أولى الرومان والبيزنطيون أهمية كبيرة لإمدادات المياه في مدنهم، وقد نالت إسطنبول، القسطنطينية آنذاك، حظًا وفيرًا من ذلك الاهتمام إذ احتوت على شبكة مياه واسعة في أرجائها تتوسع من خلال العديد من القنوات والقناطر والنوافير الضخمة التي كانت تُعرف باسم “nymphaeum” وتمتاز بفنّها المعماري الذي يتخذ من الأعمدة والتماثيل والنقوش شكلًا له، عوضًا عن اهتمامهم بالحمّامات والآبار ومصادر المياه في القصور والمنازل والكنائس.
في ذلك الوقت اعتمدت المدينة على ثلاثة خطوط رئيسية لأنابيب المياه التي تولّت عملية توزيع الماء على كافة الأرجاء، وقد تركزت تلك الخطوط في مناطق أتبازاري “Atpazarı” ويينيباكي “Yenikapı” وأياصوفيا “Ayasofya“، التي كانت تُعتبر الكنيسة المركزية والرئيسية في الدولة جميعها وليس فقط في القسطنطينية.
سبيل “الرحيل”
بعد الفتح العثماني والتغييرات التي حدثت في المدينة على إثره، كانت شبكات ومصادر المياه بحاجة إلى إصلاح شامل، اضطر العثمانيون خلاله إلى إضافة مصادر مياه جديدة وتحديث القديمة منها، كما أنّ عملية توسيع نظام المياه مرّ على مراحل مختلفة على مر فترات الدولة، ولكنّ أكثرها فعالية وتطوّرًا كانت أعمال المياه التي قام بها السلطان سليمان القانوني الذي حكم من عام 1520 إلى عام 1566.
وبما أنّ الطهارة كانت ولا تزال جزءًا أساسيًا من الثقافة الإسلامية، عمل العثمانيون على بناء وتوفير السبل والحنفيات والنوافير في جميع أنحاء المدينة، وهي فكرة كانت بالأصل مأخوذة من الفرس والسلاجقة عندما مرّ الأتراك العثمانيون الرحّل عبر إيران وسوريا في رحلتهم وطريقهم إلى الأناضول قبيل الفتح الإسلامي للقسطنطينية.
ومع الوقت، أصبحت النوافير والسبل جزءًا مهمًا من التقاليد المعمارية، إذ يقوم المعماريون بإنشائها بما يعكس الذوق المعماريّ للفترة الزمنية، إضافةً لذوق السلطان أو والدته أو الوزير أو أحد أعيان الدولة الذين يأمرون ببنائها.
غالبًا ما يروي اسم النافورة أو السبيل قصته الخاصة، كما هو الحال في سبيل “Ayrılık Çeşmesi” أو “سبيل الرحيل” كما يمكن ترجمته للعربية، والذي يقع في منطقة كاديكوي بالجزء الآسيوي من المدينة في النقطة التي كان ينطلق منها الموكب السلطانيّ إلى مكة، ويتجمع الناس المودّعين لأحبائهم قبيل مغادرتهم إسطنبول وذهابهم لأداء فريضة الحج، أو حتى كانت تلك النقطة أيضًا مكان تجمع الجيوش والقوافل المتجهة شرقًا. وبالمثل، كان أيضًا Selami Çeşme، أو سبيل السلام، حيث كان يتجمع عنده المرحّبين بالواصلين للمدينة والقادمين إليها.
سبيل “عذاب كابي”
أمّا سبيل “عذاب كابي” أو كما يُعرف بالتركية “Azapkapı“، والذي يقع في منطقة الفاتح الشهيرة في المدينة، فيروي قصةً مثيرة في التاريخ العثماني. فوفقًا للروايات التاريخية، يُقال أنّه وبينما كانت السلطانة “رابعة جولنوش” تتجول في أحياء المدينة، فقد رأت طفلةً صغيرة تبكي بجانب إناءٍ مكسور، فتوقفت عندها وعرضت عليها المال مقابله إلا أنّ الطفلة رفضت وحملت أدراجها عائدة لبيتها.
فما كان من الوالدة سلطان جولنوش إلا اللحاق بالفتاة والطلب من والديها أنْ تأخذها معها إلى القصر لتنشأ في القسم الحرميّ السلطانيّ، دون أنْ تدري أنّ تلك الفتاة، التي حملت اسم “صالحة”، ستصبح ذات يوم زوجةً للسلطان مصطفى الثاني وأمًا لابنه السلطان محمود الأول، الأمر الذي لم يدعها تنسى حيّها، وتطلب بعد أعوام عديدة، تحديدًا في 1732، بناءَ سبيل مياه مميز يتّسم بجمال عمارته وشكله المختلف في المكان الذي حدثت فيه الحادثة، لتخلّد اسمها في تاريخ الدولة من جهة، وتخدم حيّها وسكانه من جهةٍ أخرى.
كما اتسمت الفترة ما بين عاميْ 1718 و 1730 والمعروفة باسم “فترة التوليب” بازدهارٍ حضاريّ كبير ومرحلة سلامٍ خالية من الحروب في الدولة، ما انعكس على الكثير من جوانب الحياة آنذاك، إذ عكف السلطان أحمد الثالث على بناء القصور والمباني المعمارية بما فيها سبل ونوافير المياه على شواطئ القرن الذهبي من خليج البسفور.
ومن أكثر السبل والنوافير شهرةً في ذلك الوقت، تلك التي تقف أمام إحدى البوابات الرئيسية لقصر الباب العالي، التي يمكن لأيّ سائحٍ أو زائر للقصر أن يراها ويمتّع عينيه بجمالها وعَمارتها البديعة، إضافةً للنقوش التي تعلوها، وهي قصيدة من القرن الخامس عشر في مدح الماء والسلطان أحمد الذي أمر ببنائها بتصميم الخط بنفسه.
السبل كمراكز اجتماعية وعلامة حضارية
حتى القرن الثامن عشر، لم يكن بإمكان الماء التدفق سوى لقصور ومنازل الأثرياء، أما بقية سكان المدينة فكانوا يستفيدون فقط من النوافير والسبل التي تتواجد في أحيائهم وأماكن جوارهم، عوضًا عن تواجد وظيفة “السقًا” أو “حمّال المياه” الذي عمل على إيصال الماء مباشرة إلى بيوتهم.
لوحة تجسد سبيل الماء في أسواق إسطنبول التاريخية
وفي البداية تم إنشاء النوافير بحيث كان الماء يتدفق بحريّة وانسكابٍ غير متحكّم به، ما أدى لبعض الفوضى، ولكن في عهد السلطان سليمان القانونيّ تم إدخال الصنابير على يد معمار سنان الذي أوكل بهمهة تجديد نظام المياه بأكمله، ما أدى إلى توفيرٍ أكبر للمياه ومنع انتشار الوحل والطين في الشوارع والأزقة جراء الماء المتدفق بقوة.
ومع محاولات الدولة للتقليد الحضارة الغربية، بدأت النوافير شيئًا فشيئًا بالتحوّل من العمارة العثمانية المألوفة إلى الغربية لا سيّما الطراز الباروكيّ الذي يتسم بتكلّفه وتصنعه ومبالغته في الزينة والجمال وبرز فيه الاستعمال المخادع للمؤثرات البصرية؛ حيث سعى الجمال الفني لإيجاد وسائل تعبير جديدة اعتمدت على التفاصيل المنمقة والمبالغ بوفرة الأشكال الديناميكية مع غلبة المنحنيات المقعرة والمحدبة، وواجهات غنية بالتصاميم ومكتظة بالمنحوتات.
السبيل الألماني في ساحة السلطان أحمد
ولا يمكن الحديث عن السبل في تلك الفترة دون المرور على سبيل الماء في ساحة السلطان أحمد، أو “السبيل الألماني” كما يسمّى، والذي تم بناؤه في ذكرى الزيارة الثانية للإمبراطور الألماني ويليام الثاني لإسطنبول، على النمط النيورونسانسي بمخطط ثماني ذو قبة، وقد تم تحضير أجزائه في ألمانيا، ويحمل داخل قبته نقشًا لختم السلطان عبد الحميد الثاني وتوقيع ويليام الثاني.