كان للموقف التركي المسؤول عن منع دخول القوات الأمريكية الأطلسية أبلغ الأثر عند العراقيين عند غزو العراق 2003، رغم الضغوط الأمريكية عليها، وإدراكًا من تركيا بأن ذلك الغزو سيؤثر بشكل مباشر على أوضاع العراق الأمنية وبالتالي على استقرار المنطقة؛ فالموقف التركي نابع من الأصالة الأخوية التي تحتم على الجار أن لا يكون وسيلة لتدمير جاره، بالإضافة إلى إدراكه مساوئ تلك العملية بشكل عام.
العلاقات العراقية التركية متميزة منذ نشأتها في بدايات القرن الماضي، منذ 15 من مارس/آذار1927، وهو تاريخ اعتراف الحكومة التركية بالعراق كدولة مستقلة بزعامة الملك فيصل الأول، ومنذ تلك الفترة حاول الجانبان تدعيم وتقوية العلاقات الثنائية وإقامة أفضل العلاقات بينهما، والجدير بالذكر أن تركيا كانت السباقة في ذلك، فقد اتصل في ذلك الوقت السفير التركي في لندن بالحكومة البريطانية مبديًا رغبة الحكومة التركية في تعيين قنصل تركي عام لتركيا في بغداد واستطلاع رأي الحكومة العراقية بشأن الرغبة التركية.
للدولتين حدود برية مشتركة تمتد على مسافة 384 كيلومترًا وهو يؤثر بشكل مباشر على تقوية العلاقات الاقتصادية والروابط الاجتماعية والثقافية المدعمة بعلاقات تاريخية مترابطة ومستمرة منذ القدم.
بعد استلام حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا ورفع شعار “تصفير المشاكل مع دول الجوار”، وتبنت إقامة علاقات أعمق مع جيرانها، نتج عن هذا الدافع قيام روابط مؤسسية على أعلى المستويات مع بغداد، بلغت ذروتها في قمة أكتوبر/تشرين الأول 2009 عندما تم توقيع ما يزيد على 40 مذكرة تفاهم بشأن مواضيع تشمل الحوار الأمني الإستراتيجي إلى التجارة والتعاون في مجال الطاقة.
وقد عملت مثل هذه المبادرات على زيادة حجم التبادل التجاري الثنائي بصورة سريعة، ومهدت الطريق للشركات التركية والمستثمرين الأتراك للاستفادة من الفرص السانحة في الدولة المجاورة، فعلى سبيل المثال أصبح العراق أكبر سوق لشركات الإنشاء التركية في الشرق الأوسط، في الأشهر الست الأولى من عام 2012 كانت أكثر من نصف المشاريع الجديدة التي خططت تلك الشركات القيام بها في المنطقة مخصصة لمناطق العراق الواقعة تحت سيطرة الحكومة المركزية في بغداد.
يتحتم على الدولتين فتح منافذ حدودية أخرى مشتركة تساعد على انسيابية حركة النقل والبضائع والتبادل التجاري
ومن البديهي القول إن الحدود التي كانت مفتوحة على مصراعيها في السابق مع حركة مواصلات متواضعة أغلبها كانت عبارة عن طرق برية ونياسم خاصة بحيوانات النقل وقطعان الأغنام وغيرها، ورغم ذلك كانت مستمرة ومتواصلة، والآن بعد التطور الحاصل في اقتصاد الدولتين وتوفر مختلف وسائط النقل وزيادة حجم التبادل التجاري بمختلف أصنافه وأنواعه ولكون العراق ثاني أكبر المستوردين للبضائع التركية بعد ألمانيا؛ مما يتطلب زيادة المنفذ الحدودي الوحيد في منطقة الخابور.
وعليه يتحتم على الدولتين فتح منافذ حدودية أخرى مشتركة تساعد على انسيابية حركة النقل والبضائع والتبادل التجاري، وكما ذكرت كإحدى فقرات مذكرة التفاهم بين البلدين، وكما تمثل تركيا بوابة دخول العراق المباشرة الأولى والوحيدة إلى الأسواق الأوربية، فجانب كبير من التجارة بواسطة الشاحنات تعبر من مركز خابور الحدودي الوحيد، وعلاوة على ذلك يعبر خطان لأنابيب النفط العراقي الأراضي التركية إلى محطات ضخ النفط على البحر المتوسط في جيهان.
رافق انهيار الحكومة العراقيَّة عسكريًا على الموصل – ثاني أكبر المدن العراقية بعد العاصمة بغداد – وعلى مناطق واسعة أيضًا خلال احتلال داعش في يونيو/حزيران 2014، توقف تجارة نقل البضائع التركية إلى ما بعد المنطقة الشمالية، وقَدَّر معدل عدد شاحنات الترانزيت التركية التي تذهب للعراق بنحو 70 ألف شاحنة شهريًّا (2300 تقريبًا يوميًّا).
وبسبب السيطرة على مناطق واسعة من جنوب الموصل وشرقها، فإن الشاحنات التي تتعدَّى شمال العراق لم يَعُدْ باستطاعتها الذهاب إلى الجنوب، وقد انخفض عدد الشاحنات التركية نتيجة لذلك إلى نحو 1550 شاحنة.
ووفقًا لجمعية المصدِّرين الأتراك فإن حجم الصادرات التركية إلى العراق انخفض بنسبة 21% في شهر يونيو/حزيران 2014 مقارنة بالعام الذي سبقه، الأمر الذي دفع ترتيب العراق إلى التراجع للمرتبة الثالثة في قائمة أكبر مستوعبي الصادرات التركية، ثم تراجعت الصادرات التركية إليه مرة أخرى بنسبة 46% في يوليو/تموز لتتراجع مرتبة العراق – أيضًا – إلى الخامسة.
وفي أغسطس/آب تراجعت الصادرات التركية على أساس سنوي بنسبة 21%، وقدَّر وزير الاقتصاد التركي حجم الخسائر التركية الناجمة عن انخفاض الصادرات إلى العراق بنحو 3 مليارات دولار، وذلك في حين قدَّر مجلس الأعمال التركي العراقي في مجلس إدارة العلاقات الاقتصادية الخارجية (DEIK) أن استمرار الوضع على ما هو عليه قد يؤدي إلى خسائر تركيَّة بقيمة 9 مليارات دولار.
تكمن المساهمات التركية في إعادة البناء والتأهيل بعدة أوجه أهمها الوجه الاستثماري في مختلف القطاعات ومنها النقل والمواصلات
من جانبها أبدت الحكومة التركية القلق العميق من الوضع غير المستقر في العراق، لأن المعروف أن أولويات إدامة العلاقات وتطويرها هي عودة سلطة الحكومة المركزية والسيطرة على كامل الأراضي العراقية، وتركيا تريد أيضًا أن يصبح العراق دولة مستقرة ومزدهرة لاستئناف العلاقة التجارية، إضافة إلى تأمين أنابيب النفط من حقول شمال العراق وحتى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط.
الآن وبعد زوال الغمامة السوداء التي جلبتها معها داعش لبعض المدن العراقية والتي خلفت الخراب والدمار في تلك المدن المنكوبة أعتقد أنه حان الوقت لتركيا أن تلعب الدور الفعال والمشرف والمعهود عنها في رفع المعاناة عن كاهل المواطنين وكذلك بالوقوف جنبًا إلى جنب مع الحكومة العراقية في سبيل إصلاح وإعادة بناء ما دمره الأشرار من المرافق الحيوية والمدارس والجامعات والمنشآت.
ومن الطبيعي القول إن الإمكانات الهائلة التي تتمتع بها تركيا وخصوصًا في مجالات البناء والتقدم العلمي والتطور الصناعي التي أصبحت في مصاف الدول المتقدمة، لا بد أن ينظر لها كإحدى الدول التي تكون مساهماتها فعالة وواضحة في إعادة بناء ما خلفته الحروب المتتابعة في عموم العراق وبالأخص تلك التي عانت مؤخرًا من ويلات داعش كالموصل وتلعفر والأنبار وصلاح الدين.
تكمن المساهمات التركية في إعادة البناء والتأهيل بعدة أوجه أهمها الوجه الاستثماري في مختلف القطاعات ومنها النقل والمواصلات وخصوصًا السكك الحديد وإعادة تأهيلها ودعمها بقاطرات ومقطورات والعمل على تطويرها وزيادة قابلياتها وسرعتها، إضافة إلى تشغيل المطارات المختلفة، وكذلك في دعم عملية القضاء على ظاهرة التصحر التي تصيب المناطق الزراعية وشق قنوات التربة والتخلص من الملوحة عن طريق إنشاء شبكات مبازل في مختلف المدن العراقية.
العلاقات التركية العراقية كانت على الدوام علاقة حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلد الآخر
الوجه الآخر من المساهمة التركية في العراق هي قيام هيئاتها المستقلة الخيرية كالمؤسسة العملاقة (تيكا) وغيرها من المؤسسات الخيرية التي تساهم بشكل فعال في معظم الدول الفقيرة الآسيوية والإفريقية، في عملية بناء وترميم المؤسسات الصحية والخدمية والتعليمية التي دمرت أو الضرورية لبنائها واستحداثها لسد احتياجات المواطنين.
بوادر كثيرة تؤشر على استعداد تركيا للمساهمة في عملية إعادة البناء للمرافق الحيوية في العراق كمساهمة طوعية منها وقد أبدت استعدادها أكثر من مرة خلال تصريحات المسؤولين الأتراك المتكررة وكذلك تصريحات وزيارات السفير التركي المعتمد في بغداد إلى الكثير من المدن العراقية التي أشار إلى قيام المؤسسات التركية الطوعية بإنجاز مشاريع أو المساهمة بإنجازها بالتعاون مع المؤسسات العراقية، مبديًا رغبته في إيصال الاحتياجات العراقية إلى المسؤولين في أنقرة، وكان أهم تصريحاته تأخير إملاء حوض سد اليسوي التركي حتى نهاية يونيو/حزيران من هذه السنة مساهمة من تركيا بتوفير الاحتياجات العراقية من المياه حتى ذلك الحين.
بقي أن نعرف أن العلاقات التركية العراقية كانت على الدوام علاقة حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلد الآخر ولم تشب تلك العلاقات أي شائبة منذ قيامها ولحد الآن، ولذا فإن باستطاعتنا القول إن العراقيين ينتظرون الكثير من الأتراك أكثر مما ينتظرونه من باقي دول الجوار ومن ضمنهم الدول العربية.