تغيرات جذرية من المرجح أن تشهدها المنطقة خلال الساعات القليلة القادمة، في ضوء عدد من الشواهد التي تدفع الجميع إلى احتباس الأنفاس ترقبًا لما ستسفر عنه تلك التطورات المفاجئة، المتوقع أن تدخل تعديلات جذرية على الخريطة السياسية الإقليمية.
تسير الأمور بصورة كبيرة نحو توجيه ضربة عسكرية أمريكية لسوريا وذلك بعد تعهد الرئيس دونالد ترامب برد قوي، الإثنين الماضي، لافتًا إلى أن القرار سيُتخذ سريعًا في أعقاب الهجوم الذي وقع في وقت متأخر من مساء يوم السبت الماضي في مدينة دوما السورية، وأسقط ما لا يقل عن 60 قتيلًا وما يربو على مئة مصاب.
وزارة الدفاع الأمريكي (البنتاغون) قدمت عن طريق رئيس الأركان العامة الجنرال جوزيف دانفورد سلسلة خيارات لترامب، للرد على الهجوم الكيميائي الذي يتهم النظام السوري بتنفيذه قبل 4 أيام، فيما نقلت “رويترز” عن مسؤولين أمريكيين أن الولايات المتحدة تدرس ردًا عسكريًا جماعيًا على ما يشتبه بأنه هجوم بغاز سام في سوريا، بينما أدرج خبراء عدة منشآت رئيسية كأهداف محتملة.
التحركات الأمريكية نحو استهداف مواقع سورية جاءت بعد أيام قليلة من تلويح ترامب بسحب قواته من سوريا، وبالتزامن مع زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للدول الـ3 المؤيدة لتوجيه ضربة عسكرية لمواقع الأسد (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا)، وهو ما دفع الكثيرين للذهاب إلى أن فاتورة تلك الهجمات – حال حدوثها – ستكون سعودية من الدرجة الأولى.
بعض الخبراء توقعوا أن تركز الضربات الانتقامية – إذا وقعت – على منشآت مرتبطة بتوجيه هجمات بالأسلحة الكيميائية حسبما أشارت تقارير سابقة، مشيرين إلى ضربات محتملة لقواعد تشمل قاعدة الضمير الجوية، التي توجد بها الطائرات الهليكوبتر السورية من طراز مي-8 التي ربطتها وسائل التواصل الاجتماعي بالضربة في دوما.
الحرب تقرع طبولها
خطوات متسارعة يخطوها قادة أوروبا وأمريكا وحلفائهما بشأن التنسيق للرد على مجزرة دوما الأخيرة، وشواهد عدة ترجح أن يكون استهداف مواقع تابعة لنظام الأسد بضربات عسكرية هو الخيار الأكثر احتمالية من بين الخيارات المدرجة.
الرئيس الأمريكي ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون تباحثا في اتصال هاتفي، مساء أول أمس الإثنين، سبل الرد على الهجوم الكيميائي الذي شنه نظام الأسد، وذلك بحسب بيان صادر عن البيت الأبيض.
المتحدث باسم الحكومة الفرنسية بنجامان غريفو في حديث لإذاعة “أوروبا 1” أفاد أنه إذا تم تجاوز الخط الأحمر في سوريا فسيكون هناك رد، مشيرًا إلى أن المعلومات التي تبادلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الأمريكي دونالد ترامب تؤكد مبدئيًا استخدام أسلحة كيميائية.
من الواضح أن هناك رغبة فرنسية غير مسبوقة في توجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد، حتى لو كان بصورة منفردة، وذلك عكس الموقف السابق للرئيس ماكرون الذي كان يرى في الأسد الخيار الوحيد لسوريا المستقبل، وهو ما أكده الباحث في معهد هدسون بنيامين حداد في مقال له نشرته مجلة “فورين بوليسي” يقول فيه إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يريد ضرب سوريا سواء مع أمريكا أو دونها.
المقال تطرق إلى الموقف الحرج الذي وضع فيه ماكرون نفسه، إذ ربط في تصريحات سابقة له تدخله العسكري في سوريا في حالتين فقط: الأول متعلق باستخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري، والآخر فتح المجال أمام وصول المواد الإنسانية للمدنيين السوريين، لافتًا إلى أنه بعد استقباله وفدًا من قوات سوريا الديمقراطية الشهر الماضي في باريس ضاعف من جهوده وأعلن نشر قوات فرنسية في شمال شرق سوريا؛ لدعم جهود إعادة الاستقرار بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
حداد ذهب إلى أن هذين الهدفين مدعومان من الرأي العام الفرنسي، خاصة أنهما يتوافقان مع المصالح الفرنسية التي تم تحديدها في السابق، غير أنه لفت إلى أن الغارات الفرنسية لن تغير من ميزان القوة في سوريا، وسيكون تأثيرها العسكري والسياسي صغيرًا مقارنة مع التدخل الأمريكي، وكان رئيس هيئة الأركان المشتركة الفرنسي أعلن الشهر الماضي قدرة بلاده الضرب بشكل مستقل والقيام بهجمات عقابية ضد المنشآت والمؤسسات المسؤولة عن المذبحة الأخيرة لن يكون مجرد وفاء بالتعهدات الفرنسية، بل سيؤكد مصداقية التزام فرنسا تجاه سوريا.
وفي بيان صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية أشار أن وزير الخارجية بالوكالة جون سوليفان، بحث ووزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون آخر تطورات الأزمة السورية الراهنة، موضحًا أن الوزيرين بحثا الرد المحتمل للمجتمع الدولي على الهجوم الكيميائي بدوما، والخطوات التي من المحتمل أن تتخذها بريطانيا والولايات المتحدة في ذات الصدد.
وفي السياق ذاته قالت وكالة “إنترفاكس” الروسية إن شركات الطيران التي تسيّر رحلات جوية فوق البحر الأبيض المتوسط أبلغت باحتمال تغيير قواعد التحليق هناك بسبب احتمال توجيه ضربات ضد أهداف سورية، حيث نقلت عن مصدر وصفته بـ”المطلع” أن مركز إدارة العمليات في بروكسل أبلغ الشركات باحتمال وجود ضرورة للمراجعة الإضافية لمسارات الطائرات والممرات الجوية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وذلك وسط توقعات بتوجيه ضربات إلى النظام السوري يحتمل أن تكون خلال الساعات الـ72 المقبلة.
القرار الذي اتخذه ترامب ونقضه بعد أيام جاء في ظل وجود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في أمريكا، وبعد اتصالات أجراها ترامب مع الملك سلمان؛ مما دفع المراقبين إلى الترجيح بأن ابن سلمان تمكن من إقناع ترامب بعدم الانسحاب، وربما تعهد بدفع فواتير الحرب
الوكالة الأوروبية لسلامة الطيران “إياسا” (EASA) أصدرت بدورها بيانًا جاء فيه: “يرجى الانتباه إلى أن الوكالة الأوروبية لسلامة الطيران أصدرت إخطارًا عاجلًا لمنطقة معلومات الطيران لشرق المتوسط/نيقوسيا”، مضيفًا: “نظرًا لضربات جوية محتملة ضد سوريا بواسطة صواريخ جو – أرض أو صواريخ كروز على مدار الساعات الـ72 القادمة وإمكانية حدوث تعطل دوري للاتصالات الملاحية الراديوية، يجب إيلاء الاهتمام لخطط عمليات الطيران في منطقة شرق البحر المتوسط/نيقوسيا”.
أما فيما يتعلق بالتحركات العسكرية، أفادت صحيفةStars and Stripes الأمريكية أمس الثلاثاء بأن مجموعة ضاربة من الأسطول الحربي الأمريكي، وعلى رأسها حاملة الطائرات “هاري ترومان”، تتوجه إلى البحر الأبيض المتوسط، مضيفة أنها ستبدأ التحرك اليوم الأربعاء من قاعدة “نورفولك” البحرية (بولاية فرجينيا) باتجاه أوروبا والشرق الأوسط.
ستضم المجموعة الطراد الحامل للصواريخ “نورماندي” والمدمرات الحاملة للصواريخ “آرلي بورك” و”بالكلي” و”فوريست شيرمان” و”فاراغوت”، على أن تنضم إليها لاحقًا مدمرتا “جيسون دانام” و”ساليفانز”، بحسب الصحيفة الأمريكية التي ذكرت أن السفن ستحمل على متنها نحو 5.6 ألف عسكري، وإن لم تعط أي تفاصيل عن هدف تحرك المجموعة إلى المتوسط، فيما نقلت صحيفة Washington Examiner عن مصدر في البنتاغون أن المدمرة “دونالد كوك” غادرت أول أمس الإثنين ميناء قبرص وأبحرت في اتجاه سوريا، مشيرة إلى أن السفينة مزودة بـ60 صاروخًا مجنحًا من طراز “توماهوك”.
كان صحيفة “Wall Street Journal” قد أوردت في وقت سابق أن مدمرة أمريكية ثانية قد تدخل البحر المتوسط في الأيام القريبة القادمة، وذلك بالإضافة إلى المدمرة “دونالد كوك” الموجودة حاليًّا في المتوسط، ونقلت عن مسؤولين أمريكيين في مجال الدفاع أنه توجد شرق البحر المتوسط مدمرة “دونالد كوك” الصاروخية، ويمكنها المشاركة في أي ضربة على سوريا، ومن المفروض أن تصل مدمرة “بورتر” إلى هذه المنطقة بعد عدة أيام.
الغارات الفرنسية لن تغير من ميزان القوة في سوريا، وسيكون تأثيرها العسكري والسياسي صغيرًا مقارنة مع التدخل الأمريكي
أثارت مجزرة دوما الكيماوية حفيظة الجميع
موسكو تتوعد
رغم ما تثيره التحركات الأمريكية الفرنسية البريطانية من قلق للكثيرين المرجحين لاقتراب ساعة الصفر بشأن توجيه ضربة عسكرية ضد سوريا، قلل مصدر عسكري دبلوماسي روسي من خطورة تلك التحركات معتبرًا أنه ليس هناك ما يدعو للقلق، معلقًا لصحيفة “كوميرسانت” الروسية على ما يثار بشأن تحرك قطع بحرية أمريكية باتجاه المتوسط بقوله: “حتى الآن، لم يحدث شيء مخيف”.
المصدر أوضح أن كل تعزيز للقوات في منطقة البحر المتوسط سيؤدي إلى تصعيد التوتر، محذرًا من أن العسكريين الروس سيتابعون تطورات الوضع وتقييمها، وهي مهمة تنفذها منذ عدة أيام طائرات الاستطلاع الروسية من طراز A – 50 التي تراقب سير مدمرة “دونالد كوك” الأمريكية، مؤكدًا أن الأسطول البحري الروسي قادر على رد سريع عند الضرورة، وسيكون هناك من ينتظرهم عند قدومهم، في إشارة إلى المجموعة الأمريكية الضاربة.
الصحيفة الروسية نقلت عن مصدرها العسكري أيضًا تفاصيل القوى البحرية الروسية الموجودة في مياه المتوسط، كاشفًا أنها لا تقتصر على السفن العادية بل تشمل أيضًا غواصات بما فيها الغواصات النووية المزودة بطوربيدات وصواريخ “كاليبر” المخصصة لتدمير الأهداف البحرية والبرية، ورفض المصدر الكشف عن الأنواع المحددة للغواصات الروسية الموجودة في المنطقة، لكن صحيفة The Sunday Times البريطانية أفادت في العام 2016 بأن غواصتين نوويتين من نوع “شوكا – بي” وغواصة ديزل من نوع “بالتوس” تم رصدهما في البحر المتوسط، هذا بخلاف قاعدة حميميم الجوية الروسية بريف اللاذقية في سوريا التي تملك صواريخ من نوع مضادة للسفن من طراز “خ-35 كياك”.
قالت وكالة “إنترفاكس” الروسية إن شركات الطيران التي تسيّر رحلات جوية فوق البحر الأبيض المتوسط، أبلغت باحتمال تغيير قواعد التحليق هناك بسبب احتمال توجيه ضربات ضد أهداف سورية
تناقض أمريكي
حالة من التناقض يشهدها الموقف الأمريكي حيال الوضع في سوريا، ففي أواخر مارس الماضي لوح ترامب برغبته في انسحاب القوات الأمريكية مبكرًا من سوريا، أكد عليه مرة أخرى في 3 من أبريل الحاليّ، وجاء نبأ تجميد وزارة الخارجية الأمريكية أكثر من 200 مليون دولار من الأموال المخصصة لجهود التعافي في سوريا، لتؤكد عزم أمريكا الانسحاب قريبًا من هناك.
إلا أنه وبعد أيام من تلك التصريحات التي أثارت الجدل حينها سواء داخل المؤسسات الأمريكية نفسها الرافضة لسحب قوات بلادها من سوريا في هذا التوقيت أو لدى حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، إذ بوسائل الإعلام تتناقل بدء التحالف الدولي تشييد قاعدة عسكرية جديدة في منطقة العون الواقعة شمالي مدينة منبج السورية، لتكون موطئ القدم الثالث للتحالف في ريف حلب الشرقي، كما أكدت وكالة “الأناضول” التركية، أن القوات الأمريكية شرعت في توسيع نقطتي مراقبة تقعان في محيط قرية الدادات التابعة لمنبج بغرض تحويلهما لقاعدتين عسكريتين.
البعض ذهب إلى أن ترامب ورط نفسه من خلال تهديده بتوجيه ضربات انتقامية ضد مواقع سورية، ومن ثم لا يمكن التراجع عنه لما لذلك من تأثير سلبي على صورة بلاده دوليًا، ومن ثم فمن المتوقع أن تستهدف تلك الضربات – إذا تمت – أهدافًا سورية عامة، متجنبًا الاحتكاك مع روسيا، خاصة بعد تهديدات رئيس أركان الجيش الروسي فاليري غراسيموف بالرد الفوري حال تعرض مصالح بلاده للخطر أو التهديد وهو ما تتجنبه واشنطن بصورة كبيرة.
تحذيرات روسية بالرد الفوري حال تهديد قواتها في سوريا
رئيس أركان الجيش الروسي: “الأسطول البحري الروسي قادر على رد سريع عند الضرورة، وسيكون هناك من ينتظرهم عند قدومهم”
من يدفع الفاتورة؟
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: من أين يأتي ترامب بكلفة هذه الضربات التي قال عنها قبل أيام إنها عالية جدًا ولا تستطيع بلاده تحملها؟ غير أنه وبالعودة إلى تصريحاته في 3 من أبريل الحاليّ خلال لقائه وولي العهد السعودي بالبيت الأبيض، قال حينها: “حان وقت العودة، فالوجود في سوريا تكلفته عالية، أريد عودة جنودنا إلى منازلهم، وإعادة إنشاء أمتنا من جديد، المملكة العربية السعودية تهتم بقرارنا هذا، وقلت لهم إن كنتم ترغبون أن نبقى في سوريا فربما عليكم دفع الفواتير”.
وبعد أقل من يومين على تلك التصريحات التي أثارت حفيظة الرياض بصورة كبيرة، وهو ما جسدته تصريحات ابن سلمان الذي ناشد خلالها واشنطن بالإبقاء على قواتها في سوريا لفترة قادمة، خرجت وكالة “أسوشيتد برس” لتنقل عن مصادر رفيعة في البيت الأبيض قولها إن الرئيس الأمريكي سيؤجل الانسحاب إلى ما قبل الانتخابات الفرعية للكونغرس المقررة في نوفمبر القادم، مؤكدين أن ترامب تشاور مع الحلفاء والأصدقاء بشأن المستقبل.
واللافت هنا أن هذا القرار الذي اتخذه ترامب ونقضه بعد أيام جاء في ظل وجود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في أمريكا، وبعد اتصالات أجراها ترامب مع الملك سلمان بن عبد العزيز، وهو ما دفع المراقبين إلى الترجيح بأن يكون ابن سلمان قد تمكن من إقناع ترامب بعدم الانسحاب، وربما تعهد بدفع فواتير الحرب.
وفي السياق ذاته أعربت الرياض عن استعدادها للمشاركة في أي عمل عسكري تقوم به أمريكا وحلفاؤها ضد سوريا، حيث قال ابن سلمان في مؤتمر صحافي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ختام زيارة لباريس استغرقت 3 أيام: “بلا شك إذا كان الأمر يستدعي أن نشارك حلفاءنا في عملية عسكرية ضد النظام في سوريا لن نتأخر عن ذلك”.
وتبقى الساعات القادمة حبلى بالمفاجآت والتطورات التي ربما تعيد رسم خريطة المنطقة مرة أخرى، فكيماوي الأسد في دوما وطيران “إسرائيل” في تيفور وتهديد ترامب وتحذير موسكو قد يجعل من سوريا ساحة مستباحة للاحتمالات كافة، ويبقى السوريون وحدهم من يدفعون الثمن في ظل مجتمع دولي عاجز وموقف عربي متخاذل.