سارع التحالف اليميني الحاكم في “إسرائيل” بزعامة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، إلى استثمار محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في الجدال والاستقطاب الداخلي بالدولة العبرية إلى أبعد مدى، والتحذير من احتمال تكرارها ضد نتنياهو “بتوصيفه ضحية” من معارضيه اليساريين والإيديولوجيين والفوضويين، وهي التعبيرات المستخدمة ضد معارضي الرئيس السابق في أمريكا.
بداية، لا يخفي نتنياهو – وتحالفه الحاكم – ميله إلى دونالد ترامب والحزب الجمهوري في أمريكا، والقطيعة شبه التامة بالفترة الأخيرة مع منافسه الآخر الحزب الديمقراطي ومؤسساته ورموزه، الأمر الذي أثار ولا يزال انتقادات واسعة بالدولة العبرية إثر تحولها إلى قضية خلافية بعدما كانت محل إجماع في الساحة السياسية والحزبية الأمريكية.
نتنياهو اليميني المحافظ كان قد ترعرع أمريكيًا – عاش هناك لفترة طويلة – في بيئة متماهية تمامًا مع الحزب الجمهوري – جارة طفولته كانت وزيرة الخارجية السابقة كوندليزا رايس – وقيل عنه دومًا بأوساط الحزب إنه لو كان أمريكيًا لنال ترشيح الحزب للانتخابات الرئاسية وفاز بها مرتين دون معاناة كبيرة.
لكن هذا حصل عندما كان نتنياهو متماهيًا مع التيار المركزي اليميني المحافظ بالحزب الجمهوري، حتى بالنسخة المحدثة – زمن جورج بوش الابن – مطلع الألفية الراهنة.
بالسنوات الأخيرة تغيّر نتنياهو، واتخذ مسارًا مختلفًا تمامًا وبات أقرب الى الشهب المدوّي المحترق تمامًا كالملك جورج الخامس في بريطانيا، ومتماهيًا تمامًا مع اليمين المتطرف في أمريكا في تعبير عن التحولات التي طرأت على مسيرته خلال العقد الأخير وتنقله من التطرف إلى أقصى التطرف.
خلال هذه الفترة تماثل نتنياهو مع ترامب الشعبوي الذي نجح في الهيمنة على الحزب الجمهوري المحافظ وطوّعه لصالحه وتصوراته ورؤاه الانعزالية الفظة والمتطرفة، مع تحجيم أو تهميش التيار المركزي والتقليدي بالحزب الذي كان يمثله نائب الرئيس السابق مايك بنس.
دعم اليمين
هنا لا بد من التذكير أن “إسرائيل” وحدها دعمت ولو بغالبية غير كبيرة في تعبير عن انزياحها نحو اليمين، الرئيس السابق جورج بوش الابن زمن غزو العراق والمحافظين الجدد، كما دعمت ترامب أيضًا بينما كان العالم يقول لا للاثنين، مع الانتباه بالطبع إلى الفرق بين اليمينى المحافظ بوش والمنفلت ترامب، بينما نشهد الآن دعمًا وتأييدًا لهذا الأخير والحزب الجمهوري، وانتقادًا لخصومه مع تمنيات صريحة بفوزه، رغم ما فعله الرئيس الديمقراطي جو بايدن للدولة العبرية ودعمها والتغطية على ارتكاب جرائم حرب وإبادة بحق غزة وأهلها.
وبالعودة إلى السياق الإسرائيلي، وفيما يتعلق بالبعد الأخير، ومع دعوة ترامب أنصاره إلى اقتحام الكونغرس احتجاجًا على نتائج الانتخابات الرئاسية يناير/كانون الثاني 2021 تعالت تحذيرات مماثلة في “إسرائيل” من احتمال أن يقوم جمهور نتنياهو وحلفائه بالأمر نفسه – اقتحام الكنيست – في حال خسارته للانتخابات التي كانت مقررة ربيع ذلك العام، وجرى فعلًا اتخاذ احتياطات أمنية واسعة لمواجهة هذا الاحتمال وإجهاضه في مهده.
رغم هزيمة نتنياهو وحلفائه بالانتخابات، فقد كان ثمة يقين لديهم من حتمية سقوط حكومة الرؤوس الثلاثة لخصوم نتنياهو – نفتالي بينيت ويئير ليبيد وبيني غنتس – وفعلًا جرى الذهاب إلى انتخابات مبكرة أخرى ربيع العام 2022 أعادت نتنياهو وحلفاءه الأكثر تطرفًا للسلطة، ورغم أنهم حازوا عدد أصوات أقل من منافسيهم تمامًا كما كان الحال مع ترامب الفائز في مواجهة منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون بانتخابات العام 2016.
طوال العامين الماضيين – بعد انتخابات 2022 – تصاعدت وتفاقمت حدة الاستقطاب في “إسرائيل” حول خطة الإصلاح – الانقلاب القضائي التي تبناها نتنياهو وحلفاؤه وخوضهم المعركة – كما فعل ترامب – ضد المؤسسات الثلاثة – الأمنية والقضائية والإعلامية – والدولة العميقة بـ”إسرائيل” وسعيهم لإنكار وهدم معالم وأسس الديمقراطية، مع التذكير هنا بالأسطورة أو الأكذوبة القائلة بأن “إسرائيل” تمثل قاعدة متقدمة للحضارة والقيم الديمقراطية الغربية بصحراء الشرق الأوسط القاحلة.
بعد طوفان الأقصى وحرب غزة تصرفت “إسرائيل” بذهنية القبيلة وتوحدت للانتقام من غزة وأهلها، وإيقاع نكبة بها قبل أن يعود الاستقطاب والخلافات الحادة بالفترة الأخيرة، خاصة مع انتهاء الحرب كما شهدناها خلال الشهور العشر الماضية وقرب الانتقال إلى المرحلة الثالثة منها، لجهة تنفيذ غارات، وقتال أقل حدة وكثافة بعدد أقل من الجنود والانكفاء إلى المحاور المحتلة – نتسريم وفيلادلفيا – أو حتى المنطقة العازلة الحدودية بين غزة والأراضي المحتلة عام 1948.
المرحلة الراهنة تشهد تفاقم وتأجيج الاستقطاب كما عودة الاحتقان للشارع، وتجدد التظاهرات المطالبة بصفقة تبادل لاستعادة الأسرى وتشكيل لجنة تحقيق رسمية في إخفاقات الطوفان وانهيار خطوط الدفاع أمام المقاومين ومجريات الحرب بشكل عام – قبل وفي أثناء وبعد -، وإجراء انتخابات مبكرة للفصل أداء عمل القيادة الحالية، واختيار قيادة أخرى جديدة، بينما تتنبأ الاستطلاعات بهزيمة حتمية ومدوية لنتنياهو وحلفائه، حيث ينالوا 45 مقابل 65 مقعدًا لخصومهم و10 للكتل والنواب العرب من أصل 120 تمثل عدد مقاعد البرلمان الإسرائيلي.
استنساخ الفكرة
في انعكاس للاستقطاب الداخلي بين معسكري نتنياهو ومعارضيه، تفجرت كذلك خلافات مستحكمة حول اليوم التالي بغزة، واتهامات لتحالف اليمين المتطرف الحاكم بأنه لا يمانع التضحية بدم الجنود من أجل البحث عن انتصار مطلق – وهمي – كما يردد نتنياهو للبقاء في السلطة والتهرب من الانتخابات ولجنة التحقيق، واستئناف جلسات محاكمته المقررة نهاية العام بعدما فشل في تأجيلها لسنة تقريبًا، أي إلى نهاية العام القادم.
في السياق نفسه جرى إطلاق اتهامات لنتنياهو بتفضيل مصالحه الشخصية الحزبية والسياسية على المصالح العامة، ما تسبب باحتقان كبير وتفاقم حالة الاستقطاب الحادة أصلًا قبل الحرب، كما تعالت تحذيرات من أحداث عنف واعتداءات سياسية، مع التذكير بالاعتداء على المتظاهرين المعارضين من جمهور نتنياهو وحلفائه الخلاصيين قبل الحرب وحتى بعدها.
إذن مع عودة التظاهرات المعارضة والانتقادات لنتنياهو وتصرفات حلفائه، كانت هناك تحذيرات من العنف الجسدي بحقهم، وعندما وقعت محاولة اغتيال ترامب سعى نتنياهو وحلفاؤه إلى استغلالها لأبعد مستوى ممكن، فعمد رئيس الوزراء الإسرائيلي للتقرب من ترامب وإظهار التعاطف الشخصي وحتى السياسي معه، بينما تحدث ابنه يئير المقيم بأمريكا عن مواجهة والده نفس الأمر ممن أسماهم يساريين وأيديولوجيين ومتطرفين وفوضيين.
وفي سياق التحذير من التحريض وتكرار الحدث في “إسرائيل”، انعقدت جلسة لافتة لمجلس الوزراء مطلع الأسبوع الجاري، ركزت على هذا الملف مع نقاش استغرق ساعتين، وتعرضت الحكومة للسخرية والانتقاد من المعارضة، حيث شهدت الجلسة عرض ملف كامل – إنفوغراف مع فيديوهات – لما وصفته بالتحريض والتهديدات بحق نتنياهو وعائلته، وخلالها انفلت المتطرفون من حزبه – الليكود – والأحزاب اليمينية المتطرفة المتحالفة معه وطالت وتوزعت اتهاماتهم باتجاهات عدة لتطال المستشارة القضائية للحكومة والمؤسسة العدلية في استنساخ واضح لخطاب لترامب، كما جرى توجيه اتهامات للأجهزة الأمنية “اليسارية” ووسائل الإعلام بالتقاعس والانحياز لجانب المتظاهرين والتغاضي عن التهديدات ضد نتنياهو وعائلته.
وصف زعيم المعارضة ليبيد، نتنياهو بالمتباكي والجبان، مع التذكير بصمته عن تهديدات ضد ليبد ونفتالى وبينيت وعائلاتهم، وأنه لم يخصص ساعتين لنقاش مصير الأسرى ولا حتى للقاء عائلاتهم، ولا لقضايا مهمة، ولا لتشكيل لجنة تحقيق للتمعن في اليوم التالي للحرب المرتبط بنظرة “إسرائيل” لنفسها واستخلاصها العبر الصحيحة من الطوفان والحرب.
في كل الأحوال يبدو الاستقطاب جديًا في “إسرائيل” وثمة تحذيرات متجددة من اغتيال سياسي وتذكير باغتيال رئيس الوزراء السابق إسحق رابين رغم اختلاف الظروف، حيث اتهم نتنياهو واليمين بالتحريض ضده ووصل الحديث حتى إلى احتمال اندلاع حرب أهلية زرعت بذورها منذ تأسيس الدولة العبرية ويراها كثيرون حتمية سواء بوقوع اغتيال أو دونه في ظل التباين العميق حول هوية الدولة المستحدثة نفسها وتوازن القوى فيها.