جرت العادة أن يساهم الوالدان بشكلٍ كبير في تحديد هوية الطفل وخياراته، ولكن المثير للاهتمام في العصر الحاليّ، أن يكون الأهالي بصمة رقمية لطفلهما على شبكة الإنترنت قبل أن يفتح عينيه حتى، وربط تفاصيل حياته ومراحل نموه بعدد الإعجابات والمشاركات والتعليقات التي تتفاعل مع منشوراته اليومية، والتنافس على جعلها أكثر تميزًا عن غيرها لجذب أكبر عدد من المتابعين وبالتالي تحقيق الشهرة والأرباح مادية.
ذكرت دراسة حديثة أن الأهالي ينشرون نحو 1500 صورة لطفلهم على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن يبلغ سن الخامسة، وأن 80% من الأطفال بعمر سنتين لديهم حضور رقمي، حيث أصبح تصوير الأطفال منذ الولادة وحتى الدخول إلى المدرسة معلم من معالم الأبوة/الأمومة الحديثة، أو مهارة تضيف صفة “الاحترافية” على تربية الأولاد.
ورغم حب الوالدين لمشاركة تجاربهم مع الأصدقاء والأقارب، وتوثيق ذكريات الطفولة وتقديم النصائح للبعض أو طلب الدعم عبر هذه المنشورات، فإن العديد يغفل الآثار المترتبة عن تعريض حياة الأطفال الشخصية للعلن وكيف قد يهدد هذا العالم الرقمي حياتهم الاجتماعية في المستقبل.
انتهاك خصوصية الطفولة
لا شك أن الأهالي أشخاص بالغون قادرون على اتخاذ قرارات بشأن حياتهم الشخصية التي يشاركونها بشكل عام على منصات السوشيال ميديا، ولكن عندما يتعلق الأمر بأطفالهم فمن المحبذ أن يكونوا انتقائيين وحذرين بشكل كبير، وذلك حتى لا تخدش خصوصية الطفل.
فمن المرجح أن غالبية الأهالي لا يأخذون إذن طفلهم عند التقاط صورة -عفوية – له في أوضاع مختلفة وتحميلها على مواقع التواصل الاجتماعي ليراها الملايين من الأشخاص الذين فيما بعد سوف يقيمون براءته وجماله، وتبدأ أسئلتهم عن ماركة ملابسه وعنوان المدرسة التي يدرس فيها وعدد اللغات التي يتقنها، ورغم عدم وعي الطفل لهذه المواضيع، فإن الكثير من الآباء والأمهات يشاركون معلومات يعرفون أنها تحرج أو تزعج طفلهم.
يفترض البعض أن مشاركة الأهالي لحياتهم وصراعاتهم اليومية مع الأطفال قد تكون دروسًا ونصائح للأسر الأخرى التي تعاني من نفس المشاكل
وفي هذا يكون الأهالي قد خلطوا بين حقوقهم والمساحة الشخصية لطفلهم، وغفلوا عن مهمتهم التقليدية في حراسة أولاهم لا تعريضهم لآراء وتعليقات الأصدقاء والغرباء، خاصة أن لا سلطة لهم على العالم الافتراضي المليء بالثغرات الأمنية وحالات التنمر والأشخاص السلبيين.
ومن جهة أخرى، يفترض البعض أن مشاركة الأهالي لحياتهم وصراعاتهم اليومية مع الأطفال قد تكون دروسًا ونصائح للأسر الأخرى التي تعاني من نفس المشاكل، فمثلًا عرض التحديات التي تمر بها الأسرة التي لديها طفلًا من ذوي الاحتياجات الخاصة قد يساعد بشكل كبير في نشر الوعي عن الحالة الصحية وقد يساهم في تحسين أوضاع عائلات أخرى، ولكن قد يسبب إعلان هذا المرض حرجًا بالنسبة للطفل عندما يكبر ويخالط أقرانه في المدرسة وربما يقع ضحية للتنمر ويكون لهذا آثار سلبية على نفسيته وعلاقته مع الآخرين.
الأهالي يشاركون معلومات غير مناسبة عن أطفالهم وأكثر من اللازم
انخرطت الكثير من “الأسر السعيدة” في موجة مشاهير السوشيال ميديا، وهي ما يطلق عليها اسم Sharenting أي “العائلة المدونة” التي تصنع من تفاصيل حياتها الأسرية اليومية واجهة إعلانية للترويج لدعم علامة تجارية معينة، وذلك يشمل مشاركة الأطفال والتركيز على نمط حياتهم الاستهلاكي.
أجرت جامعة ميشيغان دراسة عن المعلومات التي ينشرها الأهالي عن أطفالهم، وقسموا البيانات إلى خمس مواضيع، وهي مشاكل نوم الأطفال والتغذية والانضباط ومشاكل السلوك والتربية ومرحلة ما قبل المدرسة، وأشارت النتيجة إلى أن 56% من المنشورات معلومات محرجة عن الأطفال، و51% شملت معلومات شخصية مثل تاريخ ميلادهم وموقعهم، و27% نقلوا صورًا غير ملائمة كإظهارهم وهم عراة.
نبهت نتائج البحث السابق من الجهات التي تسرق صور الأطفال وتستغلها في المواقع الإباحية الشاذة
وفي نفس السياق، أجرت جامعة نيويورك بحثًا عن مخاطر نشر المعلومات الشخصية عن الأطفال التي تضم أعياد ميلادهم ومواقعهم ودياناتهم وأوقات أنشطتهم اليومية، وأوضحت أن هذه المعلومات لا تصل فقط إلى الأصدقاء والأقارب والأشخاص الذي يحاولون أن يستفيدوا من تجارب الآخرين، لكنها تصل أيضًا إلى الغرباء والمتحرشين الذين قد يتسببوا بأذى للأطفال من خلال معرفة هذه التفاصيل الشخصية عنهم وعن حياتهم اليومية.
وأوضحت أنها عرضة أيضًا لأهداف المعلنين ووسطاء البيانات الذين يسعون إلى جمع ملفات الأطفال لاستخدام بياناتهم في تحسين الخدمات التجارية، وهذا ما علق عليه الرئيس التنفيذي السابق لشركة جوجل إريك شميدت حين قال: “سوف تعرف غوغل قريبًا ما يكفي من المعلومات عن الأشخاص وستتمكن من مساعدة جميع المستخدمين في تخطيط حياتهم”.
فمن المتعارف عليه أن هذه المواقع تخزن البيانات لسنوات طويلة في خوادمها، لذلك لا يفضل خبراء الأمن الإلكتروني بأن ينشر الأهالي أسماء وتواريخ ومواقع أولادهم حتى لا تستخدم في أغراض لن تسرهم.
ونبهت نتائج البحث السابق من الجهات التي تسرق صور الأطفال وتستغلها في المواقع الإباحية الشاذة، فوفقًا لكبير المحققين في مفوضية السلامة الإلكترونية، توي داج، فإنه وجد في أحد هذه المواقع التي تحتوي على 45 مليون صورة على الأقل، أن نصف هذا العدد صور لأطفال سرقت من مواقع التواصل الاجتماعي وتم تخزينها في الموقع الإباحي بمسميات بذيئة”.
ظاهرة “الاختطاف الرقمي” أحد عواقب هذا الهوس بنشر صور الأطفال على صفحات المواقع الاجتماعية التي تعني سرقة صور الأطفال ونسبها إلى عائلة مزيفة من أجل تحقيق الشهرة أو المال
وعلى إثر هذه المخاوف، اتخذت كل من فرنسا وبريطانيا تدابير قانونية وأمنية بهذا الشأن، إذ أعلنت عزمها على فرض غرامة على الآباء الذين ينشرون صور صغارهم دون موافقتهم، وذلك من باب حماية خصوصيتهم.
وتبقى ظاهرة “الاختطاف الرقمي” أحد عواقب هذا الهوس بنشر صور الأطفال على صفحات المواقع الاجتماعية التي تعني سرقة صور الأطفال ونسبها إلى عائلة مزيفة من أجل تحقيق الشهرة أو المال، حيث قالت خبيرة السلامة الإلكترونية سوزان ماكلين: “إذا كنت تعيش حياتك من خلال عرض حياة أطفالك ومشاركة صورهم عبر الإنترنت، فينبغي أن تفهم أن هذه الصور تمثل شيئًا آخر لشخص ما، وعلى الأرجح لن تعجبك النتيجة”.