سترتدي اللباس التقليدي حينما يطلبون منك تمثيل بلدك في مناسبة دولية، وستشعر بأن هذه هي الطريقة الوحيدة الواضحة لتمثيل المكان الذي تنتمي إليه وتحمل منه جزءًا كبيرًا يُمثل هويتك، ولكن حينما ينتهي الحفل ستعود إلى لباسك “الحديث”، الذي يرتديه الأغلبية في شكل متشابه في أغلب بلاد العالم تقريبًا، والمعروف بـ”dress code” والذي يعني في اللغة العربية اللباس الرسمي أو في سياق آخر اللباس الواجب ارتداؤه.
“كُلْ كما تشتهي أنت والبس كما يشتهي غيرك”، هو مثل عربي معروف اشترك فيه العرب من المحيط إلى الخليج، وهو ما يضمن في معناه أن الإنسان ليس حرًا فيما يختاره من ملبس، ويجب عليه أن يتشابه مع المجموعة، وأن يرتدي ما يعجب الناس، أي ما يجده الناس ملائمًا ومقبولًا للارتداء في الحياة والشوارع العامة.
ولكن لماذا وجب علينا ارتداء لباس لا يعبر عن هويتنا وصار من المفروض علينا ارتداءه لكي نكون مقبولين في مجتمعنا الذي تخلى هو أيضًا عن لباسه التقليدي؟ قبل الإجابة على هذا السؤال دعونا نعود قليلًا للخلف، ونبحث في التاريخ عن الأيام الذي اعتاد فيها الناس ارتداء ملابسهم التقليدية دون خوف أو قلق أو شعور بالخجل منها.
تميز الأتراك في عهد الدولة العثمانية بتنوع وفخامة اللباس التقليدي، الذي انعكس فيه هوية العثمانيين، فتنوعت التطريزات وطريقة الحياكة والألوان، فكان للنساء أنواع مختلفة من اللباس التقليدي منها القفطان والسراويل الفضفاضة الطويلة، كما كان للرجال أزيائهم الخاصة التي اختلف فيها رجال القصر وعامة الشعب من القرويين والفلاحين، كما استُعملت كثير من الأقمشة المختلفة لصنع اللباس العثماني التقليدي مثل الحرير والمخمل والديباج.
إحدى الأزياء التقليدية السورية
أما بالنسبة للدول العربية، تمتعت كل دولة فيها بلباس تقليدي خاص بها، فكان لسوريا العشرات من الأزياء التقليدية من بينها لباس الرأس والبخنق، وهو عبارة عن برقع صغير يغطي الرأس، والخمار والملاءة السوداء، والعباءة السوداء الطويلة، بالإضافة إلى السراويل الفضفاضة الطويلة وأغطية الرأس مربعة الشكل للباس الشعبي و القفطان الكلاسيكي للأزياء الراقية، كما اشتهر الرجل السوري بزيه التقليدي من القميص والصدرية ذات اللون الأحمر القاني وغطاء الرأس من العصبة أو الشماخ والتي استُبدلت بالطربوش الأحمر في عهد الدولة العثمانية.
البرقع المصري
تنوع في مصر الزي التقليدي، فلم يكن هناك زي موحد ومعروف، وذلك لأن لكل منطقة زيها الخاص بها، فمن الزي الفرعوني وحتى الزي الحديث تنوع اللباس التقليدي المصري فكان منه ثوب الجرجار في الجنوب المصنوع من قماش التل، وكان هناك “الملاية اللف” التي كانت الزي العشبي للطبقات الفقيرة والمتوسطة وهي عبارة عن عباءة سوداء فضفاضة تلفها المرأة على جسدها مع برقع يغطي الفم ولا يغطي العينين، والتي اندثرت من المدن وصارت خاصة بمدن الصعيد، كما اعتاد الفلاحين والفلاحات ارتداء ألبسة زاهية اللون وخاصة النساء مع غطاء للرأس محاط بكرات زاهية اللون تتدلى منه.
كما تواجد “القمباز” في الأردن وفلسطين، وهو رداء طويل مشقوق من الأمام، واسع من منطقة الحوض، يكون تحته سروال فضفاض طويل ويزين الخصر حزام أو كمر جلدي عريض، كما ارتدت المرأة الفلسطينية الثوب التقليدي منذ آلاف السنين ليتطور عبر الزمن ويكون لكل مدينة ثوبها الخاص بها المطرز بألوان مختلفة من بينها الأحمر والأسود والأبيض.
لأن للملابس أهمية كبيرة في تحديد الهوية ومدى الارتباط بالتاريخ أو بالأرض، عمد كل من يحاول التأثير على ارتباط الناس بالتاريخ أو بالأرض على تغييرها
أين تلك الملابس التقليدية الآن؟
إحدى ملابس عامة الشعب في الدولة العثمانية
لقد كانت الملابس التقليدية المذكورة هنا سابقًا هي ملابس الحياة اليومية في تلك البلاد، حيث كانت مقبولة في الشوارع العامة وفي أماكن العمل، وفي المناسبات الاجتماعية، وارتبط بيها الناس لدرجة عدم مفارقتها حتى وإن غادروا بلادهم، حيث كان الزي التقليدي جزءًا لا يتجزأ من الهوية، وأسرع وسيلة للتعبير عن الثقافة التي ينتمي إليها من يرتدي تلك الملابس، كما أنها أفضل العلامات للتعبير عن الاختلاف الذي يميز كل مجموعة عن الأخرى.
لكن حينما نلقي نظرة الآن على صف دراسي في قاعة للمحاضرات في مدينة إسطنبول في تركيا، وقاعة للمحاضرات في بيروت في لبنان، وقاعة أخرى في برلين في ألمانيا، وأخرى في إحدى الولايات المتحدة الأمريكية لن نجد هناك فرقًا كبيرًا بين ما يرتديه الطلاب في تلك القاعات المختلفة على الرغم من الاختلافات الثقافية والجغرافية والسياسية والاقتصادية بينهم.
سنجدهم يرتدون القمصان نفسها، وبناطيل الجينز نفسها، ربما يحملون حقائب من نفس العلامة التجارية أيضًا، سنجد أن الأغلبية يميلون لارتداء الزي الرسمي الغربي في أماكن العمل، البدلة الرسمية للرجل والمرأة مع ربطة العنق وحذاء رسمي لامع، وسنجد أن الأغلبية يعتمدون الزي الغربي لارتدائه في الحياة اليومية والمناسبات الاجتماعية، ليندثر الزي التقليدي شيئًا فشيئًا ولا نراه إلا في المتاحف أو العروض الاستعراضية.
يخبرنا اللباس أفكارًا عديدة عن مرتديه، فهو جزء من الهوية والسلطة والتاريخ، كما يعبر عن أسس تراتبية اجتماعية، وإشارة إلى مدى توافق أو تنافر مرتدي تلك الملابس مع الآخرين، وهو من المظاهر الأولية التي نؤسس حكمنا على الشخص بناءًا عليها، وذلك لأنها تعبير ملموس لاختيارات ذلك الإنسان في حياته ويعبر عن انتمائه بشكل أو بآخر، حينها نُحدد ما إن كنا نتوافق أو نختلف مع ذلك الشخص من خلال ما يرتديه من ملابس.
ولأن للملابس أهمية كبيرة في تحديد الهوية ومدى الارتباط بالتاريخ أو بالأرض، عمد كل من يحاول التأثير على ارتباط الناس بالتاريخ أو بالأرض على تغييرها، فمنعت الجمهورية التركية الحديثة على يد مؤسسها كمال أتاتورك كل ما يتعلق بالزي العثماني وغطاء الرأس للمرأة، واهتم الاستعمار الغربي في الوطن العربي على التأثير المباشر على الزي التقليدي ومحاولة التأثير على مدى ارتباط الناس به رويدًا رويدًا.
“إذا أردنا أن نكون شعبا متمدنًا، فينبغي أن نرتدي ثياب المتمدنين الدولية، اما الطربوش فهو رمز الجهل”!.
مصطفى كمال أتاتورك
حاول المستعمر نقل الذوق الغربي معه إلى الأراضي المحتلة، وتقديم “الزي الغربي” نموذجًا بديلًا للزي التقليدي، استغل فيها التجارة في بعض البلاد، بينما كان فرضًا في بعض البلاد الأخرى، فعلى الرغم من أنه لم يكن هناك استعمارًا في أثناء تكوين الجمهورية التركية إلا أن الجمهورية الحديثة فرضت على الناس عدم ارتداء الزي التقليدي لكي لا يتعرضون للعقوبات، حيث كان ارتداء الطربوش جريمة بعد إنشاء الجمهورية التركية الحديثة.
أتى بعد ذلك دور العولمة، التي ساعدت على نشر العلامات التجارية ذاتها في كل البلاد التي أنشأت مصانع لها فيها، وبدأ الناس يتعرضون للإعلانات في كل مكان وأن الأزياء المباعة في تلك المحلات هي “اللباس الواجب ارتدائه” أو “Dress Code”، ليندثر الزي التقليدي بشكل شبه كلي ويحل محله الزي الغربي الذي يرتديه الأغلبية في كل مكان حول العالم.
هل الزي التقليدي نوع من أنواع المقاومة؟
الزي التقليدي في تونس
لقد حافظت الكثير من البلاد التي عانت من الاستعمار والاحتلال مدة طويلة على تراثها من الزي التقليدي، ليس هذا فحسب بل مازال أهل تلك البلاد يرتدون الزي نفسه في هذه الأيام الحالية، من بين تلك البلاد هي المغرب وتونس والجزائر، حيث تُعد الملحفة لباسًا مرتبطًا بالمرأة الجزائرية، وهو قطعة قماش بيضاء خالية من التطريز تلفها المرأة على جسدها، بالإضافة إلى تغطيها الرأس بقطعة قماش بيضاء كبيرة بحيث لا يظهر منها سوى عينيها، كما ارتبط الزي الأبيض بالديانة الإسلامية كرمز للإسلام والسلام.
على الرغم من تواجد الاستعمار الفرنسي في تلك البلاد إلا أنه لم يستطيع سرقة الزي التقليدي من أهلها ولم يستطع التأثير على الانتماء إليه
كما يوجد هناك “السفساري” وهو لباس الهوية التونسية الذي يمكنك رؤيته في الشوارع إلى اليوم، وهو رداء طويل من الحرير أو القطن تغطي فيه المرأة جسدها من رأسها وحتى قدميها، جاء إلى تونس مع اللاجئين من الأندلس إلى المغرب، كما تتواجد الجبة وهي لباس رجالي فضفاض تُصنع من الحرير ويرتديها الرجل التونسي في الزفاف ويوم عقد القران.
كما تشترك تونس مع المغرب في وجود “البلغة” تشبه الحذاء ولكن من دون خلفية لموضع القدم، وهي مصنوعة من الجلد ويرتديها الناس في الحياة اليومية، كما يتواجد في المغرب بشكل خاص القفطان المغربي المشهور، فهو من أقدم الألبسة التقليدية المغربية ولا يزال متواجدًا إلى اليوم حيث يمكنك رؤيته في المناسبات الاجتماعية حيث لا ترتدي العروس المغربية فستانًا أبيضًا كما هو الحال في كثير من البلاد الأخرى وإنما ترتدي قفطانًا ملونًا ومطرزًا تطريزات تقليدية مختلفة.
يخبرنا اللباس أفكارًا عديدة عن مرتديه، فهو جزء من الهوية والسلطة والتاريخ، كما يعبر عن أسس تراتبية اجتماعية، وإشارة إلى مدى توافق أو تنافر مرتدي تلك الملابس مع الآخرين
على الرغم من تواجد الاستعمار الفرنسي في تلك البلاد إلا أنه لم يستطيع سرقة الزي التقليدي من أهلها ولم يستطع التأثير على الانتماء إليه، فاستمر أهل تلك البلاد في الحفاظ على تراثهم من الملابس إلى يومنا هذا كنوع من أنواع المقاومة والحفاظ على جذور ثقافتهم، كما لم يكونوا الوحيدين، حيث حافظت كل من الهند وباكستان على زيهم التقليدي، حيث يتبادر إلى الذهان فورًا شكل الساري الهندي حينما نذكر المرأة الهندية، أو الكورتا، أو القميص الطويل الفضاض الذي يرتديه الرجل الهندي.
الزي التقليدي في الهند
كانت تلك الملابس علامة مميزة لأهلها تميزهم دون غيرهم، وتسلط الضوء على حفاظهم على ملابسهم التقليدية دون أن تعيقهم عن اللحاق بركب العالم المعاصر أو التكيّف مع نمط الحياة العملية المعاصرة، فيمكن للمرأة المغربية الذهاب لمكان عملها مرتدية اللباس التقليدي، ويمكن للمرأة الهندية العمل وهي مرتدية الساري، لم تؤمن تلك المجتمعات بمحددات للباسها لكي تكون مقبولة مجتمعيًا.
يرى الكثيرون أن الملابس التي يقرر المرء ارتدائها تمنعه من التواصل الجيد مع من يختلف عنه في المظهر، إلا أنه في الواقع يشعر الناس بالخوف من المحافظة على الزي التقليدي وسط مجتمع لا يرتدي الملبس نفسه، وذلك بسبب عدم تقبل الآخرين لأسباب مختلفة من بينها القومية أو العلمانية، ولهذا توصل الناس إلى أن أفضل حل لذلك هو الزي الموحد الواجب ارتدائه، لكي لا يكون المرء غريبًا إذا ارتدى الملابس ذاتها في بلاد مختلفة حول العالم ويكون مستعدًا للتواصل مع من يختلف عنه.
في الواقع لا تكون الملابس هي العقبة الوحيدة للتواصل بعد أن أثبت من يرتدون أزيائهم التقليدية أنها لا تؤثر على تواصلهم وتقبلهم للآخرين، بل تكون المشكلة الحقيقية هي أن خسارة المرء لأجزاء من هويته بشكل تدريجي تجعله أكثر طوعًا وتقبلًا لكل جديد يُفرض عليه، ذلك لأنه لا يجد نموذجًا بديلًا، اللباس كان جزءًا كبيرًا من الصورة الكبيرة التي تشكل الهوية، وإن سقط فهذا يعني أنه من السهل سقوط غيرها.