يفتتح المؤلف عبد الله محمد الغذامي كتابه “المرأة واللغة” بمقولة عبد الحميد الكاتب، الأستاذ الأول للكتابة الفنية عند العرب بأن “خير الكلام ما كان لفظه فحلًا ومعناه بكرًا” وهي العبارة التي تدل على القسمة الثقافية في اللغة بين الرجل الذي احتفظ بقوة اللفظ وبين المرأة التي حصر وجودها في المعنى، وهو القسم الخاضع والموجه من قبل اللفظ، ولا يمكن في أي حال أن يكون المعنى كائن قائم بذاته دون اللفظ.
ويوضح الغذامي أن القسمة الأولى تنقلنا إلى قسمة ثانية أخذ فيها الرجل الكتابة وترك للمرأة الكلام، وهذا يعني أن الرجل أحكم سيطرته على الفكر اللغوي والثقافي، ليكون هو الكاتب والصانع والمنتج للمسائل اللغوية ومنشأ التاريخ، وفي هذه النقطة يقول الغذامي “لو تيسر للمرأة أن تكتب تاريخ الزمان والأحداث وتولت بنفسها صياغة التاريخ ولم يكن ذلك حكرًا على الرجل وحده، إذن لكنا قرأنا تاريخًا مختلفًا عن فاعلات ومؤثرات وصانعات للأحداث، وهنا ستكون الأنوثة قيمة إيجابية مثل الفحولة تمامًا”.
ويضيف متسائلًا: “غير أن الذي حدث هو غياب الأنوثة التام عن التاريخ لأنها غابت عن اللغة وكتابة الثقافة، وتفردت الفحولة باللغة فجاء الزمن مكتوبًا ومسجلًا بالقلم المذكر واللفظ الفحل، وظل الحال على ذلك المنوال، حتى جاء زمن امتلكت فيه المرأة يد الكتابة، وكتبت.. فهل تراها تملك القدرة على تأنيث اللغة أو أنسنتها لتكون للجنسين معًا؟ أم أن اللغة قد بلغت منها الفحولة مبلغًا لا سبيل إلى مدافعته؟”
كان الرجل دومًا هو الراوي وهو المفصح عن حقيقة وصفات وحكايات المرأة، ولكن بعد سنوات عديدة استطاعت المرأة أن تدخل إلى عالم الكتابة لتستكشف بنفسها شروط وقوانين اللغة وتثبت حضورها لغويًا، لكنها تصادمت المرأة في بداية الطريق مع الحواجز الثقافية وأراء العلماء والفلاسفة مثل سقراط وأفلاطون وداروين ونيشه والمعري والعقاد وشوبنهور الذين رأوا في المرأة جسدًا لا عقلًا واعتبروها كائنًا ناقصًا لافتقارها لميزة الذكورة.
الأصل اللغوي ذكوري أم أنثوي؟
يذكر الغذامي في كتابه ما قاله ابن جني عن التذكير والتأنيث في اللغة، وهو أن “تذكير المؤنث واسع جدًا لأنه رد إلى الأصل” وهو ما اعتبره سلب صريح لحق المرأة الطبيعي في التأنيث وتقليل من صفة جوهرية على اعتبار أنها ليست كائنًا وذاتًا فاعلة وإنما مجموعة من الدلائل والصفات.
ويوضح أسباب هذا التعميم بما قالته، الأديبة اللبنانية الفلسطينية، مي زيادة مشيدة بدور الدين في إنصاف المرأة في اللغة، بأن “موقف الدين بوصفه وحيًا منزلًا وبوصفه دين الفطرة يعطي المرأة حقها الطبيعي، ولكن الثقافة بوصفها صناعة بشرية ذكورية تبخس المرأة حقها ذاك وتحيلها إلى كائن ثقافي مستلب، وهذا ما يجعل تاريخ المرأة استشهادًا طويلًا”.
والأمر نفسه بالنسبة إلى المفكرة المصرية بنت الشاطئ التي رأت أن مؤرخي الأدب تعمدوا طمس أدب المرأة العربية في عصورها الماضية وألقوا بآثارها في الظل، وهو ما سمته بالوأد العاطفي والاجتماعي.
عندما تدخل المرأة إلى سوق العمل تلقب بالعضو والمحرر والأستاذ والمحاضر فتلغى عنها صفة الأنوثة، ويتطور هذا التحيز اللغوي عندما تعتبر الفصاحة والأصالة بجعل التذكير الأصل والتأنيث فرعًا مثل قول زوج فلان وليس زوجة فلان
فشلت عديد من الكاتبات على إخراج أنفسهن من مأزق التذكير في اللغة وخلع هذه القيود التي أخفت الملامح الأنثوية عن اللغة، وهن أمثال نوال السعداوي التي كتبت كتاب باسم “الأنثى هي الأصل”، وكأن الكتاب كان ردًا على ابن جني الذي قال بأن التذكير هو الأصل، وفشلت بذلك عندما استخدمت الضمير المذكر مما يجعلها تحيل إلى ذكورية الأصل اللغوي دون أن تشعر.
وبهذا يقول الكاتب أن لم تجد الكتابات مفرًا من أن تصب أنوثتها في قالب الإنسان المذكر لتدخل ذاتها في السياق الذكور للغة، وبهذا تكون مقولة الأنثى هي الأصل على لسان المرأة لتكون خطابًا عائمًا على سطح اللغة، أما ضمير اللغة وباطنها فيظل رجلًا فحلًا.
ويشير الغذامي إلى ارتضاء المرأة بكونها فرعًا أو هامشًا باللغة، ومثال على ذلك، اعتراض نازك الملائكة على عنوان قصيدة الشاعر علي محمود طه “هي وهو: صفحات من حب” وقالت “الترتيب العربي أن يقول “هو وهي” لأن التقديم عندنا لضمير المذكر على ضمير المؤنث وما من ضرورة لتغيير هذا الأسلوب”.
والأمر ينطبق عندما تدخل المرأة إلى سوق العمل وتلقب بالعضو والمحرر والأستاذ والمحاضر فتلغى عنها صفة الأنوثة باعتبار أن الرجال أكثر من النساء في هذا المجال، ويتطور هذا التحيز اللغوي عندما تعتبر الفصاحة والأصالة بجعل التذكير الأصل والتأنيث فرعًا، مثل قول زوج فلان وليس زوجة فلان، والمثير للاهتمام بصورة أكبر، هو الإلغاء التام للمرأة في اللغة الإنجليزية وإدماجها كمحلق لفظي، فلو حذفت كلمة “مان” MAN لما كان للمرأة وجود في اللغة، وبالمقابل، يشكل الرجل التكوين الأساسي في الكلمات التي تدل على الأصل مثل هيومان، ومان كايند، وهو تأكيد على أن الرجل هو المركز.
جمع “المذكر السالم”
يقول المؤلف: يحرم على المرأة والحيوان وغير العاقل أن ينضم إلى هذه القاعدة اللغوية، فهي مقتصرة على المذكر العاقل والخال من تاء التأنيث، وكأنها شائبة من الشوائب، وما يزيد تفسير هذا الشرط اللغوي إجرامًا هو شرح عباس حسن لكلمة “عاقل” المشترط توافرها والتي تعني كل ما يشمل من جنس العاقل كالآدميين والملائكة والأطفال والمجانين، لكنها مع ذلك، ممنوعة على الأنثى، وهو تفضيل بلاغي صريح للجنون والصغر والحيوانية على علامة التأنيث.
طبيعة الظروف سمحت للرجل بقيادة القلم والتعمق اللغوي على حساب التأنيث، بحيث كلما زاد مستواه اللغوي تعمقت معه الذكورة ليصبح التذكير في النهاية هو البلاغة والفصاحة والأصل.
وبالنسبة إلى جمع المؤنث السالم، فيكرر عباس حسن جريمته في إقحام الذكورية في هذه المملكة النسوية، ويقول “يفضل كثير من النحاة الأقدمين تسميته: الجمع بألف وتاء مزيدتين، دون تسميته بجمع المؤنث السالم لأن مفرده قد يكون مذكرًا”.
وذلك يعود لطبيعة الظروف التي سمحت للرجل بقيادة القلم والكتابة والتعمق اللغوي على حساب التأنيث، بحيث كلما زاد مستواه اللغوي تعمقت معه الذكورة ليصبح التذكير في النهاية هو البلاغة والفصاحة والأصل.
كيف ساهمت الثقافة في طرد المرأة من أحضان اللغة؟
بناءً على نظرية باشوفن في تحول المجتمع من نظام الأمومة إلى نظام الأب، وهو تغير الزمن التي كانت فيه القيم النسائية هي السائدة وقائمة على علاقات الرحم والارتباط بالأرض والتصالح مع الطبيعة والقبول بالفطرة، إلى أن جاءت البصمة الذكورية لتقلب هذا النظام رأسًا على عقب وتضيف طابع الصرامة وتفرض قوانينها العقلانية وتشعل نيران الحروب من أجل السيطرة ونيل المطالب، لتكون نتيجته ظهور التفاوت الطبقي والتميز الجنسي وتغليب الفكر الذهني على الحسي، وهو أمر نابع من طبيعة التكوين الجسدي لكلا الجنسين، فالمرأة تملك العلاقة الحسية الفطرية المباشرة بينها وبين عالمها من خلال وظيفة رحمها الذي يحمل ويحبل بالحياة بصورة علنية، ولكن الرجل لا يملك هذه العلاقة الواضحة المحسوسة مع الحياة وسلسلة العرق والتناسل، لذلك سعى الرجل إلى نسب الأطفال إليه وربطهم باسمه ولغته وعلامته، واعتمد على العلامة اللغوية ليقيم علاقة مع النسل من أجل تحقيق الخلود لنفسه.
تحولت المرأة إلى موضوع ثقافي لا فاعل لغوي يكتب ويسجل ويصف ويشهد، ونتيجة لهذه الأدوار التي أرغمت على اقتباسها، راح الرجل يصفها ويكتب حكاياتها، فبالغ في تضخيم جانبها الحسي
هذه السيطرة الكاملة على معاقل اللغة والثقافة والعرف الاجتماعي، جعلت المرأة موضوع ثقافي لا فاعل لغوي يكتب ويسجل ويصف ويشهد، ونتيجة لهذه الأدوار التي أرغمت على اقتباسها، راح الرجل يصفها ويكتب حكاياتها، فبالغ في تضخيم الجانب الحسي للمرأة وصورها على أنها مجرد جسد شبقي ليس له وظيفة سوى إثارة الرجل، وهذا ما كانت تسانده كتابات الرجال الأدباء مثل العقاد الذي قال “إن المرأة خلقت جميلة لسبب واحد هو أن تسعد بها عيون الرجال”.
كما يلفت الكاتب إلى نقطة بالغة الأهمية في تشكيل النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي ينظر إلى المرأة على أنها بضاعة جسدية، وبواسطة الدعايات -التي تديرها أفكار وتوجهات الرجال- وتعتمد على ترويج سلعها بواسطة الجسد المؤنث للمستهلك المذكر، وحتى لو كانت البضاعة نسائية فإنها تروج على أنها أفضل المنتجات التي تجذب الرجل.
التحالفات الثقافية والاقتصادية فككت العقل عن المرأة ونسبته إلى الرجل، لتبقى المرأة أسيرة الجسد وما ينطبق عليه من تسليع وترويج وتعليب ليلائم الأهداف التجارية
وعلاوة على ذلك، التماثيل والمنحوتات النسائية التي صنعها الرجال وأفرطوا في إظهار تفاصيل جسد المرأة وتضخيمها، فبحسب الكاتب، فإن المرأة في فن النحت وصفت على أنها جسدًا يحمل رأسًا صغيرًا فارغًا ومعه أعضاء جنسية مضخمة بصورة مبالغ فيها، وهذا دليل على تغلغل الثقافة الذكورية في مجالات عديدة دون أن تملك المرأة حيلة حيال هذه السلطة التي تلطخ صورتها الإنسانية وتقودها إلى إذلال كيانها علنًا دون وعيها.
وهذه التحالفات الثقافية والاقتصادية فككت العقل عن المرأة ونسبته إلى الرجل، لتبقى المرأة أسيرة الجسد وما ينطبق عليه من تسليع وترويج وتعليب ليلائم الأهداف التجارية ويتناسق مع آراء العلماء الذين اتهموها بالنقص، فانتهى بها الأمر لتكون مجرد أداة رمزية للتوظيف والترميز والتحميل الدلالي الذي يدور دائمًا حول مركز واحد وهو الرجل