يحتفي العالم في 17 يوليو/ تموز بـ”اليوم العالمي للعدالة الدولية” إحياءً لذكرى إقرار المعاهدة التأسيسية للمحكمة الجنائية الدولية، في الوقت الذي تموج فيه الخارطة الدولية بعشرات النزاعات والصراعات التي وضعت العالم فوق فوهة بركان من العنف والانتهاكات وحروب الإبادة التي تهدد حياة الملايين من البشر.
ويتزامن الاحتفاء هذا العام مع الكارثة الإنسانية التي يشهدها قطاع غزة، جراء حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي وحتى اليوم، وخلفت أكثر من 120 ألفًا ما بين شهيد ومصاب، فيما وضعت عشرات الآلاف من الأطفال والنساء على قوائم الموت جوعًا.
وبينما تدخل تلك الحرب شهرها العاشر، ورغم قرارات محكمتَي الجنائية والعدل الدوليتَين لوقف شلالات الدماء وإنهاء تلك الكارثة الإنسانية، والإقرار بضرورة وقف تلك الحرب التي يدور رحاها على الهواء مباشرة، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، إلا أن العدالة غائبة في ظل الصمت المخيّم على المجتمع الدولي الذي سقط في أحد أهم اختبارات العصر، لتسقط الأقنعة عن شعارات الإنسانية والعدالة الجوفاء التي طالما تشدقت بها القوى الدولية خدمةً لمصالحها الخاصة.
حرب إبادة على الهواء مباشرة
على مدار 285 يومًا يواصل جيش الاحتلال انتهاكاته بحق أكثر من مليوني فلسطيني داخل قطاع غزة المحاصر من كافة الجهات، مستخدمًا في ذلك كافة أنواع البطش والإجرام المخالف شكلًا ومضمونًا لمواثيق حقوق الإنسان وللقانون الدولي، ضاربًا بعرض الحائط كافة الانتقادات الحقوقية، الإقليمية والدولية.
ولم يتوانَ الإسرائيلي عن استهداف كل مقومات الحياة داخل القطاع، وتدمير كل ما فوق الأرض وتحتها من شجر وبشر وحجر، ومن مدارس ومشافٍ ومراكز إيواء وخيام لاجئين، محاولًا تكريس سياسة الأرض المحروقة بحذافيرها دون أي منفذ يمكن التسلّل من خلاله لبثّ الحياة مرة أخرى في القطاع.
وبالتزامن مع حرب النيران والقصف والاستهداف العسكري كان هناك نوع آخر من الحروب، حرب التجويع والتعطيش، حيث فرض المحتل حصارًا مطبقًا على كافة مناطق القطاع، إذ أغلق كافة المعابر وأوصد مختلف النوافذ، ووضع مليوني إنسان في زاوية ضيقة، حيث لا طعام ولا شراب ولا علاج ولا مأوى.
وأدى ذلك إلى ارتفاع حصيلة الحرب منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى 38 ألفًا و584 شهيدًا، و88 ألفًا و881 مصابًا، وأكثر من 10 آلاف في عداد المفقودين، وتدمير ما يزيد على ثلثي القطاع، وتشريد مليوني مواطن وتعريض حياة عشرات الآلاف من النساء والأطفال للموت جوعًا.
يحدث هذا على مرأى ومسمع من مجلس الأمن والأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية والجنائية الدولية، وكافة المنظمات الحقوقية الأممية والمستقلة، دون أن يحرك أحد ساكنًا لإيقاف تلك الكارثة، ووضع حدّ لنهاية هذا العبث بأرواح عشرات الآلاف من البشر، ليس لهم جريرة سوى الدفاع عن أرضهم والتشبّث ببيوتهم في مواجهة محتل غاشم مدعوم من حلفائه في الغرب، ممّن منحوه الضوء الأخضر لممارسة كل تلك العربدة دون أي قلق من ملاحقة أو محاسبة.
قرارات دولية على استحياء
أمام تلك الانتهاكات الإسرائيلية الوحشية التي ما عاد يجدي معها سياسة غضّ الطرف على طول الخط، شهدت الخارطة الدولية بعض التحركات الساعية إلى وقف هذا النزيف الإنساني الذي لا يتوقف على مدار 10 أشهر كاملة، كان أبرزها:
– قرار محكمة العدل الدولية في 24 مايو/ أيار 2024 بوقف العمليات العسكرية في رفح جنوب غزة، وفتح المعبر وإدخال المساعدات الإنسانية لكافة مناطق القطاع دون استثناء، استجابة للدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد الكيان المحتل، واتهامه بارتكاب جرائم إبادة بحق سكان غزة.
المحكمة استندت في حكمها إلى المخاطر الكارثية الناجمة عن الوضع في غزة، حيث إلحاق أضرار بحقوق سكان القطاع لا يمكن إصلاحها، بجانب تدهور الظروف المعيشية لسكان القطاع بشكل ملحوظ منذ قرار 28 مارس/ آذار الماضي، الذي أمرَ دولة الاحتلال باتخاذ إجراءات تمنع أعمال الإبادة.
– إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، في 12 مايو/ أيار الماضي سعيه للحصول على أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، بسبب مسؤوليتهما عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تفكر فيها المحكمة الدولية إصدار أوامر اعتقال بحق قادة إسرائيليين.
عوّل الكثيرون على هاتين الجهتين الدوليتين، لا سيما أنهما ذات ثقل كبير وحضور ملموس، في رضوخ “إسرائيل” وقادتها للقرارات الصادرة عنهما في إنهاء الحرب ووقف الانتهاكات، ووضع حدّ لتلك الكارثة الإنسانية التي تهدد حياة مليوني إنسان في القطاع، لكن وبعد 3 أشهر تقريبًا على تلك القرارات يبقى السؤال: ما مصيرها؟
سقوط مخزٍ في اختبار غزة
مثّلت قرارات العدل والجنائية الدوليتين، ومعهما تقارير المنظمات الحقوقية، اختبارًا قاسيًا للمجتمع الدولي في مادة العدالة، إما النجاح الباهر عبر الالتزام والضغط لأجل تنفيذها حماية للعدالة التي يمثلها هذان الكيانان، وإما السقوط المدوي من خلال التجاهل وغض الطرف والتخلي عن استخدام أوراق الضغط المتوفرة لفرض وتنفيذ مثل تلك القرارات.
غير أن النتيجة كانت صادمة رغم توقعها، سقوط فاضح في هذا الاختبار الذي يُفترض أنه من أسهل الاختبارات التي من الممكن أن يتعرض لها المجتمع الدولي، في ظل توفر كافة الأركان والشواهد والشهادات والأدلة والوثائق على ارتكاب الاحتلال للانتهاكات غير الآدمية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.
في البداية عارضت الولايات المتحدة مجرد فتح الجنائية الدولية للتحقيق في انتهاكات “إسرائيل” في غزة، بل ذهبت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيير، في 29 أبريل/ نيسان 2024 إلى أنه ليس من اختصاص المحكمة إصدار الأحكام بحق المسؤولين الإسرائيليين.
وطالب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، من الرئيس الأمريكي جو بايدن بشكل شخصي خلال محادثة هاتفية بينهما، مساعدته في منع إصدار المحكمة الدولية مذكرات توقيف بحقه وعدد من قادة جيشه، وأن تمارس أمريكا نفوذها لوقف هذا التحرك في أسرع وقت.
أما رئيس مجلس النواب الأميركي، مايك جونسون، فوصف مذكرات الاعتقال التي تنتوي المحكمة إصدارها بحق مسؤولين إسرائيليين بأنها “مشينة وغير قانونية”، محذّرًا في بيان له أنه “لو لم يتم مواجهة ذلك من جانب إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تخلق وتدّعي امتلاكها سلطة غير مسبوقة متعلقة بإصدار مذكرات اعتقال بحقّ القادة السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين”، مطالبًا إدارة بايدن بالضغط لتنحّي المحكمة عن تلك القضية.
القوى الغربية هي الأخرى سقطت سقوطًا مخزيًا في الاختبار ذاته، ناسفة بذلك شعارات العدالة الدولية التي اعتادت التشدّق بها على مدار عقود طويلة، فرغم أن طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه لم يُحسم بشكل رسمي، ولم يصدر بعد قرار اعتقال، إلا أن بريطانيا وإيطاليا والتشيك قادت سويًا فريقًا من المعارضين لهذه الخطوة.
فمن جانبه، قال رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ريشي سوناك، إنه “من الناحية الأخلاقية لا يمكن المساواة بين تصرفات حكومة منتخبة ديمقراطيًا تستخدم حقها القانوني في الدفاع عن النفس ومنظمة إرهابية (في إشارة إلى حماس)”، فيما وصف وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، تلك الخطوة إذا ما تمّت بشكل رسمي ونهائي بأنها يمكن أن “تؤجّج معاداة السامية”، في الوقت الذي اعتبرها رئيس الوزراء التشيكي، بيتر فيالا، “قرارًا مشينًا وغير مقبول على الإطلاق”.
العدالة بحاجة إلى حماية
“العدالة المحايدة تحتاج إلى دعم عالمي أكثر من أي وقت مضى“، تحت هذا العنوان كتبت مدير برنامج العدالة الدولية في منظمة هيومن رايتس ووتش، إليزابيث إيفنسون، مقالًا تستعرض فيه التحديات التي تواجه العدالة الدولية التي ترى أنها اليوم أمام اختبار هام، منوهة أنه رغم ازدهار مسارات متعددة لتحقيق المحاسبة، لا تزال العدالة مهدَّدة من أولئك الذين يخشون المحاسبة وحلفائهم.
وأوضحت الحقوقية والمحامية البارزة أن الجنائية الدولية تتعرض لهجوم مستمر من الجهات الصادر بحقها قرارات إدانة، ومنها ما تتعرض له من روسيا في أعقاب إصدار مذكرة توقيف ضد الرئيس فلاديمير بوتين عام 2023، فضلًا عن التهديد الأمريكي بفرض عقوبات على المحكمة ومسؤوليها، بسبب طلب مدّعيها العام إصدار مذكرة توقيف ضد مسؤولين إسرائيليين من بينهم رئيس الوزراء.
وترى إيفنسون أن النزاعات التي تعصف بالعالم اليوم، من دارفور إلى الكونغو، مرورًا بأوكرانيا، ووصولًا إلى غزة، تُظهر “كيف أن ثقافة الإفلات من العقاب تغذّي جولات العنف”، مشددة على أنه من الضروري “تقديم العدالة المحايدة والمستقلة لضحايا الجرائم الدولية الجسيمة، بصرف النظر عن مكان ارتكابها وهوية مرتكبيها”.
وفي الأخير يبقى السؤال: كيف يحتفي العالم بيوم العدالة الدولية بينما تواجه غزة كارثتها الإنسانية الأروع منذ عقود؟ كيف يرفع قادة العالم شعارات الإنسانية والعدالة فيما يغضّون الطرف عن حرب الإبادة التي تشنها “إسرائيل” بحق العزل من أطفال ونساء وشيوخ غزة؟ كيف للمجتمع الدولي التشدّق بالقرارات الأممية، لا سيما الإنسانية، فيما يعجز عن إلزام دولة الاحتلال بها وإخضاعها للعدالة الدولية؟ ثم كيف يكون الاحتفال باليوم العالمي للعدالة فيما تُنحر بسكين بارد في غزة على مرأى ومسمع من الجميع؟