إذا أرادت الأنظمة الإفلات من الاتهامات التي تُسبب لها وجع الرأس كما هو الحال في الولايات المتحدة عن العنصرية ضد الأفارقة الأمريكان، يكون تفسير كل جريمة يرتكبها أمريكي أبيض البشرة هو المرض العقلي أو المرض النفسي الذي يكون حجة بيّنة بالنسبة للنظام للإفلات من الاتهامات العنصرية وتبرير أبشع جرائم القتل والعنف.
ولكن هل تساءلت ذات مرة لماذا تصور الدراما القتلة والمجرمين على أنهم أشخاص مفرطو الذكاء ويتمتعون بقدرات عقلية تختلف عن بقية الناس، ربما لم تشغل بالك كثيرًا بما يدور في دماغ القاتل وانشغلت بالضحية أكثر بسبب تعاطفك الإنساني معها، لكن العلماء لم يتفقوا معك في التعاطف مع الضحية فحسب، بل تعاطفوا مع القاتل أيضًا، من أجل أن يكتشفوا اختلاف دماغه عن دماغ بقية الناس العادية.
قبل الحديث عما اكتشفه العلماء من دراسات طبية، يجب أن نُفرق جيدًا بين كل من القتلة المندفعين والقتلة الذين يخططون لجرائمهم قبل ارتكابها، حيث يكون القاتل المُخطط لجريمته مسبقًا أكثر ذكاءً من القاتل المُندفع (Impulsive killer)، فقد كشفت بعض الدراسات اختلافًا جذريًا بين دماغ القاتل المندفع ودماغ القاتل المُحدد لجريمته مسبقًا.
أسفرت دراسة في جامعة “نورث ويسترن” البحثية في الولايات المتحدة الأمريكية عن الاختلافات العصبية والدماغية (المتعلقة بالذكاء) بين دماغي القاتل المُندفع الذي لم يُخطط لجريمته ولم يكن مُصممًا على ارتكابها، والقاتل الذي خطط لكل تفاصيل أحداث جريمته قبل أن يرتكبها بالفعل، حيث اختبر الطبيب روبورت هانلون 77 قاتلًا من داخل سجون بضعة ولايات داخل الولايات المتحدة من لإنشاء نموذج يخبرنا عن الفرق بين دماغ نوعي القتلة المختلفين من حيث الذكاء والاختلافات العصبية.
وجدت الدراسة أن 60% من القتلة المندفعين عانوا من تأخرات عقلية وتخلف في وظائفهم الإدراكية مقارنة بالقتلة الإستراتيجيين الذين يخططون لجرائمهم، حيث لم يُظهر هؤلاء أي معاناة في الوظائف الدماغية من حيث التفكير والذكاء، ولكن على عكس القتلة المندفعين، أظهر القتلة الإستراتيجيين علامات تدل على إصابتهم باضطرابات نفسية مختلفة.
استغرقت تلك الدراسة من الطبيب هانلون خبير العلوم السلوكية، ساعات من الاختبارات لكل سجين من الـ77 سجينًا، وتضمنت اختبارات نفسية وتحديد القدرات الوظيفية والتنفيذية للدماغ بالإضافة إلى اختبارات الذكاء واختبارات لها علاقة بمهارات التخطيط وحل المشاكل، الذي حث بسببها على أن تكون تلك الاختبارات جزءًا أساسيًا من الحكم القضائي وجزءًا مهمًا في العدالة الجنائية لفهم عقلية مرتكبي تلك الجرائم العنيفة والأسباب التي دفعتهم لذلك.
60% من القتلة المندفعين عانوا من تأخرات عقلية وتخلف في وظائفهم الإدراكية مقارنة بالقتلة الإستراتيجيين الذين يخططون لجرائمهم، حيث لم يُظهر هؤلاء أي معاناة في الوظائف الدماغية من حيث التفكير والذكاء
هل يمكن أن تكشف الأشعة عن الدماغ القاتل؟
إذا كان القاتل يتمتع بدماغ تختلف عن الدماغ العادي، هل من الممكن أن تكتشف الأشعة عن الدماغ؟ كان ذلك سؤال عالم “الجريمة العصبية” كما وصف نفسه آدريان راين الذي انتقل من بريطانيا إلى الولايات المتحدة من أجل التدريس في جامعة بنسلفانيا، إلا أن هذا لم يكن السبب الوحيد الذي دفع راين للانتقال إلى الولايات المتحدة، فكان السبب الرئيسي أن في الولايات المتحدة عددًا أكبر من المجرمين والقتلة مقارنة ببلده الأم بريطانيا.
كان راين من بين العلماء الأوائل الذين استعملوا العلم في تحليل السلوك الإجرامي، حيث كانت دراسته في عام 1994 من أهم الدراسات في ذلك المجال على الرغم من أنها لم تُطبق على عدد كبير من المجرمين الخاضعين للتجربة في تلك الدراسة وهم 41 مجرمًا، فقد أجرى راين مسحًا للدماغ باستخدام أحد أنواع التصوير المقطعي في محاولة لمعرفة كيف يختلف دماغ القاتل عن دماغ الإنسان العادي.
حاول راين المقارنة بين التصوير المقطعي لدماغ 41 قاتلًا و41 شخصًا عاديًا من نفس العمر وله نفس الصفات الجسدية، حيث اكتشف أن الصور الملتقطة لأدمغة القتلة تشير إلى عجز واضح في نمو منطقة القشرة الجبهية (prefrontal cortex) للدماغ المسؤولة عن الوظائف التنفيذية للإنسان، مقارنة بأدمغة الأشخاص العاديين.
قلة نمو القشرة الجبهية في الدماغ تزيد من احتمالية عدم تحكم الإنسان في كثير من العواطف، من بينها الغضب والانتقام والعنف
ما العلاقة بين القاتل وبيولوجية الجريمة؟
في كتابه “تشريح العنف: الأصول البيولوجية للجريمة” شرح راين تجاربه التي استمرت ثلاثة عقود متوالية لتجيب عن أسئلة سألها العلم مثل: هل يولد المرء قاتلًا؟ أو هل يوجد ما يُعرف بـ”قاتل بالفطرة”؟ وكيف يتحول الطفل البريء إلى قاتل متسلسل؟ حاول راين الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال التحليل البيولوجي والبيئي الذي قد يؤدي بالفعل لصناعة عقل مجرم.
في الواقع لم يكن راين أول من تساءل هذه الأسئلة، لقد سبقه عدة علماء في القرون الماضية، كان من بينهم العالم والجراح الإيطالي تشيزرى لومبروزو عام 1876 الذي تطرق للأمر من جانب تشريح الجمجمة لعدة قتلة متسلسلين، بناءً على الاعتقاد الطبي السائد في ذلك الوقت أن دماغ المجرم تنتج من دماغ عادية أصابها فرط النمو أو قلة النمو، ولا تتمتع بتجويف الجمجمة العادي كالذي يكون في أغلب جماجم الناس العادية.
اكتشف الجراح الإيطالي جراء تشريح جماجم بعض القتلة المتسلسلين (serial killers) والمغتصبين أن هناك تجويفًا في الدماغ، حيث المخيخ، لا يتطابق مع كثير من أدمغة البشر العادية، وأرجع سببه إلى أن القتلة والمجرمين لهم تشريح جمجمة يعود للإنسان البدائي!
التشوه في مناطق مثل الفص الجبهي والجهاز الحوفي في الدماغ قد تؤدي إلى صعوبة في التحكم والسيطرة على الجسم وسوء في تقدير الأمور وعدوانية متطرفة
لم يتفق كثير من العلماء في العصر الحديث ومن بينهم آدريان راين مع ما توصل إليه كثير من علماء القرون الماضية حيال أمر تشريح جمجمة ودماغ القتلة والمجرمين، ربما كان هذا سببًا من أسباب تأخير نشر دراسات راين وكتبه المتعلقة بالبيولوجية الكامنة خلف الدماغ المجرم.
بين عامي 1960 و1970 كان هناك قاتل يُدعى هينري لي لوكاس الذي اعترف حينما سُجن عام 1983 بأنه قتل المئات من الضحايا، كان من بينهم أفراد من عائلته ووالدته، وهو نفس القاتل الذى أجرى العلماء بحوثًا على دماغه ليكتشفوا علاقة وثيقة بين جرائمه البشعة وتركيبة دماغه، إذ كان يُعاني من تشوه في عدة مناطق من الدماغ من بينها الفص الجبهي ومنطقة ما تحت المهاد والجهاز الحوفي المسؤول عن أغلب المشاعر والعواطف مثل السعادة والخوف والغضب.
هل القاتل مُخير فيما يفعله؟
بالنسبة للطبيب أدريان راين العالم في علم “الجريمة العصبية” فإن مهما حاول البشر تصديق أنفسهم أنهم مُخيرون في أفعالهم فهم يصدقون أوهامهم، وذلك لأن الجسد البشري أسير كل ما ورثه من جينات، وأسير حدود وظائف دماغه، فالبنسة لراين فإن الإنسان مُخير في حدود دماغه وليس في المطلق كما يعتقد.
هنا تفرض الجدلية الخاصة بالصراع بين التنشئة والطبيعة، أو الفطرة في سياق آخر، نفسها على الساحة، إلا أن الأهم من الصراع الجدلي بين التنشئة والفطرة بالنسبة لراين التركيبة المعقدة التي تظهر في الإنسان نتيجة تفاعل البيئة المحيطة به مع بيولوجية دماغه.
ربما سيكون ذلك صعب التصديق قليلًا، إلا أن الظروف البيئية المحيطة بالإنسان قد تؤثر على بنية تركيبته العقلية أو البنية الفيزيائية للدماغ، حيث أشارت بعض الدراسات إلى ارتباط المجرمين والقتلة بكثير من الظروف البيئية غير المتزنة في طفولتهم، من بينها الإساءة والإهمال والاعتداء الجنسي والتنشئة في ظروف غير صحية للطفل وتعرضه للكحوليات والمخدرات في عمر مبكر.
اتخذت الدراسات الطويلة كثيرًا من الأطفال الذين تعرضوا لحادثة عنف في طفولتهم أو شهدوا حادثة عنف مثل قتل أو سرقة في أثناء مراحل نموهم هدفًا للدراسات المطولة التي تستمر أجيالًا لمعرفة العلاقات السببية بين ما يحدث في الظروف المحيطة في بيئة الطفل لكي يتحول فيما بعد إلى قاتل متسلسل، لتظهر النتائج أن كل من تعرض للعنف في مرحلة الطفولة من المرجح أن يكون دماغه فيزيائية قابلة أكثر لارتكاب الجرائم.
الظروف البيئية المحيطة بالإنسان قد تؤثر على بنية تركيبته العقلية أو البنية الفيزيائية للدماغ
هل يحاول العلماء أن يتبعوا نفس الإستراتيجية التي يتبعها الأمريكان حيال قيام أمريكي أبيض البشرة بهجوم إرهابي لتفسير جريمته على أنها علل نفسي أو عقلي؟ ربما يكون الأمر شائكًا حينما نخلط العدالة من خلال توصيف القتل على أنه مرض بيولوجي، وهو ما يثير السؤال: إن استطاع العلم تحديد دماغ القاتل من بين الأدمغة العادية، لماذا لا يمنع القتل إذًا قبل حدوثه؟
اتفق العلماء أن إجابة هذا السؤال تتحمل الكثير من الصعاب، أولها هو اختراق خصوصية الإنسان وحريته، وهذا بتحديد مصيره كونه قاتلًا قبل أن يرتكب أي جريمة في حق أي شخص لمجرد وجود علل في تركيبة دماغه أو نفسيته، بالإضافة لذلك وعلى الرغم من تطور علم الأعصاب في مجال العدالة القضائية فلن يستطيع الأطباء توقع القاتل من تحليله البيولوجي بنسبة 100%، إلا أن هذا التحليل قابل للتطبيق لكل سجين يُطلق سراحه للتأكد من سلامته العقلية والنفسية.