ارتبط وجداني منذ الصغر بتتبع نشرات الأخبار المحلية التي كانت الرافد الوحيد لنا كي نتفهم بعض ما يجري حولنا من أحداث قطرية وعالمية في ظل شح المصادر الإعلامية الأخرى.
ومنذ إعلان أحمد سعيد مذيع إذاعة “صوت العرب” الشهير الانتصار الساحق للقوات المصرية في هزيمة 1967 بدأت ثقة الجمهور بالإعلام الرسمي تهتز، فكنا إذا جد الجد نتلمس الخبر من إذاعة لندن أو مونت كارلو، وكنا ندير الراديو يمنة ويسرة أو نخرج به إلى الهواء الطلق كي نلتقط إشارة هذه الإذاعات بوضوح، ثم أتذكر أنني كغيري اقتصرت على سماع إذاعة لندن وتركت غيرها من روافد الإعلام الرسمي أو العربي كافة.
كانت النشرات العربية الرسمية أشبه بشوربة الخضار التي يصفها لك الطبيب في فترة نقاهتك من المرض، لا لون ولا طعم ولا رائحة، تتجرعها على مضض ولا تجد سلوى في استساغتها سوى نصيحة الطبيب بأنها غنية بالفيتامينات.
ومع إذاعة لندن اكتشفت بواكير المهنية الإعلامية من مذيع محترف متوقد الذهن، بارع في الأداء والمحاورة، لا كالمذيع العربي المعين بالوساطة والمحسوبية الذي تعاطى كميات مخيفة من الأسمنت جعلت أداءه أشبه بقالب حجري لا روح فيه ولا نبض.
أتذكر: سلوى الجراح وعلي أسعد والمقولة الشهيرة: “هنا لندن” التي كانت تعني لنا المصداقية والمهنية.
يمكن القول إن العرب في التاريخ الحديث لم يقدموا شيئًا يذكر للحضارة المعاصرة سوى إعلام قناة الجزيرة
أتذكر الحرية في الطرح والكلام في المسكوت عنه في بلادنا عما يخص السياسات العربية المهترئة، وتجلت لي في خضم المقارنة براعة معد النشرة العربي في الدبلجة والفبركة وتصدر أخبار السيد الرئيس الزعيم الركن الملهم، وعبارات مستهلكة من أمثال: التضامن العربي وجبهة الصمود والتصدي والممانعة ورفض التنازلات والتدخلات والإملاءات وشجب الانتهاكات والممارسات وتأيد المبادرات والمخللات والمعجنات والسلطات.
ثم ظهرت قناة الجزيرة “درة الإعلام العربي” فحركت المياه الراكدة وتطرقت لقضايا شائكة وداعبت هموم المواطن العربي وتطلعاته وسكتت عن حكام الخليج كي لا تكثر أعداءها والعاقل لا يشغب على نفسه.
إعلام الجزيرة مهني بكل ما تعنيه الكلمة، بداية من مذيع مثقف متمرس تم انتقاؤه بعناية فائقة، ومرورًا ببرامج إعلامية أيقظت الوعي السياسي العربي، وفتحت آفاق أرحب لتفهم مجريات الأمور، مع فتح ملفات التاريخ المعاصر المحرم الاقتراب منها.
يمكن القول إن العرب في التاريخ الحديث لم يقدموا شيئًا يذكر للحضارة المعاصرة سوى إعلام قناة الجزيرة، وكفى المتهم لنا بالتحيز أن يطالع عدد المشاهدين للجزيرة والمتتبعين لموقعها على الإنترنت بما لم تحققه قناة عربية غيرها.
ثم بدأت عملية حصار قطر الأخيرة من دول عربية أزعجها منذ زمن إعلام ينمي الوعي العربي الشعبي، وكانت ثورات الربيع العربي بمثابة الشوكة لدول الحصار التي أضجت مضاجعها وأنفدت صبرها على الجزيرة ومنسوبيها، وبدأت في المجاهرة بالعداوة بعدما كان العتاب في الغرف المغلقة.
مشكلة الجزيرة أنها غردت خارج نهيق سرب الإعلام العربي، وبات المطلب الوحيد للتصالح “إغلاق قناة الجزيرة”
خرجت قطر من الحصار منتصرة، وأعطيت الإشارة الخضراء للجزيرة بتناول القضايا الخليجية، وفي تقديري أن أكبر خسارة للأنظمة العربية المحاصرة لقطر هي “معاداة قناة الجزيرة”، فمن بيته بالزجاج لا يقذف الناس بالحجارة.
وتألقت الجزيرة كعادتها، ونشرت فضائح أشفت غليل المواطن العربي المقهور، بمهنية وتأصيل وتدليل، من قناة بارعة تنشر الخبر وتردفه بالمقولة الشهيرة: “معنا مراسلنا من موقع الحدث”.
في حين أن الإعلام المضاد لا يملك سوى الشتم والتجريح واللطم والعويل والفبركة وتضخيم الأخطاء وتقزيم الإنجازات، بأسلوب عتيق ينفع لحقبة ستينيات القرن الماضي، وليس لعصر طوفان القنوات الإعلامية بشكل مخيف.
“نحن الجزيرة”: قولاً وعملاً ومهنية وشعبية كاسحة.. فمن أنتم؟!
كم من الأفلام الوثائقية والبرامج الحوارية تجاوز كل الخطوط الحمراء، حتى أدمى الأنظمة العربية إدماءة لم تنفع معها ضمادات قناة العربية، التي أنفقت عليها مليارات السعودية والإمارات.
مشكلة الجزيرة أنها غردت خارج سرب الإعلام العربي، وبات المطلب الوحيد للتصالح إغلاق قناة الجزيرة، لكن نسي المخاصمون أنه ليس لديهم شيء سوى الإفلاس على كل الأصعدة، فلما تتصالح معهم قطر؟!