اضطرت تركيا للمضي بخيارات ليست أفضل الخيارات لها في القضية السورية، دفعها لذلك، تطور الأحداث في سوريا وتدهور علاقاتها مع الغرب والولايات المتحدة خصوصًا، أكبر الأثر في تغير تحالفاتها، الأمر الذي جعلها تتحالف مع دول كانت بالأمس القريب من الدول المنافسة لها في سوريا.
منذ بداية الأزمة السورية، كان للولايات المتحدة الأمريكية نية حقيقية لتوريط تركيا فيها، ولم تكن الولايات المتحدة متحمسة لإنهاء الأزمة السورية سريعًا لأنها كانت تريد أن تستفيد إلى أقصى حد من الفوضى التي تعصف بسوريا، طالما أن تلك الفوضى لا تؤثر على أمن الكيان الصهيوني، وأن النتيجة المحتملة لنهاية الأزمة السورية من خلال تفتيتها، تعتبر نتيجة جيدة حينما تفضي إلى خروج دولة أخرى من الصراع العربي الإسرائيلي وبقاء دولة الكيان الصهيوني كدولة متفردة القوة بالمنطقة.
اضطرت تركيا للتحالف مع الروس وغض الطرف عن كثير من جرائمهم بحق الشعب السوري، هذا التحالف كان نتيجة حتمية لتخلي الولايات المتحدة الامريكية عنها، وردًا على محاولاتها المتكررة لتصدير الفوضى للداخل التركي، وكادت أن تنجح في ذلك، عندما كنا نشهد سلسلة التفجيرات التي قامت بها المنظمات الإرهابية والمدعومة غربيًا في الداخل التركي، سواء من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” أو تنظيم حزب العمال الكردستاني الانفصالي.
استطاعت تركيا أن تتوصل إلى اتفاقات شبيهة للذي كانت ترجوه مع الجانب الروسي والإيراني لإقامة مناطق أطلق عليها فيما بعد “مناطق تخفيض التصعيد”
حاولت الولايات المتحدة من خلال حادثة إسقاط الطائرة الروسية التي تبين بعد ذلك أن تنظيم غولن كان وراءها، الإيقاع بين الروس وتركيا ودفع التوتر بينهما إلى حافة المواجهة، وقد دفعت تركيا ثمنًا باهظًا قبل أن تنجح في استعادة تلك العلاقات مع روسيا بشكلها الحاليّ الحذر، وبعد فشل كل تلك المحاولات جاءت المحاولة الانقلابية على النظام الديمقراطي في تركيا تتويجًا لكل الجهود المبذولة من الجانب الغربي والولايات المتحدة.
بعد هذا التخلي الغربي عن تركيا اضطرت إلى عقد تحالفات مع الروس ومع حليف الروس في سوريا، النظام الإيراني، هذا التحالف الذي حاولت تركيا أن تحصل منه على ما فشلت بالحصول عليه من الولايات المتحدة، والمتمثل بإقامة مناطق آمنة داخل سوريا يأمن الناس فيها من بطش النظام، وإرجاع العدد الهائل من النازحين السورين الموجودين على أراضيها، وإبعاد خطر الحرب عن أراضيها.
استطاعت تركيا أن تتوصل إلى اتفاقات شبيهة للتي كانت ترجوها مع الجانب الروسي والإيراني لإقامة مناطق أطلق عليها فيما بعد “مناطق تخفيض التصعيد”، لكن هذا الاتفاق لم تلتزم بها الدولتان، واستمر الصراع العسكري الذي حققت فيه روسيا وإيران والنظام السوري تفوقًا عسكريًا على حساب الثورة السورية المدعومة من تركيا، وشيئًا فشيئًا استمر انحسار النفوذ التركي في سوريا، واقتراب الخطر من تركيا للدرجة التي تحول كامل الشريط الحدودي بينها وبين سوريا تحت سيطرة عصابات حزب العمال وحليفه “وحدات حماية الشعب الكردية”.
حدث تحول دراماتيكي على السياسية الأمريكية بوصول ترامب إلى سدة الرئاسة هناك، الأمر الذي جعل الآمال التركية ترتفع بحدوث تغير حقيقي على سياسية الولايات المتحدة في الموضوع السوري، لكن هذا لم يتحقق.
بدأت تغيرات في الموقف التركي تتضح معالمها من خلال تصريحات المسؤولين الأتراك عن مسألة مدينة دوما، مما جعل الروس والإيرانيين يجربون محاولات الضغط على تركيا بمطالبتها بتسليم عفرين وباقي المناطق التي يسيطر عليها للنظام السوري
الشيء الوحيد الذي استطاعت تركيا أن تستثمره من علاقتها مع روسيا، هو تحرير مناطق جرابلس والباب من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ثم بعد ذلك استطاعت تحرير عفرين من عصابات وحدات حماية الشعب الكردية المرتبطة بحزب العمال.
لكن التحالف مع الروس والإيرانيين وضع تركيا بموقف حرج للغاية، وهي ترى أن الكفة العسكرية ترجح لصالح النظام السوري، والضربات الروسية وضربات النظام لمناطق المعارضة السورية تتلاحق، وليس لها القدرة على القيام بشيء ضده، واستغلت روسيا هذا التحالف أبشع استغلال وضغطت على الأتراك بسبب مشاكلها المستحكمة مع الغرب، لتحييدها في الصراع الدائر بسوريا.
لكن الفترة الأخيرة شهدت تدهورًا كبيرًا في العلاقة بين الغرب وروسيا، بدأت في محاولة تسميم الجاسوس الروسي في لندن وما أعقبها من قطع للعلاقات الدبلوماسية مع روسيا من معظم دول العالم الغربي والدول التي تدور في فلكه، في حادثة نادرة لم تحدث سابقًا، ثم جاءت الضربة الكيميائية التي قام بها الأسد لمدينة دوما بمساعدة الروس والإيرانيين، لتزيد من تعقيد المشهد فوق ما هو معقد، ومع ذلك لم تتجرأ تركيا عن الإفصاح عن غضبها مما يدور في دوما.
لكن بعد اتضاح الموقف الغربي القاضي بالتصدي لروسيا في سوريا بسبب الضربة الكيميائية وعزمه معاقبة الروس من خلال ضرب النظام السوري، وربما يطال العقاب حتى القوات الإيرانية ومليشيات حزب الله، بدأت تغيرات في الموقف التركي تتضح معالمها من خلال تصريحات المسؤولين الأتراك عن مسألة مدينة دوما؛ مما جعل الروس والإيرانيين يجربون محاولات الضغط على تركيا بمطالبتها بتسليم عفرين وباقي المناطق التي تسيطر عليها للنظام السوري.
تصريحات وزير الخارجية التركي تدل على حساب الأمور بشكل حذر من القيادة التركية
لكن جواب تركيا جاء أكثر جرأة عما كان من قبل، حيث قال الرئيس التركي أردوغان تعليقًا على تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بشأن انتظار بلاده تسليم منطقة عفرين للنظام السوري ”هذا الموقف خاطئ جدًا، نحن نعلم جيدًا لمن سنعيد عفرين”، وأضاف “سنسلم عفرين إلى سكانها عندما يحين الأوان، ونحن من يحدد هذا الوقت وليس السيد لافروف”.
وزاد وزير الخارجية التركي تشاويش أوغلو من لهجته ضد الروس حينما قال: “بات من الضروري إبعاد نظام الأسد عن هرم السلطة في سوريا”، وعلق على الضربة الأمريكية المحتملة ضد سوريا “سننتظر ونرى ما إن كانت الضربة ستُنفّذ أم لا” وذلك في تعريض للجانب الأمريكي من أن تصريحاتهم لا تكون دائمًا في موضع التنفيذ فيما يخص الموضوع التركي.
تصريحات وزير الخارجية التركي تدلُ على حساب الأمور بشكل حذر من القيادة التركية، وهو عين الصواب في التعامل مع المواقف الغربية، فحادثة مماثلة في 21 من أغسطس/آب 2013، نفّذ النظام هجومًا كيميائيًا ضدّ المدنيين في الغوطة الشرقية راح ضحيته ألف و400 شخص، وهددت الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية للنظام، غير أنها تراجعت واتفقت مع الروس على نزع المخزون الكيميائي السوري، وتراجعت عن عزمها لضرب للنظام السوري، وأثبت واقع الحال أن هذا الاتفاق كان عبارة عن ذر الرماد في العيون والنظام السوري ما زال يمتلك المزيد من هذا السلاح ليقتل به شعبه.
إن فض التحالف الذي اضطرت إليه تركيا مع الروس حاليًّا لا يمت للحكمة بصلة، ولا يصب في المصلحة التركية من دون ضمانات حقيقية من الجانب الغربي لتركيا، لكيلا يتم محاصرتها مرة أخرى كما حدث في السابق، لكن يمكن لتركيا في هذه الأثناء أن تستغل الضغط الغربي على روسيا والعزلة الخانقة التي تعاني منها، لفرض بعض المواقف التي لصالحها في الموضوع السوري، وتعيد لنفسها الدور الفاعل هناك مرة أخرى.