الأمر غير واضح، يقولها لك بلا مواربة أكثر المتفائلين في تونس إذا سألته عن احتمال مشاركته في انتخابات رئاسية حُدد موعدها يوم 6 أكتوبر/ تشرين الثاني 2024. الغموض يكتنف المشهد. هناك اتفاق عام على أن لا تغيير سياسي في تونس بوسائل القوة أو بتثوير شارع، إنما بوسائل السياسة ومنها الانتخابات.
لكن يقوم ضد هذا الاتفاق مناخ من عدم الثقة في ما يحيط بالعملية الانتخابية والسلطة القائمة كل يوم بل كل ساعة، ما يعزز مناخ عدم الثقة، وبما يزيد الصورة غموضًا، ويحرّض دعوات المقاطعة القائمة على أن المشاركة في لعبة “مضروبة” هو تشريع للتحايل والغش، ليس في دورة انتخابية واحدة بل في مسارات العمل السياسي برمّتها. نحاول الإحاطة بالمشهد المتحرك رغم اليأس المهمين.
مترشحون بلا سيرة سياسية
معطى أول: أعلنت أسماء كثيرة تقدمها للاستحقاق الانتخابي، لكنها أسماء بلا سيرة سياسية ولا سابقة نضالية، وهذا ليس حكمًا أخلاقيًا بل قراءة في طبيعة المغامرين بالترشح في هذا المناخ، الذي يُبنى على الطعن الأخلاقي في من حكمَ قبل انقلاب 25 يونيو/ حزيران، منطلقًا من أن من حكمَ بسيرته النضالية لم يبدع في سيرته السياسية.
المتقدمون فيهم المؤرخ المتقاعد والطبيب الشاب والمغامر السياسي، وليس لأي منهم سند حزبي في الشارع، فهم أسماء مفردة وبلا قدرات مادية لمواجهة كلفة الدعاية الانتخابية.
البرامج أو العناوين المعلنة حتى الآن تتجنب الاستناد إلى دستور 2014، وفيها من يتحدث عن استفتاء حول دستورَين، متجنبًا بذلك مصادمة الرئيس القائم صاحب الدستور الفردي، فهو يقع في تثمين الانقلاب معتبرًا إياه ضرورة سياسية لا بدَّ منها.
هنا يقع التلبيس على الناس، فالترشح في جوهره معارضة للقائم، لكن أن تعارضه محتفظًا بوسائله التي أوصلته يُفقد المترشح كل مصداقية، ويجعل العملية برمّتها استبدال أسماء لا استبدال سياسات. وهذا يزيد الأمر غموضًا ويعطي مصداقية للقائلين إن الترشحات تدخل تحت باب توزيع الأدوار مع الانقلاب، أو في أفضل الحالات ابتزاز له في انتظار مكرمة تثمّن الانسحاب أو الانسحاب بثمن في مكان ما، وهذا تقليد تونسي، فمن يزعجون السلطة يحظون غالبًا بمهام دبلوماسية وبسفارات ذات رواتب عالية، فبعض السفارات منافي مريحة.
تجاوز التونسيون من يأس السؤال الأساسي؛ لماذا لم تبنَ في تونس أحزاب ذات برامج ورؤى تحرك الناس على ضوء أفكارها، مثل هؤلاء الذين يبزغون فجأة من لا مكان، فيتزعّمون بلا سيرة ولا وزن، هم من قطع الطريق على كل عمل حزبي مؤثر. إنهم أفراد بذوات متورّمة يمكن اعتبارها ميزة الساحة السياسية التونسية. هنا يبرز الحزب الوحيد في تونس: حزب النهضة.
حزب النهضة قوة سياسية وحيدة
معطى ثانٍ: التونسيون قوم مسيّسون في الأعم الأغلب (وهو حكم غير مسنود بأرقام)، لكن الشأن العام موضوع متداول في كل مجلس. لذلك يدرك كثيرون أن الشخصيات الفردية لا تمنحهم ثقة كافية في ساحة خالية من الأحزاب الفاعلة، لكن جميعهم يعرف بوجود حزب النهضة، والأكثر إدراكًا لوجود الحزب ووزنه هم المتقدمون للمنصب، لذلك نراهم طابورًا أمام هاتف أمينه العام بعد أن أُغلق المقر الحزبي.
يقبع أمين عام حزب النهضة الآن في السجن بتهم لم نعرفها بعد (فحتى محاموه مُنعوا من التواصل معه)، وفي غياب تهم قابلة للتجريم فإن المعنى الوحيد لهذا الاعتقال هو المفاوضة على الخزّان الانتخابي للحزب. إذ يملك الحزب أن يصدر أمرًا بسيطًا ليحصّل أي مرشح التزكيات القانونية، ويمكنه أن يرجح كفّة أي مرشح في أي دور انتخابي، وله سوابق في الأمر.
التفاوض مع الحزب (القيادة المعتقلة) يتم على أساس استئصالي، فلا أحد عرضَ على الحزب صفقة مشاركة في حكم أو تطبيع وضع الحزب السياسي بكفّ المطاردة، إنما يجري على قاعدة “أعطني خزانك الانتخابي أو أسجنك وأعذبك وأقطع رزقك”. هذا أكبر إقرار بحجم الحزب ووزنه في الشارع وفي الصندوق، وهو الإقرار الأشد وضوحًا على إقفار الساحة السياسة التونسية من كل قوة سياسية مدنية فاعلة غير حزب النهضة.
فالأمر/ الصراع يجري بين الأجهزة التي تقدر على الاعتقال ولها مرشحها الغامض بعد (بقية الدولة العميقة)، وبين القوة الشعبية الأولى في البلاد. لهذا نتوقع اعتقالات أخرى وهرسلة حتى يرضخ الحزب ولا نراه يفعل، فلدى قيادته وعي كافٍ بوزنها ودورها في هذه المرحلة الدقيقة، ولها تجربة سجون كافية للصبر. أين الرئيس القائم من كل هذا؟ وهل هو مرشح المنظومة الحاكمة؟ وهل هذه الهرسلة تتم لحسابه؟
الرئيس بدأ حملته بالأصفار
معطى ثالث: إننا نراه يتحرك بسرعة لكن بلا خطة قابلة للقراءة. إنه متمسك بالمنصب وهذا حق قانوني لا يجادل، لكن بماذا يمكن الفوز في حالته؟ غالبًا يقوم الراغبون في الاستمرار عبر الانتخاب (لا الاستفتاء العربي) بتعديد إنجازات وعرض مشاريع جديدة لجلب الناخب لصفّهم، لكن في حالتنا هناك صفر إنجازات وصفر وعود، حتى أن كثيرًا من النخب التي مالت للرئيس في 25 يونيو/ حزيران انفضّت عنه، فقد عادى الجميع وأهان حتى المقربين منه بالإقالات غير المبررة.
هل يبحث عن جمهور النهضة بواسطة الأجهزة الأمنية ليجبرهم على انتخابه، فيكون هو مرشح المنظومة؟ هذه أسوأ الوسائل لجلب جمهور يمكنه إذا أُرغم على التصويت أن يشطب الورقة في الخلوة، فلا يفوز بصوته أحد.
يقول المتفائلون إن صيف تونس السياسي ساخن، وأنه يفتح على احتمالات تغيير سلمي بوسائل السياسة، لكن الصورة ليست بهذا الوضوح عند الغالبية. الناخب محبط وحائر ومعرض عن التصويت، وكثيره زهدَ الحديث في الموضوع وغلبَ عليه التشكّي من الوضع الاقتصادي، لذلك ما لم يظهر مرشح معجزة يمكن الاعتماد عليه بشكل دائم، فإن الغموض سيستمر ويحلّ الموعد الانتخابي ولا يشكّل حدثًا.
لنعش هذا الصيف الساخن، فقد صارت بعض أخطاء المترشحين نكتًا نتسلى بها قبل أن يصبحوا رؤساء، سيريحنا ضعفهم من أسمائهم قبل أن يطويهم الدهر، فنغنم من الانتخابات ولو قاطعنها التخلص من قطط تتخيل نفسها أسودًا.