في يونيو/حزيران من العام 2006 أي قبل نحو 12 عامًا، قررت الحكومة السودانية إنشاء مطار جديد على بعد 40 كيلومترًا من وسط العاصمة الخرطوم، تحديدًا في منطقة جنوب أم درمان، وكان يفترض أن يفتتح المطار الجديد رسميًّا في العام 2010 على أقصى تقدير.
جاءت فكرة إنشائه بعد أن أصبح الموقع الحاليّ لمطار الخرطوم يشكل خطرًا على مقاييس السلامة الجوية والأمن، نظرًا لتجاوز النمو العمراني الذي أصبح يشكل عائقًا في تكامل أجزاء المنطقة المحيطة به من ناحيتي الشمال والجنوب، فقد اشتكى مالك فندق “السلام روتانا” الذي يقع في شارع إفريقيا على مسافة قليلة من مطار الخرطوم قائلًا إن السلطات منعتهم من بناء طوابق جديدة خوفًا على سلامة الركاب ونزلاء الفندق.
وكعادة حكومة الإنقاذ في مثل هذه الحالات، كوّنت جسمًا للمشروع تحت مسمى “وحدة متابعة تنفيذ المطار الجديد”، وخصصت لمنسوبي الوحدة مبنى فخمًا بالقرب من رئاسة شركة الخطوط الجوية السودانية “سودانير” ـ أعادها الله لسابق عهدها ـ وللأسف كل ما تم إنجازه حتى الآن بعد مرور 8 سنوات على الموعد المقرر لافتتاح المطار، استراحة وطريق أسفلت داخلي وتسوير الأرض، إضافة إلى ارتفاع قيمة الأراضي السكنية المجاورة للمطار المقترح لفترة محدودة ثم هبوطها لاحقًا بعد أن تبيّن عدم جدية الحكومة في تنفيذ المطار الجديد، حيث ظلّت الحكومة تتخبط في تصريحاتها عن الموضوع، وتبرم عقودًا متعددة مع شركات وطنية وأخرى صينية وتركية من دون أي نتيجة حقيقية على أرض الواقع.
مؤخرًا، وقعّت وزارة المالية السودانية اتفاقًا مع شركة “سوما” التركية لتشييد المطار الجديد في العاصمة بتكلفة أولية بلغت مليارًا و150 مليون دولار ويُكلف المشروع في المرحلة الأولى 800 مليون دولار.
مطار الخرطوم بوضعه الحاليّ أصبح يشكل خطرًا على الملاحة الجوية وسلامة الركاب؛ إذ يقع في قلب العاصمة وفي منطقة مزدحمة بالبنايات وحركة مرور المواطنين
يأتي الاتفاق مع الشركة التركية في وقتٍ تشهد فيه العلاقات بين السودان وتركيا نموًا متصاعدًا بعد زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الخرطوم التي وصفت بالتاريخية أواخر العام الماضي.
إذ وقع زعيما البلدين اتفاقات اقتصادية واستثمارية حصلت بموجبها تركيا على حق إدارة جزيرة سواكن لفترة محددة بغرض صيانة الآثار العثمانية القديمة وتأهيل الجزيرة لتصبح وجهة سياحية عالمية، مع الحديث عن ملحق سري فُهم على أنه إشارة لتأسيس قاعدة عسكرية تركية قبالة شواطئ البحر الأحمر.
لماذا مطار الخرطوم الجديد؟
ذكرنا في البداية أن مطار الخرطوم بوضعه الحاليّ أصبح يشكل خطرًا على الملاحة الجوية وسلامة الركاب إذ يقع في قلب العاصمة وفي منطقة مزدحمة بالبنايات وحركة مرور المواطنين، في الاتجاهين: من ناحية الخرطوم بحري (شمال)، أو من ناحية شارع إفريقيا (جنوب)، فلو حدثت كارثة جوية عند هبوط طائرةٍ ما أو إقلاعها ـ لا سمح الله ـ ستكون الخسائر البشرية مضاعفة.
فضلًا عن أن المطار الحاليّ يحتوي على مدرج واحد Runway وهو ضيّق المساحة (كما في الصورة)، يُستخدم للهبوط والإقلاع، وإذا كانت هنالك طائرة قادمة تصادفت مع أخرى في طريقها للمغادرة فإن برج المراقبة يضطر لإبلاغ قائد الأولى بالدوران لدقائق حول العاصمة ريثما تقلع الطائرة المغادِرة!
مطار الخرطوم الدولي
بطبيعة الحال نعلم أن حركة الملاحة الجوية في مطار الخرطوم أصبحت محدودة بعدما توقفت شركات طيران عالمية عن تسيير رحلاتها من وإلى السودان وربما كانت العقلية التي تدير المطار أحد أسبابها، حيث أوقفت كل من الخطوط الألمانية “لوفتهانزا” والهولندية “KLM” و”البريطانية” بجانب “هينيان” الصينية رحلاتها للخرطوم، وتوقفت كذلك رحلات شركات وطنية مثل “مارسلاند” الشركة العملاقة التي كانت تغطي أجزاءً واسعة من مدن السودان بالإضافة إلى عدد من دول الجوار الإفريقي، ولا ننسى شركة “صن إير” التي أوقفت عملياتها هي الأخرى منذ سنوات عديدة.
إلى جانب الأسباب التي ذكرناها تبرز بيئة المطار الحاليّ ورداءة مرافقه التي تجعل المواطن السوداني يشعر بالحياء والحرج إذا كان بصحبته أحد الأجانب أو حتى تصادف وجوده معه على متن الرحلة، فمظاهر التخلف والكآبة في مطار الخرطوم تبدو واضحة للقادم منذ الوهلة الأولى، فعند لحظات الهبوط يلاحظ المسافر ارتجاج الطائرة الشديد عندما تلامس عجلاتها أرضية المطار لرداءتها، ثم يرى أكوام وهياكل الطائرات القديمة التي ترابط في الساحات الخارجية على مد البصر.
ويلاحظ المسافر إلى السودان أن جوازات المطار لا تزال تستخدم طرقًا بدائية في تسجيل القادمين والمغادرين عن طريق استمارة تُعبأ يدويًا ليختم عليها مسؤول الجوازات ثم يدخل البيانات، وهي طريقة قديمة اُستغني عنها في معظم مطارات العالم التي باتت تستخدم اليوم تقنيات البوابة الإلكترونية “Electronic Gate“، أي تسجيل الوصول بشكل آلي دون المرور على ضابط الجوازات نهائيًا، أو على الأقل باستخدام بصمة العين كما في مطارات دول الجوار مثل مصر وإثيوبيا وكينيا.
وهناك شكاوى أخرى من صالات المطار الحاليّ الضيقة ورداءة واتساخ المرافق مثل الحمامات العامة و”سير” الحقائب المهترئ، كما يشتكي مسافرون بصورةٍ مستمرة من سوء التعامل الذي يجدونه داخل المطار وكثيرًا ما تحدث المشادات بين المتعاملين وموظفي الطيران المدني عسكريين كانوا أو مدنيين.
وفي الجانب الأمنى، اعترف مسؤولون حكوميون بوجود ثغرات في مطار الخرطوم تجعله أكبر منفذ لتهريب الذهب، كما فقد العشرات من السودانيين القادمين إلى البلاد ممتلكات ثمينة داخل المطار في الفترة الزمنية القصيرة بين هبوط الطائرة واستلام حقائبهم مما يدل على تغلغل الفساد وسط منسوبي مطار الخرطوم في ظاهرة غريبة تسيئ لأهل السودان جميعًا وليس للحكومة وحدها.
تعاقدات سابقة مع شركات صينية لتشييد المطار الجديد
بالتزامن مع انفصال جنوب السودان عام 2011، أبرمت شركة صينية حكومية عقدًا لبناء مطار دولي جديد في الخرطوم تبلغ قيمته 1.21 مليار دولار، وقالت الإدارة الصينية لمراقبة الشركات المملوكة للدولة في بيانٍ لها إن شركة تابعة للشركة الصينية للإنشاء والاتصالات ستبني ممر هبوط يمكنه استقبال طائرات إيرباص A380 العملاقة ومبنى للركاب وحظيرة للطائرات وبرجًا للمراقبة ومنشآت أخرى.
ظلّ موقع المطار الجديد مهجورًا كما هو، غير أن المعلومات تسرّبت هذه المرة مؤكدةً أن الحكومة الصينية أوقفت تمويل المشروع لأنها تشعر بالغضب جرّاء مماطلة السودان في سداد التزاماته المالية
ولكن المشروع ذهب أدراج الرياح حيث توقف في حينه، وقيل إن الشركة الصينية تخوفت على مصير أموالها في ظل تدهور الوضع الاقتصادي بالسودان، وتقول رواية أخرى إن وزير المالية الأسبق علي محمود أوقف مشروع المطار الجديد بحجة أنه لا يمثل أولوية للدولة.
المهم، وقَّعت حكومة السودان اتفاقًا ثانيًا مع بنك الاستيراد والتصدير الصيني بعد 3 سنوات من الاتفاق الأول، وقضى العقد الأخير بتمويل البنك لمشروع المطار الجديد بـ700 مليون دولار تسدد على مدى 20 عامًا بفترة سماح قدرها 5 سنوات.
وكان الغموض سيد الموقف مرةً أخرى، إذ ظلّ موقع المطار الجديد مهجورًا كما هو، غير أن المعلومات تسربت هذه المرة مؤكدةً أن الحكومة الصينية أوقفت تمويل المشروع لأنها تشعر بالغضب جرّاء مماطلة السودان في سداد التزاماته المالية، فقد كانت بكين الداعم الاقتصادي الأول للخرطوم خلال سنوات العقوبات الأمريكية الطويلة التي استمرت لعشرين عامًا.
إيرادات ضخمة لمطار الخرطوم الحاليّ وعبور المجال الجوي السوداني.. فأين تذهب؟
بغض النظر عن عائدات بترول السودان التي انسابت في الفترة من 2005 إلى العام 2011 وتقدر بنحو 80 مليار دولار، حيث يتساءل كثيرون عن مصيرها وأين ذهبت تلك المبالغ الخيالية، فإن إيرادات المطار القديم الحاليّ ليست بالقليلة وبإمكانها صيانة المطار وتجميله ليكون مطار الخرطوم مقبولًا على الأقل بدل الحالة المزرية التي عليها.
فالمطار تورد إليه أموالٌ لا بأس بها مقابل حق هبوط الطائرات وخدمات المناولة الأرضية، بالإضافة إلى الرسوم التي تحصل عليها السلطات من كل مسافر ويطلق عليها اسم “رسوم المغادرة” التي كانت تُدفع نقدًا في السابق قبل أن تُضمّن بصورة آلية داخل تذكرة السفر.
قبل زيارة الرئيس التركي للسودان بنحو 3 أشهر وتحديدًا في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، كشفت وحدة تنفيذ مطار الخرطوم الجديد عن عرضٍ تلقته عبر وزارة المالية لتشييد المطار بواسطة شركة تركية بنظام البوت وأبدت الوحدة قبولًا للعرض
كذلك، فتحت الانتقادات الموجهة لمطار الخرطوم المجال للحديث عن أموالٍ ضخمة تقدر بمليار دولار يتحصلها السودان سنويًا بوصفها رسومًا تدفعها شركات الطيران العالمية التي تعبر طائراتها الأجواء السودانية، وبعد أن دار من قبل جدلٌ كثيف بشأن تحصيل هذه الأموال والتصرف فيها، فإن ذات الأسئلة بدأت تعود مستفسرةً عن توظيف هذا المبلغ الذي يؤكد خبراء أنه وبحسب القوانين الدولية من المفترض أن يتم توجيهه كاملًا ناحية تطوير المطارات وخدماتها.
ما فرص نجاح الشركة التركية في تشييد المطار الجديد؟
قبل زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسودان بنحو 3 أشهر وتحديدًا في سبتمبر/أيلول من العام الماضي، كشفت وحدة تنفيذ مطار الخرطوم الجديد عن عرضٍ تلقته عبر وزارة المالية لتشييد المطار بواسطة شركة تركية بنظام البوت وأبدت الوحدة قبولًا للعرض.
وقال رئيس وحدة تنفيذ المطار إبراهيم محمد أحمد خلال زيارة نفذتها لجنة الطرق والجسور بالبرلمان للمطار، إن وزارة المالية أيدّت العرض التركي الذي يشمل تشييد المطار عبر نظام “البوت” ومن ثم إدارته بواسطة شركة تركية حتى استيفاء مبلغ تشييده.
وتباينت رؤى أعضاء البرلمان عن العرض الجديد، ففي وقتٍ امتدحه عدد منهم رأى آخرون أن المطار يعد مرفقًا إستراتيجيًا ولا يمكن إدارته بواسطة دولة أخرى، وقال عضو البرلمان يعقوب المك إن “نظام البوت” ينتقص من سيادة الدولة.
وبالفعل، وقعت الحكومة السودانية أواخر مارس/آذار المنصرم، اتفاقية مع شركة “سوما” التركية لبناء مطار الخرطوم الجديد عن طريق نظام “B.O.T” بقيمة تجاوزت أكثر من مليار دولار.
رغم كل الحديث عن تسليم الميناء الجوي إلى شركة أجنبية لتنفيذه ثم إدارته بالكامل، فإن ذلك يشكل الضمان الوحيد لتشييد المطار
وجاء ذلك في بيان وزارة المالية السودانية، إن المرحلة الأولى من المشروع تبلغ تكلفتها 800 مليون دولار، فيما تصل القيمة الإجمالية إلى 1.150 مليار دولار.
ووقع الاتفاقية عن الحكومة السودانية وزير المالية محمد عثمان الركابي، فيما وقع عن “سوما” رئيس مجلس إدارتها سليم بورا، وبحضور نائب وزير الاقتصاد التركي فاتح متين، وسفير أنقرة لدى الخرطوم عرفان نذير أوغلو.
رغم كل الحديث عن تسليم الميناء الجوي إلى شركة أجنبية لتنفيذه ثم إدارته بالكامل، فإن ذلك يشكل الضمان الوحيد لتشييد المطار، فقد ثبت عدم جدية الحكومة السودانية في تنفيذه وتخبط أجهزتها التنفيذية وتعدد الأجسام والكيانات الحكومية المعنية بالمشروع والمتهمة باستشراء الفساد والحسوبية وسوء الإدارة من شركة مطار الخرطوم إلى هيئة الطيران المدني بالإضافة إلى وحدة تنفيذ المطار الجديد ووزارتي النقل والمالية.
زيادةً على ذلك، الثقة تكاد تكون معدومة في الأجهزة الحكومية السودانية ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن بعض المواطنين السودانيين يشعرون بالحنين إلى أيام الاستعمار البريطاني رغم ما بالأمر من غرابة، فكثيرًا ما يتداول النشطاء صورًا على مواقع التواصل الاجتماعي لحال العاصمة الخرطوم قبل الاستقلال ومن بينها صور مطار الخرطوم الذي كان قبلةً في تلك الأيام لشركات الطيران الكبرى وكانت رحلات شركة الخطوط الجوية السودانية “سودانير” تنطلق منه إلى أكبر مطارات العالم وأكثرها زحامًا مثل مطار “هيثرو” في العاصمة البريطانية لندن.
لذلك نقول، طالما فشلت الحكومة السودانية في تشييد مطارٍ يليق بالسودان وأهله فمرحبًا بتركيا لتنشئ المطار الجديد ولتديره بعيدًا عن مافيا الفساد والمحسوبية والمجاملات التي أقعدت بالمؤسسات الحكومية في البلاد ودمّرت الخدمة المدنية والقطاع العام كليةً.
ونظام “البوت” لا حرج فيه ولا انتقاص من السيادة الوطنية، فالجارة إثيوبيا مثلًا وقّعت عقدًا مع شركتين صينيتين لتنفيذ مشروع المترو بنظام البوت عينه بتكلفة فاقت 4 مليارات دولار، وها هو القطار يشق أحياء عاصمتها أديس أبابا ومنها ينقل البضائع والركاب إلى ميناء جيبوتي مرورًا بإقليم “أورميا” ومدنه.
يمكن للمطار الجديد أن يُدخل للخزينة العامة في السودان ملايين الدولارات بعد استقطاع الشركة التركية لأموالها، فعلى سبيل المثال يرفد مطار Bole في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا الدولة بنحو مليار دولار سنويًا، أما مطار “jomo kenyatta” في كينيا فيوفر للحكومة ما يزيد على 1.1 مليار دولار في العام.
وإذا أخذنا في الاعتبار موقع السودان الذي يتميز عن كينيا نجد أن الفائدة ستكون أكبر مستقبلًا، خاصةً أن هناك دراسة أجرتها شركة الخطوط الجوية الألمانية “لوفتهانزا” توقعت بموجبها أن تبلغ حركة البضائع في مطار الخرطوم الجديد “بعد تنفيذه” مباشرةً مليار دولار سنويًا، غير أن الخطوط الألمانية نفسها انسحبت من الخرطوم مطلع 2014 بسبب عدم مقدرتها على تحويل الأرباح للخارج نتيجة شح النقد الأجنبي الذي يعاني منه السودان.