عادةً ما تُظهر مشاهد المسلسلات والأفلام التفلزيونية أنّ العلاج بالصدمات الكهربائية كشكلٍ من أشكال الإساءة الطبية والتعذيب الشنيع والسيطرة المسيئة بحقّ المرضى، دون التطرق لمدى فعاليته أو الجوانب الإيجابية الأخرى لهذا النوع من العلاج الذي ظهر قبل عدة عقود وما يزال يُستخدم حتى يومنا هذا مثبتًا فعاليته في علاج العديد من الأمراض والاضطرابات العقلية والنفسية.
ولعلّ أكثر تلك الأفلام شهرةً هو “أحدهم طار فوق عش الوقواق” والذي يخضع فيه المريض في خمسينات القرن الماضي لهذا النوع من العلاج كعقوبةٍ له على تمرّده ورفضه الانصياع لقوانين المشفى. تذكر ذلك المشهد حيث يُجلب بطل الفيلم بالقوة إلى غرفةٍ خاصة ثمّ يُربط بإحكامٍ إلى السرير وتوضع العديد من الأقطاب الكهربائية على جانبيْ رأسه وهو في حالة اليقظة التامّة والرفض الكامل لما يحدث له إلى أنْ تبدأ الشحنات الكهربائية بالمرور في رأسه وتظهر علامات الألم على وجهه وجسده المهتزّ بعنف قبل أنْ يُغمى عليه في مشهدٍ مليءٍ بالألم والتعاطف.
مشهد من فيلم “أحدهم طار فوق عش الوقواق” يظهر العلاج بالصدمات الكهربائيةوفي ذلك الوقت أيضًا، تمّ استخدام هذه الآلية لعلاج “المثلية الجنسيّ” حيث كان الأطباء النفسيون آنذاك ينظرون إليها على أنها مرضٌ نفسيّ وخللٌ عقليّ ينبغي علاجه والتخلص منه. وبما أنّ هذا العلاج لم يقدّم أيّ دليل على فعاليته ونجاحه في تغيير العادات السلوكية والجنسية لأولئك الأشخاص، فلم يتم استخدامه طويلًا في مثل هذه الحالات وتحوّل مع الوقت لمجردٍ صفحة من صفحات تاريخ العلاج.
إلا أنّ العديد من الأطباء النفسيين وربما المرضى أنفسهم أيضًا، يرون فيه علاجًا فعّالًا وآمنًا للعديد من الأمراض والاضطرابات النفسية والعقلية مثل الاكتئاب الشديد والأفكار الانتحارية واضطراب المزاج ثنائي القطب ونوبات الصرع وغيرها الكثير. فكيف نفهم هذا النوع من العلاج وآلية عمله؟
بدايةً فلنعد إلى تاريخه؛ فقد اختُرعَ هذا النوع من العلاج في إيطاليا في أواخر ثلاثينات القرن الماضي على يدٍ عدد من الأطباء النفسيين الذين كانوا يبحثون عن بديلٍ ما جيد وأكثر أمانًا وإنسانيةً للمواد الكيميائية التي كان يتم استخدامها لعلاج الأمراض العقلية وتسبّب العديد من النوبات المخيفة والمرعبة للمرضى. وبالفعل، ففي غضون سنوات قليلة من اختراعه، كان العلاج بالصدمات الكهربائية يُستخدم على نطاق واسع في المستشفيات النفسية في جميع أنحاء العالم نظرًا لأمان مفعوله مقارنةً بالعلاجات الأخرى المستخدمة آنذاك.
أما آليته فتتضمّن تحفيزًا كهربائيًا موجزًا للدماغ بينما يكون المريض تحت تأثير التخدير بشكلٍ كليّ وكامل، الأمر الذي يتطلّب متابعة فريقٍ من المهنيين الطبيين يضم على الأقل طبيبًا نفسيًا واحدًا وطبيب تخدير وعدة مساعدين لهم يقومون قبل البدء بالعلاج بقياس كافة العمليات الحيوية للجسم كالنبض والضغط ومعدلات التنفس وحركة العضلات وغيرها، إضافةً لمتابعة الآثار الجانبية الفيزيائية بعد العلاج مباشرة مثل الغثيان والصداع وآلام الفك أو آلام العضلات.
النوبات الناجمة عن الصدمات الكهربائية تؤدي إلى توليد المزيد من الخلايا العصبية في الدماغ (neurogenesis)، ما يعني زيادة فعالية أدائه.
وعلى الرغم من هذا فما تزال الكثير من جوانب عمله مجهولة، فما نعرفه ويعرفه العلم فقط أنّ هذه الآلية تعمل من خلال الطريقة التي يقوم بها التيار الكهربائي بتعديل بنية الدماغ وخلاياه العصبية ونواقله الكيميائية، وبالتالي يعمل على إعادة التحكم والسيطرة بالأعراض النفسية غير الطبيعية والتي تسلك سلوكًا مغايرًا لما يجب عليه. كما تشير بعض البحوث أيضًا إلى احتمال أنّ النوبات الناجمة عن الصدمات الكهربائية تؤدي إلى توليد المزيد من الخلايا العصبية في الدماغ (neurogenesis)، ما يعني زيادة فعالية أدائه.
جلسة مصوّرة للعلاج بالصدمات الكهربائيةيستخدم العلاج بالصدمات الكهربائية عادة عندما لا تُبدي العلاجات الأخرى أي فعالية تُذكر، بما في ذلك الأدوية والعلاج النفسي، إضافةً للحالات التي تتطلّب استجابةً سريعة وقصوى مثل التعرّض لخطر الانتحار وإيذاء النفس والاكتئاب المقاوم للعلاج، لكن ما يجب فهمه هنا أنّ هذا العلاج لا يقوم بمحاربة المرض والأفكار الانتحارية بشكلٍ كليّ ودائم، لذلك على المريض دومًا متابعة العلاج بأشكالٍ أخرى كالدواء والطبيب النفسيّ لضمان عدم عودته.
وعلى الرغم من أنّ العلاج آمن بشكلٍ عام، إلا أنه لا يخلو من بعض الآثار الجانبية التي تتطلب اهتمامًا مثل الارتباك وفقدان الذاكرة الذي قد يستمر من بضع دقائق إلى عدة ساعات بعد العلاج، بحيث يدخل المريض في حالة من اللاوعي لسبب وجوده ومكانه وتذكر الأحداث التي حصلت معه قبل العلاج مباشرة أو في الأسابيع والأشهر الماضية ونادرًا ما تصل به الحالة لنسيان السنوات الماضية.
يستخدم العلاج بالصدمات الكهربائية عادة عندما لا تُبدي العلاجات الأخرى أي فعالية تُذكر، إضافةً للحالات التي تتطلّب استجابةً سريعة وقصوى مثل التعرّض لخطر الانتحار وإيذاء النفس
ولو جئنا للإحصاءات، فتشير الجمعية الأمريكية للطب النفسي أنّ ما يقارب 80 ٪ من الأشخاص المصابين بالأمراض العقلية التي ذكرناها سابقًا، وغالبًا كانت حالات لأشخاص عجزوا عن الاستجابة للأدوية والعلاج النفس وطرق العلاج التقليدية الأخرى، فقد نجح العلاج بالصدمات الكهربائية في التخفيف من أعراض اضطراباتهم في غضون أسبوع إلى أسبوعين من بدء العلاج، وهي نسبة كبيرة تثبت نجاح الآلية بكلّ تأكيد.
وبالمحصلة، بعيدًا عن مشاهد الدراما الهوليوودية، فلا شكّ أنّ العلاج بالصدمات الكهربائية يشكّل جانبًا هامًّا وأساسيًا في الطب النفسي، لما له من قدرة عالية وفعالية فائقة على علاج الحالات المستعصية التي تعجز أشكال العلاج الأخرى على حلها والتخلص منها، لا سيّما وإن ارتبطت تلك الحالات بالرغبة غير المتحكم بها بالانتحار أو إيذاء النفس للتخلص من الألم، العضويّ والنفسيّ، غير المحتمل.