بلاد الكرج، هكذا كان يطلق عليها المسلمون حينما وصلتها الجيوش الفاتحة عام 25 هجريًا بعد فتح أرمنيا، كانت تبليسي على مر التاريخ نقطة خلاف بين مختلف القوى العالمية بسبب موقعها على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا، وقربها من الطرق التجارية النشطة بين الشرق والغرب، ويأتي اسم تبليسي من كلمة تبيلي التي تعني باللغة الجورجية المكان الدافئ حيث بنى ملك جورجيا المدينة بالقرب من الينابيع الساخنة في القرن الخامس الميلادي.
يظهر بوضوح تاريخ تبليسي الغني في طبيعتها المعمارية المتشكلة من عدة طرز مختلفة ما بين التقليدية والشرقية والأرت نوفو والسوفيتية وانتهاءً بالحداثية، هذا التنوع وإن كان مؤشرًا واضحًا على تعاقب ذوي التوجهات المختلفة على حكمها، إلا أنه أيضًا يعكس هوية قاطنيها، حيث إنها كانت موطنًا لعدة عقائد ثقافية ودينية وإثنية تاريخيًا، أما في عصرنا الحاليّ فأغلب ساكنيها من المسيحيين الأرثوذكس المحافظين.
جورجيا بطبيعتها دولة جميلة تمتاز بطبيعتها القوقازية الساحرة، كانت إحدى دول الاتحاد السوفيتي السابق، ومسقط رأس الزعيم الشهير ستالين، والشعب الجورجي ودود للغاية، يحب مساعدة الأجانب، ومضياف لا يحمل عرقية ضد الغرباء، وهي أيضًا من الدول التي تعطي تأشيرتها السياحية بسهولة، بالإضافة إلى الرخص النسبي لأسعارها وربما هذا يعد أحد أسباب ازدهار السياحة مؤخرًا في هذه الدولة الصغيرة.
يُطلق البعض على تبليسي “مدينة الحياة”
كما ذكرت في البداية فتح العرب تبليسي عام 22 هجريًا الموافق 735 ميلاديًا بقيادة حبيب بن مسلمة في عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأصبحت “تفليس” كما كانت تذكر في المصادر العربية عاصمة لما سُمى حينذاك بالإمارة العربية التي استمرت حتى عام 1122 حين احتلها مجددًا الملك دافيد الذي جعل تبليسي عاصمة للمملكة الجورجية الموحدة.
بعد ذلك تعرضت جورجيا لضربات جيوش تيمور لنك الزاحفة؛ مما أحدث خرابًا كبيرًا بالعاصمة، ثم تعاقبت حملات العثمانيين والصفويين، إلى عام 1802 حين ضمتها القيصرية الروسية، ثم في عام 1921 استولى الشيوعيون على جورجيا وأصبحت تبليسي عاصمة لجمهورية جورجيا السوفيتية الاتحادية، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، نالت جورجيا استقلالها وأصبحت تبليسي عاصمتها مجددًا.
يلاحظ زائرو جورجيا كونها دولة مسيحية محافظة متدينة، تستطيع رؤية ذلك بوضوح عند مشاهدتك للكنائس القديمة المنتشرة في كل المكان ويحرص الجميع على الاعتناء بها وترميمها، أو حتى عندما ترى الجورجيين يرسمون الثالوث على صدورهم عند عبورهم بالكنائس – وهي عادة منتشرة في الكثير من دول الشرق الأوروبي فيما أظن – أو حتى من خلال سلوك الشباب في الأماكن العامة.
ففي أثناء إقامتى لعدة أيام، لم ألحظ بشكل فج أي أفعال خادشة للحياء في شوارع جورجيا بعكس الدول الأوروبية الأخرى التي يصبح تقريبًا كل شيء فيها مباح في الأماكن العامة!
يُطلق عليها البعض “مدينة الحياة”، تقع تبليسي عاصمة جورجيا على ضفاف نهر كورا في الجزء الشرقي من بلاد السيف والنبيذ على تلال سلسلة تريالتي الجبلية، ويزيد سكانها على المليون ونصف نسمة، يدين معظمهم بالمسيحية مع أقلية مسلمة تقل عن الـ10%، وطبقًا للأساطير الجورجية تم تأسيس المدينة في القرن الخامس عن طريق الملك فاختانج جورجاسالي، وتظهر تقاطعات الطرق القديمة بين قارتي آسيا وأوروبا الأصول التاريخية للمدينة بأزقتها الضيقة وحاناتها وكنائسها وبيوتها التقليدية الصخرية التي تُعطيها نمطًا خاصًا مميزًا يعبر بوضوح عن شخصيتها، سترحب بك الأم جورجيا فور وصولك إلى مركز المدينة مُنادية لكل زائريها “السيف للأعداء، والنبيذ للأصدقاء”!
وبالطبع، لكونها العاصمة وكالحال في أغلب البلاد، فإنها ليست فقط المركز السياسي بل الثقافى والاقتصادي والاجتماعي للدولة، وتعد تبليسي وجورجيا على وجه عام من الدول صاحبة معدل جريمة قليل جدًا مُكسبة إياها ميزة الأمان التي ستشعر بها حين تجولك في المدينة صباحًا وليلاً، قبل استقلال جورجيا، كانت تبليسي تحت حكم الإمبراطورية الروسية السابقة ومقرًا للحاكم الإمبراطوري الذي يحكم كلاً من جنوب وشمال القوقاز.
من معالم المدينة المميزة كنيسة ميتيخي التي تعتبر القلب التاريخي للمدينة، وكونها مرتفعة عما حولها يجعل كل زائري مركز المدينة يراها بسهولة ويعود تاريخ بناء تلك الكنيسة إلى عام 1278 ولكنها بالطبع دُمرت وأعيد إنشاؤها وترميمها عدة مرات على مدار التاريخ، ومن المعالم المرتفعة على الجبال المحتضنة المركز، قلعة ناريكالا التي تراقب بعيونها نهر متركفاري شريان العاصمة، أُسست في القرن الرابع وتم فتحها وتوسيعها في القرن السابع عن طريق الأمويين، ثم عن طريق الملك ديفيد، ثم أعاد المغول تسميتها إلى نارين قلعة أي القلعة الصغيرة باللغة الفارسية.
كنيسة ميتيخي
وإذا توجهت إلى شارع سيوني التاريخي، ستجد باستقبالك كاتدرائية سيوني المطلة بواجهتها الشرقية على النهر، أنشئت في القرن السادس ورممت عدة مرات واعتبرت تلك الكاتدرائية الأرثوذكسية الرسمية ومجلس البطريرك إلى أن بنيت كاتدرائية الثالوث المقدس عام 2004.
ستمر أيضًا بكنيسة كاشفتي سان جورج في طريق روستافيلي التي تصاحبها أسطورة تُفسر معنى اسمها “كاشفتي” تعني ولادة الحجر! وتحكي الأسطورة أن الراهب ديفيد جاريجا وكان راهبًا ذا مكانة مهابة في القرن السادس حيث ينتمي إلى الأباء الآشوريين الثلاثة عشر، اتهمته امرأة بأنه جعلها حاملاً، فتنبأ الراهب بأن إنكاره سوف يُثبت حين تلد المرأة حجرًا، وهذا ما حدث!
كاتدرائية سيوني
من الآثار المميزة التي لا يمكن الرحيل عن تبليسي من دون زيارتها هي الحمامات الكبريتية التي يزورها الكثير من السياح للاستمتاع بمياهها المعدنية الساخنة، وعلى مسافة ليست بعيدة عنها يقع جامع تبليسي ذو المئذنته الثُمانية المميزة، هذا المسجد الوحيد الذي تم تركه – مع العلم بأنه تم هدم جميع المساجد الأخرى في العصر السوفيتي – لتغطية الاحتياجات الروحية للجالية المسلمة، له حكاية غريبة حيث إنه مقسوم إلى نصفين، والقبلة يوجد بها محرابان، محراب في الجانب الأيمن، ومحراب آخر في الجانب الأيسر! والسبب في ذلك تضييق الدولة على المسلمين في بناء المساجد لذا اضطر السنة والشيعة إلى اقتسام المساحة المخصصة لهم لإقامة شعائرهم!
في المركز التاريخي للمدينة سيلفت انتباهك جسرًا حديثًا ذي شكل مميز عن الطابع التاريخي المحيط يُسمى بجسر السلام الذي يعبر نهر متكفاري وهو جسر للمشاة بطول 150 مترًا رابطًا بين المركز التاريخي والمدينة الحديثة، مصنوعًا بواسطة الحديد والزجاج، وصُمم عن طريق المعماري الإيطالي ميشيل دي لوكي، يحتوي الجسر على 30 ألف ليد مكونًا شاشة عرض ضوئية تفاعلية تعطي الأفق صورة ليلية مميزة مبهجة، وكان هدف تصميم هيكل حداثي كهذا في وسط المدينة التاريخية رسالة من الرئيس الجورجي بنقل جورجيا من الماضي إلى المستقبل المُشرق على حد تعبيره.
جسر السلام
لا تنس أيضًا زيارة ميدان روستافيلي المعروف أيضًا باسم ساحة الحرية في قلب العاصمة الجوروجيه تبليسي، فيمكنك المشي على طول شارع روستافيلي الذي يعتبر الشريان الرئيسي لتبليسي، ويبدأ من ميدان الحرية، تم تشييد الطريق في القرن التاسع عشر حينما كان فورونتسوف حاكم جورجيا، وقسم الطريق لقسمين: شارع القصر وطريق جولوفيني، ثم في عام 1918 أعيدت تسميته لروستالفيلي وهو الشاعر صاحب أشهر قصيدة التي تسمى الفارس في جلد الفهد، وتمتد البنايات الجميلة على امتداد هذا الطريق.
تمتلئ تبليسي بالعديد من الأماكن الجاذبة الأخرى مثل التلفريك الذي يربط بين قلعة ناريكالا وحديقة رايك وشلال أباوتوباني وشوارع سامجيبرو وتشاردني والملك أركله وبوشكن، منطقة بازار ميداني في تبليسي القديمة وغيرها.
وفي حالة الاحتياج إلى المساعدة بخصوص الأماكن السياحية وخلافه، يمكنك الرجوع إلى مكاتب المعلومات السياحية الموجودة سواء في مطار تبليسي الدولي، أو في مركز المدينة، ومما يمكن ذكره أنه يمكن الوصول إلى تبليسي جوًا عن طريق الرحلات المتواصلة إلى مطارها أو برًا عن طريق عبور الحدود الجورجية من تركيا وأذربيجان وأرمنيا، مما يعني إمكانية التخطيط لرحلة إلى تركيا على سبيل المثال ثم جورجيا أو العكس عن طريق زيارة أشهر مُدن جورجيا ثم العبور إلى مدن البحر الأسود الغنية عن التعريف بتركيا كريزة وطرابزون وغيرها!