في عام 1993 وتحت هاجس الأمن المتردي بفعل الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، اتجهت “إسرائيل” نحو زاويةٍ أخرى في التعامل مع الفلسطينيين، بما يضمن لها الانفصال عنهم بأكبر قدرٍ يقلل من المخاطر الأمنية على وجودها العسكري وتوسعها الاستيطاني، وبما يحيل أيضًا عبء شؤونهم الحياتية لمسؤولية الإدارة الفلسطينية الوليدة من عتمة اتفاقية أوسلو.
في عام 2017 وتحت إلحاح الأمن الاستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الرياض عن تأسيس “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي (MESA)” بمشاركة الدول العربية الخليجية ومصر والأردن، لتتسع أدوار التحالف لاحقًا على المستوى الإقليمي بفعل اتفاقيات أبراهام وتزداد الهيمنة الإسرائيلية بريًا وبحريًا وجويًا، في مقابل تضاؤل الاهتمام الإسرائيلي بالتنسيق الأمني الفلسطيني والسعي لتقويضٍ نهائي للفلسطينيين في إطار شرق أوسطٍ جديد لم يوقف مكابحه سوى عملية المقاومة في السابع من أكتوبر الماضي، وما نتج عنها من تزعزع الأمن الإسرائيلي إقليميًا واستراتيجيًا، وعودةٍ للمربعات الأولى.
في ضوء التفاعلات المتسارعة على مستوى الأمن الإسرائيلي، ترصد الفقرات التالية التسلسل الزمني للتنسيق الأمني مع الفلسطينيين والتنسيق الأمني والعسكري مع العرب، وتنازعاتهما بين المأمول الفلسطيني والعربي والمتوقع الأمريكي الإسرائيلي، وعلاقتهما في ظل اتفاقيات أبراهام، وعملية المقاومة في السابع من أكتوبر، وما ارتبط بها من تغيير في مستويات التحالف والتنسيق، وما تلاها من ردٍ إيراني على الهجوم الإسرائيلي لدمشق ودلالات ذلك إسرائيليًا وأمريكيًا وغربيًا.
أوسلو: الأمن الإسرائيلي مسؤولية فلسطينية
ما بين أوسلو 1993 وطابا 1995، كانت الرؤية الإسرائيلية الجديدة لمفهوم الأمن قد وضعت حجر الشطرنج الأخير على رقعة القضية الفلسطينية، وحددت لسلطة أوسلو مسؤوليتها الوظيفية وارتباط وجودها بالأمن الإسرائيلي، كما أكملت تنفيذ استراتيجيتها بتحول الوجود الإسرائيلي من تمركزٍ دائم ومباشر في المدن والتجمعات الفلسطينية إلى سيطرةٍ عن بعد وعملياتٍ انتقائية مباغتة تحقق الأمن دون أن تخل بالسيادة أو تفقد الإسرائيليين الكثير من الأرض.
فيما نقلت للسلطة الفلسطينية التعليم والصحة والهويات والتراخيص وإدارة البلديات والمجالس المحلية ومراكز المدن والبلدات الفلسطينية، ليمثل هذا ببساطة جوهر أوسلو: العبء الفلسطيني مقابل تنسيقٍ أمني لا محدود، محفوفًا بدعمٍ مالي من الدول المانحة، وتأييدٍ سياسي دولي وإقليمي عربي وإسلامي، باعتباره حلًا للقضية الفلسطينية أو مسارًا نحو الحل.
في عام 1995 تزايدت تجليات التنسيق الأمني بوصول 22 ألف مجندٍ فلسطيني لغزة وأريحا يتبعون قرابة 15 جهازًا أمنيًا – ليرتفع عددهم لاحقًا مع عام 2000 لأكثر من 50 ألفًا -، كما تطورت وظائف التنسيق باتفاق طابا الذي ربط استمرار التفاوض والدعم الدولي باستمرار التنسيق الأمني وارتباطه مع الجيش والمخابرات الإسرائيلية.
بحلول نهاية العام كانت الأجهزة الأمنية قد أنشأت العشرات من مراكز التوقيف والاعتقال، وأسست “محكمة أمن الدولة” التي تولت مهمة إصدار أحكامٍ قضائية شكلية بحق المقاومين والنشطاء، واستطاعت إحباط 80 عملية مقاومة ضد الاحتلال، كما رفعت وتيرة الاعتقالات بارتفاع العمل الفردي المقاوم، فاعتقلت إبان عمليات الثأر المقدس لاغتيال المهندس يحيى عياش، أكثر من 1200 من نشطاء حماس والجهاد.
وخلال ثلاثة أعوامٍ فقط من عمر السلطة، وإثر سعيها لضبط إيقاع الأمن الإسرائيلي، أضحت بالنسبة للفلسطينيين استبدالًا لاحتلالٍ محلي بآخر أجنبي، حيث قُتل على يدها 14 فلسطينيًا في مسجد فلسطين بغزة، إضافة إلى مقتل 10 مواطنين تحت التعذيب، وتورطت في تسليم خلايا المقاومة ومقتل المهندس الثاني لكتائب القسام، محيي الدين الشريف، وفي اغتيال عددٍ آخر من قيادات العمل العسكري منهم عادل وعماد عوض الله.
كما قوضت النشاط الطلابي والثقافي لحركات المقاومة، فاعتقلت قيادات طلابية بالجملة (طلاب بيرزيت العشرة 1996)، واقتحمت الجامعة الإسلامية في غزة وجامعة النجاح 1996، وأغلقت الصُحف (النهار والقدس مؤقتًا)، واعتقلت رؤساء التحرير وصودرت المنشورات والكتب التي تنتقد أوسلو (كُتب إدوارد سعيد مثالًا)، في مقابل حمايتها للإسرائيليين واعتبارها أي عملٍ ضدهم بمثابة ضربةٍ للقيادة الفلسطينية ومسؤوليتها في إنهاء أي تهديدٍ للأمن الإسرائيلي، وبهذا الأداء ومع نتائج واضحة على الأمن الإسرائيلي استطاعت الأجهزة الأمنية أن تثبت نفسها إسرائيليًا رغم بساطة تدريبها العسكري، وهو ما اعتبر “شذوذ” في وظيفة الأمن الفلسطيني بعمله لصالح أمن دولة أخرى مقابل انتهاك أمن مواطنيه.
“إعادة غسيل للتنسيق الأمني”
بقي الحال كذلك حتى تيقن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أن الاحتلال الإسرائيلي لا يريد منحه المزيد من الأرض أو السيادة إثر فشل كامب ديفيد وطابا عام 2000، وتأكيد السيطرة الإسرائيلية على الحرم المقدسي باقتحام أرئيل شارون المسجد الأقصى، لتندلع انتفاضة الأقصى وتشهد مشاركة شعبية وفصائلية عارمة في العمل المقاوم.
كما شهدت عودة قواعد حركة فتح لدرب النضال بتأسيسها لكتائب شهداء الأقصى التي انخرط العديد من أفراد الأجهزة الأمنية فيها، مثل نايف أبو شرخ وعاطف عبيات وثابث ثابث وأبو جندل وغيرهم، ما مثل صدمةً عسكرية إسرائيلية بعدما راهنت على نجاح مهمة “الغسيل الفكري” لأفراد الأجهزة الأمنية، ما دفعها لشن حملة تدميرٍ شامل لكل ما هو فلسطيني.
تكثفت الحملة بشن عملية “السور الواقي” 2002، حين اجتاحت المدن والمناطق الفلسطينية ودمرت كل مرافق البنى التحتية والمؤسسات الحكومية ومقار الأجهزة الأمنية، واستهدفت آلاف الفلسطينيين وأفراد الأجهزة بالاعتقال والاغتيال، كما نفذت سلسلة إغلاقات متواصلة شلت مختلف مفاصل الحياة في الضفة والقطاع في ظل تراجع الدعم المالي الدولي والإقليمي للسلطة الفلسطينية.
ويمكن اعتبار الفترة الزمنية ما بين 2003-2005 إعادة غسيلٍ جديدة للتنسيق الأمني بحلته الإسرائيلية الأمريكية المحدثة، انطلاقًا من خريطة الطريق التي اشترطت لتواصل التمويل الدولي بذل السلطة جهدًا واضحًا لملاحقة وتقييد الأفراد والجماعات التي تنفذ أو تخطط هجمات ضد الإسرائيليين.
ارتبطت هذه المرحلة أيضًا بتعيين محمود عباس رئيسًا للوزراء ووزيرًا للداخلية التي انضوت تحت رايتها جميع الأجهزة الأمنية، وسلام فياض وزيرًا للمالية وفقًا لمطالب المجتمع الدولي، مرورًا بانتخاب محمود عباس رئيسًا فلسطينيًا خلفًا لياسر عرفات عام 2005 تحت شعار “قانون واحد، سلاح واحد، سلطة واحدة” وبوجهة نظرٍ تعتبر التنسيق الأمني “مصلحة وطنية فلسطينية” لتبدأ إعادة تأهيل الأجهزة الأمنية على يد مكتب تنسيق الاتحاد الأوروبي ومنسق الأمن الأمريكي، وذلك بإعادة هيكلتها وإنشاء بعثة شرطة أوروبية مساندة وزيادة الرواتب بالتزامن مع التدريب المحلي والإقليمي.
وانتهاءً بفوز حماس في الانتخابات التشريعية الذي أوقف كل شيء – مؤقتًا -، ووضع التنسيق الأمني في دائرة الخطر بتزايد نفوذ حماس الحكومي، ليأتي الرد الإسرائيلي والأمريكي والدولي والعربي حصارًا شاملًا للحكومة الفلسطينية الجديدة، مدعومًا بخطواتٍ مدروسة من محمود عباس لنقل العديد من الصلاحيات الأمنية والاقتصادية والسياسية والإعلامية من الحكومة والمجلس التشريعي إلى يده، فيما ردت حماس بتشكيل أجهزتها وقوتها التنفيذية الخاصة، ليتطور الوضع إلى صدامٍ مباشر انتهى بانقسامٍ النظام السياسي الفلسطيني بين الضفة وغزة عام 2007.
التنسيق الأمني بحُلة جديدة
في اليوم التالي لتكريس الانقسام السياسي عادت للتنسيق الأمني مع الإسرائيليين أنفاسه، بالتزامن مع مرسومٍ رئاسي بحل كل المليشيات المسلحة ومصادرة أسلحتها ومن ضمنها “كتائب شهداء الأقصى”، وهو ما اعتبر انعطاف حاد في المقاومة بالضفة الغربية، كما أعيدت الخطة الأمريكية الإسرائيلية إلى مسارها الأول في تأهيل وبرمجة قوات الأمن الفلسطيني وفق رؤية “الفلسطيني الجديد” للمنسق الأمني الأمريكي بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية الجنرال كيث دايتون.
أشرف دايتون على تدريب أكثر من 15 ألف مجند فلسطيني، تم اختيارهم بعد موافقة كلٍ من جهاز المخابرات الإسرائيلي “الشاباك” وجهاز الاستخبارات “آمان”، بما يضمن بُعدهم عن الانتماء الحزبي وخلو سيرتهم من مواجهة للاحتلال، وقد خضعوا لتدريبٍ أمنيٍّ برؤية أمريكية إسرائيلية أوروبية، وبدعمٍ عربي من مصر والأردن والإمارات، وإقليمي من تركيا وقبرص، ودولي من كندا وفرنسا تحت شعار “تحقيق السلام”.
وبحلول العام 2012 كان التنسيق الأمني قد وصل إلى مستوى غير مسبوق تمثل في خلو الضفة الغربية من أي مطاردٍ أو مطلوبٍ للاحتلال، نتيجة أكثر من 843 اجتماعًا أمنيًا بين قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي خلال عامٍ واحد، حيث توسعت أنشطة التنسيق الأمني لتشمل إرسال تقارير استخباراتية دورية وإعادة إسرائيليين دخلوا المناطق الفلسطينية، إضافة إلى متابعة الأنشطة الثقافية والإعلامية والاقتصادية على وسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعة الهبات الشعبية والحراكات الاجتماعية وقمعها، مثل قمع حراك المعلمين، وقمع المتظاهرين ضد الفساد وضد قانون الضمان الاجتماعي وضد الاعتقال السياسي، واستخدام القوة المفرط بحقهم.
النجاح الاستراتيجي للتنسيق الأمني المتمثل بالرضا الإسرائيلي لم يُترجم على المستوى السياسي الفلسطيني بأكثر من الوعود والمزيد من الدعم الدولي والإقليمي الذي خُصص أكثر من 30% منه لقطاع الأمن، وظهر للفلسطينيين بشكلٍ جلي أن الوعود المزعومة بإقامة دولةٍ لهم في مقابل تطبيق شروط الرباعية ولجنة التنسيق الأوروبية والأمريكية لم تكن حقيقيةً أبدًا، بل إن التنسيق الأمني والجهود الدولية لإنجاحه لم تكن إلا شكلًا جديدًا من أشكال الهيمنة الإسرائيلية على الفلسطينيين يُمارس بقفازات ناعمة وبمسمى “التعاون”.
فيما اعتبرُ استمرار التنسيق ونجاحه من الإسرائيليين فُسحة انطلاق وإعادة توجيه لجهودهم من مهمة التعامل مع المقاومة الفلسطينية التي اضطلعت بها الأجهزة الفلسطينية إلى التركيز على توسع إسرائيلي داخلي ودولي، تمثل في استفحال الاستيطان ثلاثة أضعاف عن حجمه في سنين أوسلو الأولى، وارتفاع وتيرة تهويد المسجد الأقصى والقدس والاعتداءات بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية.
أما دوليًا فقد تُرجم على أنه الانعطاف من “الأمن الداخلي (المستتب) إلى الأمن الإقليمي” بالسعي لتطبيع العلاقات مع الدول العربية على حساب تصفية القضية الفلسطينية، والتركيز على الأدوار الجيوسياسية المتعاظمة لـ”إسرائيل” بالتزامن مع حُكم ترامب وصفقة القرن، وإعلان القدس عاصمةً موحدة لدولة الاحتلال والإقرار بشرعية المستوطنات في الضفة الغربية.
يأتي ذلك مدفوعًا بإدراك إسرائيلي راسخ أن السلطة الفلسطينية أضعف من أن تتخلى عن التنسيق الأمني وعوائده المادية وامتيازاته التي ارتبطت بهويتها ووجودها كسلطة “تعاقد من الباطن”، وأن أي اعتداء إسرائيلي أو مسِ بحقوق الفلسطينيين أو إذلال لقيادتهم السياسية لن يؤدي بأي حالٍ من الأحوال إلى وقف التنسيق الأمني أو تقليص مستواه.
وذلك رغم إقرار المجلس المركزي الفلسطيني وقف التنسيق الأمني مرتين في الأعوام 2015 و2018، والرفض الشعبي الفلسطيني المتعاظم له في ظل تزايد الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين والمسجد الأقصى، وتوقف عملية التفاوض إثر اشتراط نتنياهو اعترافًا فلسطينيًا بيهودية “إسرائيل”، والحروب المتكررة على قطاع غزة وآخرها الحرب الحالية (2023-2024) والإبادة الجماعية المتواصلة، والتهميش السياسي والاقتصادي بمواصلة ضم الضفة والاقتطاع من المقاصة وسحب الصلاحيات التنفيذية، وإلغاء امتيازات عدد كبير من مسؤوليها، وتطبيق القانون الإسرائيلي في مناطقها الإدارية.
والحقيقة أن ضعف السلطة في مواجهة ووقف التنسيق الأمني أضعفها شعبيًا وقوض سلطتها حتى على الأرض، لينتج عنه إعادة تشكل حواضن مقاومة متنامية بدأت من جنين ونابلس وتمتد اليوم إلى قلقيلية وطوباس، يُعبر عنها بالرصاص المقاوم والعبوات الناسفة التي تُباغت آليات الاحتلال حال اقتحامه المدن الفلسطينية، والذي لم تستطع السلطة حتى الآن وقفه رغم عملها في ملاحقة المطلوبين واعتقالهم وقتلهم وتفكيك العبوات الناسفة، كما لم يملك الاحتلال القدرة على اجتثاثه رغم عملياته العسكرية المتواصلة، ما أفرز شكلًا جديدًا من المقاومة الفلسطينية المرنة تتجدد تحت ضغط التنسيق الأمني والاستهداف الإسرائيلي المكثف وتورث أبنائها السلاح وعقيدة المقاومة في تجاهلٍ تام للسلطة كنظامٍ سياسي فلسطيني قائم.
تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي
في عام 2017 زار دونالد ترامب المملكة العربية السعودية، واجتمع في قمةٍ موسعة بأكثر من 55 دولة إسلامية وعربية من بينها جميع دول مجلس التعاون الخليجي، ووقع صفقات أسلحة بمئات المليارات من الدولارات، ما اعتبره السعوديون بداية عصرٍ أمني جديد يكرس تحالفًا بين الشرق والغرب لحماية دول الخليج وعلى رأسها السعودية والمصالح الأمريكية والأوروبية فيها من “خطر إيران” وتمدد روسيا والصين.
لكن ترامب كان له موقف آخر صاغه بسطوته الفجة: “دول الشرق الأوسط لا يمكنها انتظار تدمير القوة الأمريكية لهذا العدو بالنيابة عنهم”، محيلًا مسؤولية الدفاع إلى حلفٍ استراتيجي قيد التشكيل يجمع دول الخليج العربي ومصر والأردن تحت مظلةٍ أمريكية في مواجهة إيران وأشكال الإرهاب الأخرى، ليُطلق عليه في بداياته “الناتو العربي أو التحالف العربي”، ومع ذلك، فإن رؤية ترامب المستقبلية لتطوره بدخول “إسرائيل” فيه في ضوء اجتماعها مع الدول العربية على هدفٍ واحد “مواجهة إيران” دفعت الرئيس الأمريكي السابق للتشديد على مُسمى “تحالف الشرق الأوسط”.
وما بين 2017-2019 بدأ ظهور اتجاهٍ دفاعي في الشرق الأوسط مترددًا، باستثناء كلٍ من السعودية والبحرين والإمارات، حيث اتخذ الوضع العام طابع شراكة عسكرية تجمع الدول العربية بالولايات المتحدة، كما نأت عددٌ من الدول العربية مثل مصر والكويت وقطر وعُمان عن اعتباره تحالفًا أو المشاركة فيه بفعالية، لا سيما أن بعضها يتمتع بعلاقات طيبة مع إيران، والبعض الآخر يرفض الهيمنة السعودية عليه، ومن ذلك دعوة رئيس الوفد العُماني حينها لـ”تغيير كلمة التحالف إلى تجمّع أو منتدى أو اتحاد أو مبادرة”.
رغم ذلك تواصل “التعاون” الأمني والعسكري بين الدول العربية والولايات المتحدة – على نفقة الأولى – وغطى مجالاتٍ بحرية وسيبرانية وجوية وصاروخية، وقضايا أمن الحدود وعمليات القيادة والسيطرة، كما تقدمت الولايات المتحدة بمقترحٍ رسمي لتأسيس التحالف عام 2019، ووضعت له إطارًا تنظيميًا يضمن حوكمة خاصة والتزامات متجددة وآلية حل النزاع وتنسيقًا في الأزمات الإقليمية، وحدد العدو بـ”الإرهابيين والصين وروسيا وإيران والجماعات الجهادية”، ولم يكن مختلفًا عن حلف شمال الأطلسي إلا فيما يتعلق ببنده الخامس الذي ينص على أن أي هجوم مسلح ضد أحد الأعضاء يعتبر هجومًا على الجميع، ويستدعي ردًا جماعيًا.
شراكة استراتيجية أمنية مع “إسرائيل”
مع بداية العام 2020 كان الشرق الأوسط على موعدٍ مع تغيير ديناميكي مهم إثر إعادة تموضع في قوائم الأعداء والأصدقاء يغير من تركيبة التحالف الاستراتيجي بشكلٍ لا لُبس فيه، تمثل في تحول “إسرائيل” إلى صديقة “معلنة” لكلٍ من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان ضمن سلسلة اتفاقات عُرفت بـ”اتفاقيات أبراهام”، أضيفت إلى مخزون “إسرائيل” الاستراتيجي من معاهدات السلام السابقة مع مصر والأردن والتي تحتوي ملاحق أمنية وعسكرية لا تقل أهمية عما شملته اتفاقيات أبراهام من اتفاقيات أمنية وعسكرية واقتصادية وثقافية وسياسية بينية.
فُتحت بعد ذلك بوابة العمل العسكري المشترك مع “إسرائيل”، تحت مظلة التحالف الاستراتيجي وفقًا للمادة السابعة من اتفاق أبراهام الموسع “الإماراتي” التي تنص على أن: “الطرفان مستعدان للانضمام إلى جهود الولايات المتحدة لإعداد وإطلاق “أجندة استراتيجية للشرق الأوسط” من أجل توسيع التعاون الدبلوماسي والتجاري والاستقرار وغيرها من أشكال التعاون في المنطقة”.
دفعت هذه التطورات وزارة الدفاع الأمريكية مطلع 2021 لنقل “إسرائيل” من منطقة عمليات القيادة الأوروبية للقوات الأمريكية EUCOM إلى منطقة عمليات القيادة المركزية CENTCOM، وهو ما اعتُبر فرصة لتعميق التعاون الأمني بين الجيش الإسرائيلي وشركاء الولايات المتحدة من الجيوش العربية، وتحفيز للتعاون العربي الإسرائيلي الذي أثبت نجاحه مبكرًا من خلال المناورة العسكرية INIOCHOS في أبريل/نيسان 2021 التي جمعت “إسرائيل” والإمارات مع كلٍ من كندا واليونان وقبرص وإسبانيا.
إضافة إلى المناورة العسكرية في البحر الأحمر في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 التي جمعت كلٍ من الإمارات والبحرين و”إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية، والمناورة البحرية الأكبر في تاريخ الشرق الأوسط 2022 التي جمعت 60 دولة مع “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية من بينها السعودية والإمارات والبحرين وعُمان ومصر والأردن والسودان والمغرب، ومنتدى النقب 2022 الذي جمع البحرين ومصر والمغرب والإمارات والولايات المتحدة تحت مظلة الأمن الإقليمي متعدد الأوجه، ومناورات الأسد الإفريقي في المغرب 2023.
يُضاف إلى ذلك أيضًا الاتفاقيات الدفاعية واتفاقيات التصنيع الحربي المشتركة مع الدول العربية، مثل اتفاقية 2021 بين شركة الصناعات الدفاعية الإماراتية “إيدج” مع شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية “آي إيه آي” (IAI) في دبي لتصميم سفن عسكرية ومدنية وتجارية، واتفاقية تزويد المغرب بنظام Skylock Dome المضاد للطائرات المسيرة 2021، واتفاقية الدفاع المشترك التي وقعتها البحرين مع “إسرائيل” 2022 بعد زيارة وزير دفاعها لمقر الأسطول الأمريكي الخامس في البحرين، وصفقة النظام الجوي والصاروخي باراك MX الذي تصنعه شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية مع المغرب 2023، وافتتاح شركة الصناعات العسكرية الإسرائيلية رفائيل مكتبًا في الإمارات، ومشاركة “إسرائيل” في معرض الدفاع الدولي (آيدكس) في أبو ظبي.
وبحزمة التعهدات العسكرية واتفاقات السلام المتسارعة تحققت الرؤية الأمريكية في تأسيس نظامٍ إقليمي شرق أوسطي يجمع الدول العربية المتحالفة مع أمريكا تحت مظلة هيمنتها، وبوجودٍ إسرائيلي بارز بتفوقه التقني والعسكري وبمكانته كشريكٍ يحافظ على المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، والمتمثلة بأكثر من 40 قاعدة عسكرية وقرابة 30 ألف جندي أمريكي، ومقرٍ دائم للأسطول الخامس، ومنصات دفاعية وهجومية ورادارات ومخازن طوارئ موزعة على مدى الشرق الأوسط ودوله العربية.
التحالف المتردد عربيًا القوي إسرائيليًا
التردد الذي لازم التحالف الاستراتيجي ما بين الأعوام 2017-2019 ارتبط بعوامل مختلفة منها: اختلاف الأهداف بين الدول العربية والولايات المتحدة، وبين الدول العربية نفسها، ففيما كانت الولايات المتحدة تهدف أولًا إلى تخفيف العبء الأمني والعسكري عليها في الشرق الأوسط واستدخال “إسرائيل” كلاعبٍ أساسي ومهيمنٍ على الدول العربية الأخرى، كانت الدول العربية وخاصة السعودية والإمارات والبحرين تسعى إلى دورٍ أمريكي متزايد يؤمن لها حماية مشابهة للبند الخامس من اتفاقية حلف شمال الأطلسي “الناتو”، كما اختلفت أهدافها مع دولٍ أخرى تسعى لضمان المعونة الأمريكية مثل الأردن ومصر، أو صفقات أسلحة متطورة مثل قطر والكويت، أو تحقيق توازن هادئ بين الولايات المتحدة وإيران مثل عُمان.
ونتيجةً لاختلاف الأهداف لم يكن للتحالف من دورٍ يذكر إلا المزيد من صفقات الأسلحة الأمريكية، فيما تُركت المرافق السعودية والإماراتية مفتوحةً أمام هجمات الحوثيين – المرتبطين بإيران – دون تدخلٍ أمريكي أو مساعدة لوجستية أو عسكرية، حيث تعرضت السعودية ما بين الأعوام 2016-2021 لأكثر من 4 آلاف هجوم شملت منشآت نفطية ومطارات وقواعد جوية، فيما تعرضت الإمارات لهجماتٍ شملت مواقع نووية ومطارات ومنشآت نفطية، بل إن رد الفعل الأمريكي تجاوز التجاهل ليتحول إلى إنهاء دعمٍ كامل للعمليات الهجومية السعودية في اليمن، وإنهاء مبيعات الأسلحة المرتبطة بتلك العمليات.
يُضاف إلى عوامل التردد والضعف تردي العلاقات العربية البينية والتي برزت خلال حصار قطر 2017 والتي تعاكست مع أدوار التحالف العربي المفترض، إضافة إلى منافسات الهيمنة ما بين السعودية والإمارات وقطر وتأثير ذلك على أي اتفاقٍ مشترك وعلى الدول العربية الأخرى، لكن هذه العوامل لم تؤثر بشكلٍ من الأشكال على أي اتفاقٍ عسكري أمني جمع الدول العربية بـ”إسرائيل”، بل إن فعاليته الحقيقية ظهرت حين بدأ بخدمة الأمن الإسرائيلي المدعوم برعايةٍ أمريكية.
فقد كشف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق غانتس عام 2022 عن وجود شبكة دفاع جوية مشتركة في إطار تحالف جوي إقليمي (MEAD) تقوده الولايات المتحدة وتشارك فيه الأردن ومصر والإمارات والسعودية و”إسرائيل”، وأن هذه الشبكة قد أحبطت بالفعل هجمات طائرات مسيرة استهدفت “إسرائيل” ودولًا أخرى في المنطقة.
كما تعاظمت التحالفات البحرية مع “إسرائيل” في حوض الخليج العربي والبحر الأحمر وظهرت إشارات معززة لتواجد أمني إماراتي إسرائيلي في كلٍ من جزر حنيش في جنوب البحر الأحمر، وفي جزيرة مايون في مضيق باب المندب وفي جزيرة سقطرى، إضافة إلى تحالفات إقليمية شملت بناء رادارات ومنظومات دفاع جوي إسرائيلي على أراض دولٍ عربية، وكان من المتوقع أن يخطو التحالف واحدةً من أوسع خطواته بتحقيق التطبيع السعودي الإسرائيلي – أكبر توسع جيوسياسي لـ “إسرائيل” على الإطلاق – لولا عملية المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023 التي وضعت الأمن الإسرائيلي الداخلي على المحك وهزت عرش التفوق الأمني والعسكري الإسرائيلي، فيما أضحى القادة العرب في مواجهة شعوبهم.
السابع من أكتوبر وما بعده
عندما كان التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط جزءًا من رؤية أمنية أمريكية تهدف إلى تقليل تدخلاتها في المنطقة العربية مقابل تركيزها على صد التوسع الصيني في آسيا والروسي في أوروبا، ونظام حماية لـ”إسرائيل” وتأكيد لهيمنتها مدعومًا بإطارٍ عربي رسمي، جاء السابع من أكتوبر ليضع “إسرائيل” أمام حربٍ وجودية ويهدد مصالح الولايات المتحدة والدول الغربية في منطقة الشرق الأوسط بشكلٍ لا لُبس فيه.
أعاد هذا الواقع الجديد كل من أمريكا و”إسرائيل” إلى المربع الأول، فعمدت الأولى إلى تكثيف وجودها العسكري لأقصى درجة وحركت قطعًا وبوارج بحرية ورفعت درجة التأهب في جميع قواعدها العسكرية بالشرق الأوسط ومدتها بأكثر من 900 جندي، وهيأت أنظمة الدفاع الجوي للإطلاق السريع والمبكر بدءًا بأنظمة ثاد وباتريوت.
كما دفعت حاملة الطائرات “جيرالد فورد” إلى منطقة الشرق الأوسط بتاريخ 10 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتبعها أسطول حاملة الطائرات دوايت أيزنهاور، إضافة إلى جولات سياسية وأمنية على المنطقة شملت اجتماعات مع القادة ووزراء الدفاع ورؤساء الأجهزة الأمنية.
أما “إسرائيل” فقد عبر رد فعلها وتوجسها من اتساع رقعة الهجوم عن أصل وجودها كجسمٍ غريبٍ في المنطقة العربية دخيلٍ على كل ما فيها، ولم يُسهم في تخفيف هذا الرعب سوى اتجاهين: الأول هو اتفاقات أبراهام وما أنتجته من “سلامٍ دافئ” دفع الدول العربية الموقعة لإدانة عملية المقاومة صراحةً، بل والدفع لتعطيل أي دورٍ عربي ضاغط لوقت الحرب أو مساند للحقوق الفلسطينيين، والاتجاه الثاني هو جولات الضخ والتعبئة التي شنتها الولايات المتحدة على الدول العربية ودول الشرق الأوسط لضمان ضبط الحالة الشعبية وتطبيق اللاعبين أدوارهم المتوخاة من اتفاقيات السلام والتحالفات العسكرية.
وأمام الحراك الشعبي العربي، ودخول عناصر جديدة على جبهة المقاومة (شمالًا المقاومة اللبنانية والعراقية والسورية، وجنوبًا الحوثيين)، اتبعت “إسرائيل” وأمريكا استراتيجية تفعيل معاهدات السلام بتقسيم الضغط على الحلفاء، دون أن يؤدي ذلك بالأساس إلى إحياءٍ فعلي للتحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط.
تمثلت الاستراتيجية في تفويض السلطة الفلسطينية بجبهة الضفة الغربية ورفع مستويات التنسيق الأمني، وإطلاق صلاحيات الأجهزة الأمنية لضبط الشارع وقمع التظاهرات ومتابعة الخطاب الإلكتروني والمهاجمة الفعلية لكل من يخطط لتهديد الأمن الإسرائيلي واعتقاله أو قتله، ومحاصرة محاضن المقاومة وإطفائها، وأحيلت الجبهة الشرقية للأردن وعُززت بالوجود الأمريكي هناك لمنع تهريب الأسلحة إلى الضفة الغربية، أو مهاجمة أهداف إسرائيلية في منطقة الأغوار أو حصول التحام شعبي بين الضفتين، وفي مصر تم التصدي للجبهة الجنوبية بإسقاط المسيرات والصواريخ الحوثية التي استهدفت إيلات، وإحباط أي عمل مقاوم أو شعبي أو تعبوي داخل مصر أو على حدودها.
فيما توجهت البحرين للمشاركة في التحالف البحري لمواجهة الحوثيين “حارس الازدهار” لتكون الدولة العربية الوحيدة فيه، بينما عززت الإمارات من آليات الدعم اللوجستي، فدعمت “إسرائيل” في المحافل الدولية والعربية والإقليمية وأدانت المقاومة بحدة وفتحت موانئها وطرقها البرية بالتعاون مع السعودية والأردن لضمان نقل البضائع عبر جسرٍ بري يلتف على الحصار الحوثي البحري في باب المندب والبحر الأحمر، فيما فتحت مصر خط شحنٍ بحري من موانئها إلى موانئ الاحتلال، وبشكلٍ متزامن قمعت الدول العربية الحراك الشعبي الداعم لفلسطين، وحظرت حملات التبرع لصالح غزة ولاحقت أعضائها، وفعلت حماية السفارات والملحقيات الإسرائيلية.
بقي الحال كذلك حتى 14 أبريل/نيسان 2024 حين ردت إيران على الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف الدبلوماسيين الإيرانيين في دمشق بهجومٍ آخر على عمق الكيان، وهو ما اعتبر انطلاقة للتحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط وصفته أوساط إسرائيلية بـ”إيقاظ العملاق النائم”، وفيه تداعت الدول العربية بإشرافٍ أمريكي لتأمين أمن “إسرائيل” وتخفيف وقع الضربة الصاروخية عليها، من خلال غرفة عمليات مشتركة ضمت “إسرائيل” والولايات المتحدة والأردن والمملكة السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة وقطر، وبينما ساهمت بعضها في إسقاطٍ فعلي للصواريخ والمسيرات، ساهمت الأخرى في عمليات رصد راداري وتبادل معلومات استخباراتية أو فتح مجالها الجوي أمام حركة الطيران الإسرائيلي لصد الهجمات.
هذا التحالف شجع المستوى السياسي والعسكري في دولة الاحتلال على الإيمان بتحالفٍ عسكري عربي-إسرائيلي، ودعم مقترح إدخال قوات عربية تحت إشرافٍ إسرائيلي إلى قطاع غزة بديلًا لحماس، في أداء مشابه لليلة الرابع عشر من أبريل/نيسان لكن على الأرض عوضًا عن السماء، وكان المقترح قد تم عرضه على الدول العربية في البحرين بمشاركة عسكريين إسرائيليين وأمريكيين ومصرين وآخرين من دول الخليج، لكنه بدا أكثر إثارة للإعجاب على الصعيد الإسرائيلي بُعيد الرد الإيراني، حيث يُفترض وفقًا للمقترح الإسرائيلي أن يقوم التحالف العربي الإسرائيلي، بالتعاون مع الولايات المتحدة، بتعيين قادة في غزة مسؤولين عن إعادة تطوير الأراضي المدمرة (مصطلح بديل لإعادة الإعمار) وإصلاح نظامها التعليمي والحفاظ على النظام.
وبعد 7 إلى 10 سنوات، قد يسمح التحالف لسكان غزة بالتصويت على دمجها في إدارة فلسطينية موحدة تحكم كلًا من غزة والضفة الغربية، أما عوائق تطبيق هذا المقترح فإضافة للفشل الإسرائيلي في الانتصار على المقاومة الفلسطينية، والتخوف العربي من الغرق في وحل غزة على غرار الجيش الإسرائيلي، والتبعات الشعبية والمادية والقومية لهذه المسؤولية، فإن الدول العربية ما زالت تنتظر تسوية إسرائيلية من نوعٍ ما للفلسطينيين، أو مجرد وعدٍ بذلك يضمن لهم دولة أو هيكلًا سياسيًا يمكن تسميته دولة في وقتٍ من الأوقات، وهو ما ترفض الإدارة الإسرائيلية الموافقة عليه حتى الآن.
إن اللهفة الأمريكية لحماية الأمن الإسرائيلي من أي خدش والانحياز التام عسكريًا وأمنيًا لها – وهو ما لم يتغير – في مقابل ضغطٍ متزامن على الحلفاء (السلطة الفلسطينية، الأردن، مصر، السعودية، الكويت، قطر، عُمان، الإمارات، البحرين، المغرب، السودان)، لم يؤد إلا إلى توسيع الهوة بين المأمول والمتوقع وعزز من الفكرة القائلة بأن واشنطن لا تستنفر إلا من أجل مصالحها والتي تُعد “إسرائيل” جزءًا منها، وهو ما دفع عددًا من محللي السياسة الأمريكية لدعوة الإدارة الأمريكية لإصدار بيان يتعهد بالتزام دفاعي دائم عن أعضاء التحالف الاستراتيجي (MESA) ويتضمن تأكيدات للشركاء العرب بأن بإمكانهم أن يتوقعوا نفس المستوى من الدعم الدفاعي في حال تعرضهم لهجومٍ مباشرٍ من إيران، لكن الواقع الحالي ينبئ بأن إيران لم تعد “العدو” خاصةً بعد الزيارات المتبادلة وتطوير العلاقات الدبلوماسية مع السعودية والإمارات.
أنظمة ركيزتها “إسرائيل”
إن السطور السابقة تكشف وبشكلٍ بيّن أن التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط لم يُكتب له أي شكلٍ من أشكال النجاح في حماية الدول العربية أو زيادة قوتها العسكرية، إلا فيما يتعلق بصفقات السلاح الأمريكي المقيد بشروط استخدام تتجاوز مفهوم الأمن القومي الداخلي والعربي، في المقابل تم استخدامه للترويج لجميع الجوانب العسكرية والأمنية في العلاقة مع “إسرائيل”، رغم أنها اتخذت طبيعة ثنائية ولم تعمل كحلفٍ متكامل.
يعبر ذلك عن العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي تجد كفاءتها في علاقات بينية مرنة على العكس من الأحلاف الموسعة، ما يتيح لها ممارسة هيمنتها وتفوقها التكنولوجي والأمني والعسكري بشكلٍ أكبر، وفق ما تعبر عنه السياسة الإسرائيلية بـ”منا الأدمغة ومنكم المال”.
كما يمكن لنا أن نستخلص أن التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط ليس أكثر من توسعٍ للتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، فتحميل مسؤولية الأمن الإسرائيلي للعرب والفلسطينيين، والزج بهم في صراعات مع كيانات وجماعات تاريخية في المنطقة العربية تقف عائقًا في وجه التمدد الإسرائيلي، والهيمنة الإسرائيلية المؤسسة على “ديمقراطيتها الغربية” في مقابل سجل حقوق إنسان (داخلي) مترد عربيًا وفلسطينيًا.
فضلًا عن الاستقواء بالمحافظين الجدد في أوروبا وأمريكيا لمواصلة الضغط والتلويح طمعًا في مزيدٍ من المكاسب على حساب العرب والفلسطينيين، والتعهد الأمريكي المستدام الذي أضحى قانونًا منذ 2008 بضمان تفوقٍ عسكري نوعي إسرائيلي على أي دولة في الشرق الأوسط، جميعها عوامل مشتركة بين التنسيق الأمني وأي تحالف أمني عسكري عربي مع “إسرائيل”، وجميعها أسباب موجبة للفشل لتركيزها المطلق على “إسرائيل” وتفوقها الاستراتيجي حتى في حالة الشراكة وعلى أولوية أهدافها مقابل الآخرين.
وإذا كان التنسيق الأمني ما بين 1993-2005 قد تطور واتخذ منحى أكثر فعالية بالنسبة للأمن الإسرائيلي، والتحالف الاستراتيجي ما بين 2017-2020 قد تطور وأضحى أوسع رحابة بالنسبة للأمن القومي الأمريكي والإسرائيلي، فإن العدو في الأمن الإسرائيلي لم يتغير منذ 1948 حتى اليوم، وبقي على حاله ممثلًا بكل من يخالف الاحتلال بدءًا من الشعوب العربية ومنها الشعب الفلسطيني بصفته “العدو الأقرب”، لذا كان التنسيق الأمني والتحالف الاستراتيجي تميمة إسرائيلية جالبة للحظ مهما ضعف كلاهما.
التنسيق الأمني اعتمد محاربة الشعب الفلسطيني بيدٍ فلسطينية، أما التحالف الاستراتيجي فحارب عدو أمريكا و”إسرائيل” أيًا كان، لكنه أيضًا استخدم خبرته العسكرية والأمنية والسيبرانية المتنامية لمحاربة شعوبه العربية وقمعها أولًا، لأن الأنظمة ترى في شعوبها العدو والخطر الأساسي عليها.
وهذا الائتلاف في القمع، يجعل التنسيق الأمني الفلسطيني مجرد نسخة عربية من الاستبداد المرضي عنه أمريكيًا وإسرائيليًا، بل ويتطور بمراكمته الخبرة العربية في حصاد أرواح الشعوب وحرياتها وتطبيقه على الفلسطينيين تحت مسمى الأمن والاستقرار الفلسطيني، وهو المبرر العربي ذاته، وفيما يُرسخ التنسيق الأمني سلطة أوسلو ووجود الاحتلال، فإن التحالف الاستراتيجي يرسخ سلطة الأنظمة وبقاء الوجود الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة.
ومهما حاولت الإدارة الأمريكية أو الإسرائيلية التبجح بالقدرة الخارقة لضبط الأمن في الشرق الأوسط والمناطق الفلسطينية ستظل قدرتها محدودة أمام الشرطي العربي وهراوته، ومهما قيل “إن التحالف الاستراتيجي يضر بمكانة السلطة” فلن يُضعف ذلك من التنسيق الأمني، فما دام الأمن الإسرائيلي هدفًا سيبقى التنسيق والتحالف وسيلةً قائمة ولو على حُطام.
بالمحصلة، فإن نظرة متفحصة على بنية التحالف الاستراتيجي ما بين 2017-2019 تشي بفشله في تحقيق الأمن العربي على المستوى الداخلي والقومي، أما بنيته ما بين 2020-2022 فلم تتطور إلا في ضوء اتفاقيات أبراهام وما دعمته من تبادل الخبرات العسكرية مع “إسرائيل” مع ما تظهره من غطرسة التفوق التكنولوجي والعسكري والاصطفاف المحموم لمواجهة إيران وما ارتبط من تحفيزٍ لدول “السلام البارد” في اللحاق بركب الاتفاقيات الجديدة طمعًا في بقايا النفوذ العربي والمساعدات الغربية.
المفصل التاريخي في التحالف الاستراتيجي كان ما بين 2023-2024، في ضوء طوفان الأقصى تحديدًا، وهو مرتبطٌ بثلاث: مواد اتفاقيات السلام مع الدول العربية، والضغط الأمريكي المتسارع على الأنظمة العربية، وحاجتها الملحة إلى ضامن للبقاء في مواجهة غضب شعوبها وهو الضامن الأمريكي والغربي الذي ثبت أن غيابه يساوي سقوط النظام مهما كان ديمقراطيًا (الانقلاب العسكري في مصر والسودان بتواطؤ أمريكي)، ونتج عنه تطور في أوجه التحالف شملت دعمًا لوجستيًا إقليميًا من خلال جسور برية وبحرية ودوليًا من خلال تبني الرواية الاسرائيلية، وقمع شعبي داخلي، وحصار لتطور العمل المقاوم (الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية)، وتكرس بتحالف جوي أمني استخباراتي ليلة 14 أبريل/نيسان، فيما تتواصل المحاولات لتطويره إلى قوات عربية على أرض غزة.
أما الحقيقة وراء كل هذا وذاك فهي أن القادة الفلسطينيين والعرب على حدٍ سواء يدركون أن الولايات المتحدة لن تُسارع لنجدتهم بذات اللهفة إذا وقعت الواقعة، ولا حتى “إسرائيل”، ولن تطلق واحدة منهما جسرًا جويًا عسكريًا بـ10 آلاف طن، أو تفتح مخزون أسلحتها الاستراتيجي بقيمة 1.2 مليار دولار، أو تواصل الدعم العسكري “مؤجل الدفع” ليصل إلى 6 مليارات دولار، أو تضغط لإغلاق مجالٍ جوي وفتح آخر، فجميع الدول العربية خلال العشر سنين الماضية خاضت صراعات داخلية وخارجية واهتزت بين الجنيه والدولار، ولم تقم أمريكا و”إسرائيل” بأكثر من إزاحةٍ في الدعم وتحريكٍ في الأذرع، لكنه “المُرّ” الذي على الأنظمة العربية أن تتجرعه خوفًا من “الأمرّ” إثر انقلابٍ أو إطاحة.