حظي فيسبوك لسنوات طويلة بأضواء الشهرة والنجاح، لكن منذ العام الماضي بدا أن الحظ لم يعد يحالفه كالسابق وتركه يصارع في دوامات من الانتقادات والاتهامات التي أثرت بشكل ملحوظ على ثقة المستخدمين فيه، خاصة بعد فضيحة “كامبريديج أناليتكا” التي أثبتت هواجس الرأي العام بدور هذه المنصة في بيع بيانات المستخدم إلى جهات خارجية.
كان لهذه الحادثة عواقب كثيرة، أبرزها هبوط أسهم الشركة في بورصة نيويورك وخسارة ما يقارب 9 مليارات في غضون يومين فقط، ودعوة مارك زوكربيرغ للمثول أمام مجلس العموم البريطاني ومجلس الشيوخ الأمريكي للتحقيق معه بخصوص انتهاك خصوصية 50 مليون مستخدم، وبالفعل أدلى زوكربيرغ بشهادته أمام لجنة الطاقة والتجارة في مجلس النواب الأمريكي يوم أمس، بعد أن رفض دعوة مجلس العموم البريطاني.
كيف جرى تحقيق مارك زوكربيرغ في قضية انتهاك بيانات المستخدمين؟
كان من المرجح أن يقدم زوكربيرغ إجابات مقنعة ومرضية لـ44 عضوًا من أعضاء الكونغرس الذين توقعوا بدورهم الحصول على تصريحات مباشرة وواضحة قبل أن يفقدوا صبرهم أو يعلنوا قرار فرض رقابة صارمة على قوانين المنصة، وهذا يعني تضييق المساحات الإعلانية في الموقع التي تمثل مصدرًا رئيسيًا لأرباح الشركة.
لكن كما هو متوقع، بدا زوكربيرغ مستعدًا لامتصاص الغضب الشعبي والسياسي المتمثل بأسئلة الكونجرس، وكانت إجاباته عبارة عن وعود واعتذارات، فجاء رد من أحد الأعضاء “نحن بحاجة للقوانين وليس وعودًا واعتذارات”، فعاد زوكربيرج للتذكير بالخطط والإجراءات التي تعمل الإدارة على إدراجها وتطويرها لخدمة الأمن الإلكتروني.
مارك كان مدربًا جيدًا على حساب الدقائق والتلاعب بالكلمات وإظهار تفهمه للمشكلة واستعداده لإيجاد الحلول، والتركيز على مدار الساعة بالحديث عن المهمة الأساسية للفيسبوك في تسهيل التواصل بين الناس
وفي هذا السياق، رأى البعض أن مارك كان مدربًا جيدًا على حساب الدقائق والتلاعب بالكلمات وإظهار تفهمه للمشكلة واستعداده لإيجاد الحلول، والتركيز على مدار الساعة بالحديث عن مهمة الأساسية فيسبوك في تسهيل التواصل بين الناس، خاصة أن كل عضو في المجلس كان يسمح له بأقل من 5 دقائق للحديث، فكان من الصعب المتابعة على أجوبة زوكربيرغ أو التشديد عليها.
ومن جهة أخرى يعتقد البعض أن زوكربيرغ أخفق في هذا التحقيق، لا سيما عندما سأله أحد أعضاء المجلس إذا كان يرغب في الإفصاح عن اسم الفندق الذي وُجد فيه أو أسماء الأشخاص الذين راسلهم خلال الأسبوع، واعتلت إجاباته ملامح القلق والإرباك قائلًا “لا، أفضل ألا أشارك هذه المعلومات هنا علنًا”، وجاء رد السيناتور كالتالي “ذلك حقك في الخصوصية وحق كل مواطن أمريكي آخر”، وهذا تلميح واضح لمشكلة الخصوصية في فيسبوك.
وعند سؤال السيناتور الديمقراطي ديان فاينشتاين عن استغلال روسيا لمنصة فيسبوك خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2016، اعترف زوكربيرغ بأن جهود الشركة لإيقاف التدخل الروسي كانت بطيئة، واستغرق الأمر وقتًا طويلاً لتتبع مجموعات القرصنة الروسية.
وفي محاولة من زوكربيرغ لعرض النقاط الإيجابية للموقع، ذكّر أعضاء المجلس بأهمية هذه المنصة في جعل أصوات المجتمعات مسموعة وبناء شركات وتوظيف الآلاف، وأشار إلى دورها في إطلاق حملات ضخمة مثل “أنا أيضًا” وجمع أكثر من 20 مليون دولار لإغاثة متضرري إعصار هارفي.
محاولات زوكربيرغ في تسليط الضوء على الجانب المثالي والواعد للموقع لم ترض السيناتور ريتشارد بلومنثال الذي قال إنه غير راضٍ عن شهادة مارك زوكربيرغ، ووصفها بأنها جولة أخرى من الاعتذارات
هذا العرض التاريخي لإنجازات الموقع شمله اعترافات بدور الفيسبوك في نشر الأخبار المزيفة والتدخل الأجنبي في الانتخابات وخطاب الكراهية، وتحمل زوكربيرغ مسؤولية هذه الأخطاء جميعها بشكل كامل لأنه لا يكفي إدراج أدوات جديدة دون ضمان استخدامها في الأمور الإيجابية، وعلى إثر هذا التصريح أوضح أنه لم يدرك أن تسهيل التواصل بين الأشخاص ليس كافيًا، وإنما عليه التأكد من استخدام هذه الوسيلة بطريقة إيجابية، فلا يكفي منح الأشخاص صوت، بل يجب التأكد من عدم استخدام هذه الأصوات لإيذاء الآخرين أو نشر معلومات كاذبة.
لكن هذه المحاولات في تسليط الضوء على الجانب المثالي والواعد للموقع لم ترض الكثيرين من أعضاء الكونغرس أمثال السيناتور الديمقراطي ريتشارد بلومنثال الذي قال لصحيفة “نيويورك تايمز” إنه غير راضٍ عن شهادة مارك زوكربيرغ، ووصفها بأنها جولة أخرى من الاعتذارات وهذا دليل على عدم قدرة فيسبوك على إدارة الموقع، ولهذا يلزم على الكونغرس تقديم حل لهذه المشكلة.
بماذا وعد زوكربيرغ أعضاء المجلس ومستخدمي فيسبوك؟
أكد زوكربيرغ مسؤولية الموقع في التأكد من عدم وصول مطوري البرامج إلى بيانات المستخدم إذا توقف الشخص عن استخدام التطبيق لـ3 أشهر وتشديد الرقابة إلى أكبر قدر ممكن على المعلومات، وإذا اكتُشف شخص ما يستخدم البيانات بشكل غير مقبول فسيتم حظره والإخبار عنه، وبصفة عامة أوضح زوكربيرغ أن البيانات التي يقدمها المستخدم للتسجيل في التطبيق أصبحت مقتصرة على الاسم والصورة وعنوان البريد الإلكتروني.
للتصدي لأي تهديدات وتدخلات أجنبية قال زوكربيرغ أن إدارة الموقع قامت العام الماضي خلال الفترة التي سبقت الانتخابات في فرنسا، بحظر نحو 30 ألف حساب مزيف، وحديثًا حذف الموقع أكثر من 270 صفحة وحساب تديرها الوكالة الروسية، والمستخدمة في استهداف أشخاص في روسيا وأذربيجان وأوزبكستان وأوكرانيا، مع العلم أنه يوجد أكثر من ربع مليار حساب مزيف على فيسبوك.
وعلى اعتبار أن الشركة تقوم بعمل جبار، فأعلن زوكربيرغ توظيف ما لا يقل عن 5 آلاف شخص في قطاع الأمن المعلوماتي لمراجعة الأمن والمحتوى الإلكتروني، ليصبح عدد موظفيه 20 ألف بحلول نهاية العام.
من يرغب في نشر إعلانات سياسية عليه الحصول على تصريح وتأكيد لهويته وموقعه وإظهار مصدر الأموال، على أساس أن حماية المجتمعات أكثر أهمية من تعظيم أرباح الشركة
وركزت إدارة الموقع أيضًا على المعلنين، إذ قالت كل من يرغب في نشر إعلانات سياسية عليه الحصول على تصريح وتأكيد لهويته وموقعه وإظهار مصدر الأموال، على أساس أن حماية المجتمعات أكثر أهمية من تعظيم أرباح الشركة على حد قوله، ودلل على ضرورة توفير بعض البيانات للمعلنين حتى تكون إعلاناتهم مرتبطة ومناسبة لطبيعة المستخدمين.
وأوضح أن الموقع يطالب الأشخاص الذي يديرون حسابات كبيرة أن يجعلوها موثقة بالعلامة الزرقاء، لأن هذه الإشارة ستصعب الأمور على الأشخاص الذين يديرون صفحات وهمية ومزيفة.
وأشار إلى أولوية الشركة في مواجهة الانتخابات القادمة في عدد من الدول مثل المكسيك والبرازيل وباكستان والولايات المتحدة الأمريكية، إذ قال: “أهم أولوياتنا خلال 2018 التأكد من أننا ندعم الخطاب الإيجابي ونمنع التدخل الأجنبي بالانتخابات”.
هذه الإجراءات التي يعد زوكربيرغ بتطويرها، جاءت ردًا على ردود الفعل الصاخبة التي تلقتها الشركة بعد فضيحة كامبريديج التي دعمها شخصيات سياسية بارزة مثل تيريزا ماي
جدير بالذكر أن هذه الإجراءات التي يعد زوكربيرغ بتطويرها، نشرها مسبقًا على صفحته الخاصة على الموقع، وذلك ردًا على ردود الفعل الصاخبة التي تلقتها الشركة بعد فضيحة كامبريديج التي دعمها شخصيات سياسية بارزة مثل تيريزا ماي التي أيدت إجراء التحقيق في القضية ووصفت هذه المعلومات المسربة بـ”مقلقة للغاية”، إضافة إلى وزير المعلوماتية الهندي الذي اتصل بالشركة وأعلمها أنه إذا جرت سرقة أي بيانات لمواطنين هنود عبر أنظمة فيسبوك فإن بلاده التي تضم أكبر عدد من مستخدمي الموقع لن تتهاون في الأمر، وذلك على إثر الاتهامات التي طالت الحزب الحاكم في الهند بإشراك شركة كامبريديج أناليتكا بإدارة حملاته الانتخابية.
جاءت هذه التهديدات من رجال التكنولوجيا أيضًا، أمثال إيلون ماسك الذي ألغى حسابات شركته على الموقع، ونشر براين آكتون مؤسس واتساب تغريدة كتب فيها “لقد حان الوقت للقلق بشأن الخصوصية”، وأخيرًا وإليس كامبو عضو مساهم في تطبيق تلغرام الذي قال إنه حذف فيسبوك منذ وقت طويل، وهذا يشمل أي تطبيق تابع لفيسبوك مثل إنستغرام وواتساب.
المخاوف الصريحة والمعلنة لم تكن وحدها ما أرغمت فيسبوك على الإعلان مبكرًا عن التغييرات الجذرية في الموقع، ولكن الكشف عن انتهاكات جديدة لمكالمات المستخدمين ورسائل الماسنجر والكاميرا وضعت الموقع في مأزق
هذه المخاوف الصريحة والمعلنة لم تكن وحدها ما أرغمت فيسبوك على الإعلان مبكرًا عن الأدوات والتغييرات الجذرية في الموقع، ولكن الكشف عن انتهاكات جديدة لمكالمات المستخدمين وتطبيق الماسنجر والكاميرا؛ جميعها وضعت فيسبوك في مأزق لا تحسد عليه.
فعلى إثر هذه الفضائح المتتالية، تراجعت الشركة عن إطلاق مشروع السماعات الذكية “بورتال” التي تسمح للمستخدمين باستخدام الأوامر الصوتية لتشغيل الموسيقى وإجراء المكالمات الصوتية والمرئية دون استخدام اليدين، لكن أُجل خوفًا من مواجهة تساؤلات أكثر في قضية الخصوصية.