابية.
يذكر أنّ الاتحاد العام لطلبة تونس تأسس في باريس منذ عام 1952، وظل سنوات طويلة جناحًا للحزب الحر الدستوري التونسي الحاكم (الحزب الذي كان يقوده الحبيب بورقيبة)، وتولى كثيرًا من قادته مناصب وزارية وقيادية عليا في هياكل الدولة، قبل أن يسيطر عليه الطلبة من أصحاب التوجه اليساري منذ سبعينيات القرن الماضي إلى الآن.
بلغ هذا الصراع ذروته، مع تدخل السلطة لتوجيه نتائج انتخابات المؤتمر الـ18 للاتحاد في صيف سنة 1971
مع عودة الاتحاد العام التونسي للطلبة للنشاط إثر الثورة، وعقد مؤتمره الخامس منتصف أبريل/نيسان سنة 2013، تحت عنوان “الثورة والعودة”، وهو الأول له منذ التسعينيات، رجعت الحيوية للجامعة وعاد إليها بعض بريقها الذي فقدته مع حل هذا الاتحاد عام 1991 في إطار حملة لاجتثاث الإسلاميين (تأسس الاتحاد سنة 1985 على يد طلبة إسلاميين ومستقلين).
ورجع الصراع بين القوى السياسية المختلفة الناشطة في الحرم الجامعي، خصوصًا في ظل التجاذب الحاد بين قوى اليسار بفصائله المختلفة والمنضوية تحت إطار الاتحاد العام لطلبة تونس والتيار الإسلامي الذي يتحرك ضمن الاتحاد العام التونسي للطلبة.
وبالعودة إلى ما قبل تأسيس الاتحاد العام التونسي للطلبة كان الصراع بداية بين المنظمة الطلابية “الاتحاد العام لطلبة تونس” وحكومة الاستقلال التي تخلت عن الحريات العامة والتعددية السياسية ومشاركة المنظمات الوطنية ومنها الطلابية في أخذ القرارات المهمة واكتفت بإصلاحات اجتماعية.
حيث تعددت المحاولات لإخضاع النقابة الطلابية من خلال تنصيب الكتاب العامين والهيئات الإدارية، وبدأ بذلك عهد الصراعات والهزات داخل المنظمة نفسها بين من يحظى بدعم السلطة الوطنية ولا يعارض التماهي معها ومن يعارض ذلك.
https://www.youtube.com/watch?v=3ff_gdCQ_ZA
بلغ هذا الصراع ذروته، مع تدخّل السلطة لتوجيه نتائج انتخابات المؤتمر الـ18 للاتحاد في صيف سنة 1971، وسيطر طلبة الحزب الحاكم على الاتحاد، عبر انقلاب، وهو ما رفضته الفصائل الطلابية اليسارية والقومية، التي أصبحت تنشط في ظل هياكل نقابية مؤقتة بعد حركة 5 من فبراير/شباط 1972 التي واجهها نظام بورقيبة بالقمع الأمني.
ومع حلول منتصف عقد سبعينيات القرن العشرين، دخلت الحركة الطلابية مرحلة جديدة، إذ تعددت الفصائل اليسارية في الجامعة، وأدى ذلك إلى تنامي الصراعات فيما بينها، فإلى جانب الطلبة الشيوعيين برزت حركة الوطنيين الديمقراطيين والنقابيين الثوريين، وانقسم الطلبة القوميين إلى ناصريين نسبة إلى جمال عبد الناصر، وعصميين نسبة إلى عصمت سيف الدولة، وتكونت لجان ثورية تعتمد الكتاب الأخضر الذي وضعه معمر القذافي، إضافة إلى البعثيين المرتبطين إما بحزب البعث العراقي أو السوري.
في تلك الفترة، تعاقبت الاضطرابات في الجامعة التونسية، غير أن المعادلة تغيرت تدريجيًا من مواجهة بين اليسار والدستوريين إلى مواجهة بين الإسلاميين واليساريين، مما خلف أحداث عنف بلغت أشدها في مارس/آذار 1982، وفي ظل هذه التحولات انعقد خلال السنة الجامعية 1984-1985 ما عرف بـ”المؤتمر العام للحسم”، لينتج عنه نشأة “الاتحاد العام التونسي للطلبة”.
بداية النشأة
تاريخيًا، نشأت الحركة الطلابية في تونس، منذ بداية القرن العشرين، من خلال تفاعل الطلبة التونسيين في جامع الزيتونة مع “حركة الشباب التونسي”، وهي حركة إصلاحية طالبت المستعمر الفرنسي بإنجاز إصلاح اجتماعي وسياسي، في مارس/آذار 1910، شن الطلبة التونسيون أول إضراب لهم، مطالبين بضرورة إصلاح المنظومة التعليمية وتحسين ظروف الدراسة.
خاض الطلبة الزيتونيين العديد من التحركات والإضرابات عن الطعام والمظاهرات
غير أن أول الأشكال التنظيمية الطلابية لن تظهر إلا في فبراير/شباط سنة 1950، مع تأسيس لجنة صوت الطالب الزيتوني، ومن أبرز مطالبها التي أوردتها فيما عرف بـ”الدستور الزيتوني الجامع” إصلاح برامج التعليم الزيتوني عبر إدخال مواد عصرية وتدريس اللغات الأجنبية وتمكين الطلبة الزيتونيين من الدراسة في الخارج وفتح الآفاق المهنية أمام الخريجين منهم وبناء الكليات والمعاهد والمختبرات الحديثة.
من أجل تحقيق هذه المطالب، استمر الحراك الاحتجاجي الطلابي من الزيتونيين ومدرسيهم خلال الفترة الاستعمارية، وخاضوا العديد من التحركات والإضرابات عن الطعام والمظاهرات التي ساهمت بصورة فعالة في الكفاح الوطني، لإدراك عميق لدى قادة هذه المنظمة أن الأوضاع الطلابية لا يمكن أن تنفصل عن معركة الاستقلال الوطني.
ضرب الحركة الطلابية
عقب حل الاتحاد العام التونسي للطلبة في مارس/آذار 1991، حاول نظام بن علي ضرب الحركة الطلابية والسيطرة على الساحة الجامعية لدعم اختياراته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأنشأ لذلك تنظيمًا طلابيًا يحمل اسم “منظمة طلبة التجمع الدستوري الديمقراطي” ليكون ذراعه في هذه المهمة.
نجح هذا التنظيم الطلابي الجديد في الهيمنة على أغلب مقاعد المجالس العلمية لتمثيل الطلبة في المؤسسات الجامعية التونسية، مستغلاً التشتّت الطلابي والانقسام الحاصل في صفوف الاتحاد العام لطلبة تونس بين مختلف تياراته الفكرية، وعجزهم عن تقديم بدائل أو التقدم نحو إنهاء التشرذم الطلابي.
طلبة تونسيين في التجنيد القسري بالصحراء
كما نجح نظام بن علي في ضمّ عدد من قيادات الاتحاد العام لطلبة تونس من اليساريين إلى صفه، بعدما عارضوه لسنوات، ولعل المثال الأبرز عن ذلك سمير العبيدي أمين عام الاتحاد نهاية الثمانينات الذي دخل لبيت طاعة النظام حتى أصبح وزيرًا للاتصال، ويتولى العبيدي اليوم منصبًا قياديًا في حزب نداء تونس.
وكذا الحال بالنسبة للإعلامي برهان بسيس الذي كان قياديًا نقابيًا طلابيًا يساريًا، قبل أن يصبح المتحدث باسم النظام في القنوات العربية، وهو المكلف اليوم بالشؤون السياسية في نداء تونس.
وشهدت فترة حكم بن علي ركود الحركة الطلابية في البلاد وتزييف الوعي الطلابي بأشكال مختلفة، وتحول الطلبة من النضال إلى اللامبالاة، وإلى الاهتمام بصغائر الأمور عوض الاهتمام بقضايا الجامعة والبلاد ككل.
في 8 من مايو، استخدمت قوات الأمن الرصاص الحي في مواجهة الطلبة وسقط الطالبان أحمد العمري وعدنان بن سعيد شهيدين
فقد عملت السلطة طيلة التسعينيات وما بعدها على استعمال الخيار الأمني في مواجهة الحركة الطلابية، فوقع اغتيال عديد من الطلبة بالرصاص وموت العديد تحت التعذيب، ففي الأول من يناير من سنة 1991، قتلت الطالبة زهرة التيس برصاص الأمن حين كانت تشارك في تظاهرة يوم الوحدة العربية، وقتل الطالب مبروك الزمزمي في 12 من يناير، وفي 15 منه، سقط الطالب صلاح الدين باباي برصاص الشرطة.
https://www.youtube.com/watch?v=ydsMQ16DTkk
في تظاهرة منددة بالتدخل الأمريكي في العراق، في فبراير، سقط التلميذ إبراهيم عبد الجواد، وفي الشهر نفسه لقي الطالب طارق الزيتوني حتفه في ظروف غامضة ووجدت جثته ملقاة على حافة الطريق، وفي الأول من مارس، قضى الطالب سمير لافي حين كان يهم بالقفز إلى عمارة مجاورة هربًا من الأمن الذي اقتحم مبنى السكن الطلابي، وفي 8 من مايو، استخدمت قوات الأمن الرصاص الحي في مواجهة الطلبة وسقط الطالبان أحمد العمري وعدنان بن سعيد شهيدين، وتحت التعذيب سقط عامر دقاشي وعبد الواحد العبدلي في أواخر شهر يونيو.
فضلاً عن ذلك، سجن المئات وشُرد المئات إلى المنافي (رجيم معتوق، زمبرة وزمبرته…) في أكبر عملية قمع منذ استقلال البلاد عن فرنسا، فضلاً عن ذلك قام البوليس السياسي والأمن الجامعي بالمراقبة الصارمة والاعتقالات المستمرة للطلبة والزج بهم في السجون بتهم الإرهاب مما أحدث حالة من الانكماش والرهبة والخوف داخل الجامعة استمرت إلى تاريخ اندلاع الثورة.