نتيجة للخصوصية الموريتانية المتمثلة في موقعها الجغرافي البعيد عن مركز الصراع في الشرق الأوسط أو ما يسمى بـ”دول الطوق”، وبوصفها دولة عربية ذات مكونات عرقية متنوعة من العرب والزنوج والبربر، ولكونها أيضًا تمثل همزة وصل بين العرب وإفريقيا، نتيجة لتلك العوامل وغيرها ظل حضور موريتانيا وتجاربها السياسية والنقابية في الإعلام العربي ضعيفًا إلى وقت قريب.
ومن تلك التجارب التي ظلت غائبة عن الإعلام العربي، التجربة الطلابية الموريتانية، ولكن الكتابة عن هذه التجربة ليس أمرًا سهلاً في بيئة لم ترسخ فيها المؤسسات بعد، ويصعب الوصول فيها للمصادر والوثائق، وتعتمد على الروايات الشفوية غالبًا، اللهم إلا ما كان نتفًا من المقالات والوثائق القليلة التي تحتفظ بها بعض المؤسسات، بالإضافة لضعف الأرشيف وعدم وفرته بالقدر المطلوب، ورغم ذلك كله فإننا سنحاول إعطاء صورة عن هذه الحركة الطلابية وواقعها اليوم.
تاريخ الحركة الطلابية الموريتانية ونشأتها
لقد مر تاريخ الحركة الطلابية الموريتانية بمرحلتين أساسيتين، نقف عند أبرز معالمهما باختصار شديد، محاولين أن نعطي صورة عن كل مرحلة وما يميزها من الخصائص، لندلف بعد ذلك إلى أبرز أدوار هذه الحركة في الحياة السياسية العامة وتأثيراتها.
خاض هذا الاتحاد العديد من الإضرابات التي كادت أن تشل الحركة التعليمية في البلد قبل أن يدخل منعطفًا حاسمًا سنة 1975 بإدماجه في المجلس الأعلى للشباب التابع لحزب الشعب الحاكم حينها
المرحلة الأولى: من سنة 1960 إلى سنة 2000، كان أول ظهور للحركة الطلابية والتلاميذية الموريتانية مع الاستقلال سنة 1960 في إطار الاتحاد الوطني لطلبة الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وسرعان ما ستؤدي قوة التجاذب العرقي بين القوميين العرب والقوميين الزنوج إلى تصدع الهيئة الوليدة، فانشق عنها الزنوج الذين انتظروا سنتين ليتسنى لهم تأسيس إطارهم الخاص الذي حمل اسم “الرابطة الطلابية للمتدربين الموريتانيين” سنة 1963.
ومع تصاعد المد الفكري اليساري وتراجع القومي الذي كان يجتاح البلاد بفعل عوامل داخلية وأخرى خارجية، جاء تأسيس الحركة الطلابية الديمقراطية ذات المرجعية اليسارية، فسعت إلى توحيد الساحة الطلابية إعدادًا لمنازلة نظام المختار ولد داده (أول رئيس لموريتانيا)، وتم لها مرادها بتأسيس الاتحاد العام للطلاب والمتدربين الموريتانيين سنة 1971، ولا تزال بعض الفروع تحمل اسمه في الخارج (الجزائر والمغرب) .
طالب موريتاني يحتج على زيارة الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو لموريتانيا موريتانيا عام 1971
خاض هذا الاتحاد العديد من الإضرابات التي كادت أن تشل الحركة التعليمية في البلد قبل أن يدخل منعطفًا حاسمًا سنة 1975 بإدماجه في المجلس الأعلى للشباب التابع لحزب الشعب الحاكم حينها، بعد إفراغ الحركة الوطنية الديمقراطية من مضمونها بعد أن تحرك النظام بطريقة التفافية وحقق لها أغلب المطالب عن طريق الحوار والتفاوض.
دخلت الحركة الطلابية الموريتانية في سلسلة من الإضرابات: (سنة 1988 و1991 و1992 و1997 و1998) وفي كل المؤسسات تقريبًا، انتهى بعضها بتحقيق المطالب الخدمية
ثم بعد ذلك جرت أحداث كثيرة غيرت ملامح المشهد السياسي والنقابي في البلاد، ففي بداية الثمانينيات في عهد الرئيس محمد خونا ولد هيداله، أُسس اتحاد جديد شهد سيطرة القوميين بشقيهم العرب والزنوج في شكل تحالف سنة 1982 انفجر بعد أربع سنوات في المؤتمر الثاني 1986 انفجارًا اتخذته السلطة ذريعة لسحب الترخيص القانوني ووضع حد للعمل الطلابي “المرخص” لمدة عشرين سنة أو تزيد.
دخلت الحركة الطلابية الموريتانية في سلسلة من الإضرابات: (سنة 1988 و1991 و1992 و1997 و1998) وفي كل المؤسسات تقريبًا، انتهى بعضها بتحقيق المطالب الخدمية، وأُنهي الكثير منها بالقمع والعنف والاعتقال والطرد من الدراسة، بعدها عمدت إدارة المؤسسات التعليمية في البلاد إلى خلق إطار سمته مندوبية الطلاب، تشرع بموجبه التحكم في الساحة الطلابية، وتأرجح تعامل الطلاب مع هذا الإطار بين الرفض المطلق والقبول الحذر، وهذا مهد للدخول في مرحلة أخرى جديدة بدأت سنة 2000 واستمرت لمدة 6 سنوات شهدت فيها الساحة الجامعية أحداثًا ساخنة ومواجهات عنيفة، في نهاية حكم الرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع .
شهدت هذه المرحلة العديد من المواجهات والإنجازات والإخفاقات، كان من أشهرها إضراب الجوع الذي أجبر السلطات على الاستجابة لمطالب الاتحاد في عام 2006
المرحلة الثانية: من عام 2000 وحتى 2010، ونعني بها ما بعد تأسيس الاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا، ففي 13 من مايو 2000 انعقدت أول جمعية تأسيسية للاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا بعد أربعة أشهر من الإعلان العلني وكان إعلان المولود الجديد محل إجماع من أطياف ومكونات الساحة الفكرية والسياسية باستثناء الزنوج الذين انسحبوا من الجمع العام عازفين عن المشاركة في هيئات الاتحاد، انطلقت سفينة الاتحاد ليستكمل الشروط القانونية دون أن يحصل على ترخيص رسمي.
ويعود ذلك حينها لموقف نظام العقيد معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع من القوى المشكلة للاتحاد خصوصًا الإسلاميين والقوميين العرب ولا تزال آثار هذا الموقف باقية إلى اليوم رغم سقوط نظام العقيد.
ومع ذلك فقد قطع هذا الاتحاد أشواطًا كبيرة في التأسيس والتمدد، ووصلت مؤتمراته إلى ما يقارب عشر مؤتمرات، وبلغ عدد منتسبيه لهذه السنة نحو 10 آلاف منتسب في مؤسسات التعليم العالي الموريتاني، كما يمتلك حاليًّا 11 فرعًا في مختلف الدول التي توجد فيها جاليات طلابية موريتانية.
شهدت هذه المرحلة العديد من المواجهات والإنجازات والإخفاقات، كان من أشهرها إضراب الجوع الذي أجبر السلطات على الاستجابة لمطالب الاتحاد عام 2006.
كان أبرز تلك الأحداث الحملة النضالية التي خاضها الاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا ضد إغلاق المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، ليرغم السلطات على التراجع عن قرارها بعد أشهر من المظاهرات والاعتصامات
المرحلة الثالثة: نضيف إلى المرحلتين السابقتين المرحلة الثالثة وهي التي تبدأ من 2010 وحتى اليوم، في هذه المرحلة شهدت الساحة الجامعية حضورًا لافتًا للاتحادات الطلابية، وتنافسًا حادًا بينها واستقطابًا سياسيًا وعرقيًا كاد أن يعصف بالعمل النقابي، ففي السنة الموالية 2011 كانت الانتخابات الطلابية التي لعبت بها أيادي السلطة وحرضت اتحاد الطلبة الزنوج ضد الاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا المحسوب على الإسلاميين، فتعرضت مقرات الاتحاد الوطني للحرق، وكادت المواجهة أن تتطور إلى مواجهات عرقية لولا ضبط النفس الذي واجه به الطلبة الإسلاميون هذا الهجوم.
في السنة الموالية بدأت أحداث المعهد العالي وجامعة أنواكشوط وبدأت رقعة الاحتجاجات تتسع في موريتانيا وتصل للمدارس وظهرت حركة صوت التلميذ، وبدأت شرائح مجتمعية تطالب بحقوقها، في ظل الجو العام المشحون بأحداث الربيع العربي.
وكان أبرز تلك الأحداث الحملة النضالية التي خاضها الاتحاد الوطني لطلبة موريتانيا ضد إغلاق المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، ليرغم السلطات على التراجع عن قرارها بعد أشهر من المظاهرات والاعتصامات.
مشاهد الغضب الطلابي في مواجهات المعهد العالي
أبرز أدوارها في الحياة السياسية العامة وتأثيراتها
لقد ظلت الحركة الطلابية الموريتانية حاضرة في المشهد النقابي والسياسي طوال مسيرتها التاريخية، بدءًا من إرهاصات التأسيس ومرورًا بانتفاضة الخبز في التسعينيات، ومواجهة التطبيع مع الكيان الصهيوني وإفشال زيارة وزير الخارجية الصهيوني سيلفان شالوم وصولاً إلى أحداث المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية 2012 والحراك الاحتجاجي الذي تزامن مع انطلاق الربيع العربي وموجة الاحتجاجات الواسعة التي اجتاحت موريتانيا في السنوات السبعة الماضية.
في نهاية تسعينيات القرن الماضي لجأ الرئيس معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع إلى إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني، كمتنفس للمشاكل التي يواجهها داخليًا وخارجيًا، هذه العلاقة أثارت حفيظة الشعب الموريتاني وواجهها بالرفض، وكان في طليعة الرفض والتصدي لها الجيل الشبابي والطلابي في مؤسسات التعليم في الفترة ما بين 2000 و2010 سنة إغلاق السفارة الإسرائيلية في موريتانيا في عهد الرئيس الحاليّ محمد ولد عبد العزيز.
كان من أبرز أدوار الحركة الطلابية الدور الذي قامت به الاتحادات والمبادرات الطلابية (المبادرة الطلابية لمناهضة الاختراق الصهيوني) في إفشال زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم 2005
وقد كان من أبرز أدوار الحركة الطلابية الدور الذي قامت به الاتحادات والمبادرات الطلابية (المبادرة الطلابية لمناهضة الاختراق الصهيوني) في إفشال زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم 2005، حيث أشعلوا مظاهرات عارمة في العاصمة أنواكشوط، فخرجت الحشود يومها من المدارس والجامعات، واشتبكوا مع الشرطة وأشعلوا إطارات السيارات، مما سبب إحراجًا وإزعاجًا كبيرًا لنظام ولد الطايع الأمر الذي أربك جدول الزيارة وأدى إلى تسريع مغادرة شالوم للأراضي الموريتانية .
أبرز وجوه الحركة الطلابية تاريخيًا
من الصعب جدًا ذكر أسماء وجوه بعينها، فمن الأمور التي تميز الحركة الطلابية عادة طغيان روح الفريق الذي تختفي داخله الرموز فلا تكاد تظهر إلا في فترات قليلة ثم تختفي من واجهة الأحداث بعد مدة قصيرة بسبب المد الطلابي الجارف، فمع كل جيل جديد وإضراب جديد تظهر رموز وتختفي أخرى؛ لتترك مكانها في الساحة لفرسان جدد، ولكن كثيرًا من الرموز الطلابية عادة ما تتصدر المشهد الإعلامي والنضالي، بأدائها ومواقعها التي تتجه إليها بعد المرحلة الدراسية، سياسية كانت أو اجتماعية.
وإذا كنا سنتحدث عن الجيل القديم فإنا سنتحدث عن محمد جميل منصور القيادي الإسلامي البارز رئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية سابقًا، ومصطفى ولد بدر الدين القيادي اليساري المعروف، وسيد محمد ولد محم رئيس الحزب الحاكم حاليًّا في موريتانيا، بالإضافة إلى القيادي القومي الدكتور عبد السلام ولد حرمة رئيس حزب الصواب، فأغلب قيادات الصف الأول في المعارضة والأغلبية الحاكمة خريجو مدرسة الحركة الطلابية الموريتانية.
أين الحراك الطلابي اليوم؟ وما واقعه؟
تواجه الحركة الطلابية في موريتانيا اليوم مشاكل عديدة على المستوى الدخلي والخارجي، حيث أن المستوى الداخلي يتمثل ذلك في كثرة اللافتات وانشغال الاتحادات بالصراع البيني، وعزوف الطلاب عن العمل النقابي، وهبوب رياح اليأس بين أوساط بعض الأجيال الطلابية الجديدة، بالاضافة إلى ضعف التوريث للخبرات النقابية والقيادية.
أما المستوى الخارجي فيتمثل في تعنت الإداراة وإصرار السلطة على التراجع عن المكتسبات والتنصل من الحقوق والواجبات، ومواجهة المطالب بالقمع المستمر ولا أدل على ذلك من (أزمة المنح) المستمرة منذ ثلاث سنوات ! بالإضافة إلى محاولة إفراغ النضال من قيمته ووصفه بالسياسي، وإيجاد جيوب طلابية تدعي الحديث باسم الطلاب وحقوقهم وهي لسان السلطة الفصيح وأداتها الطيعة.
ومهما قيل عن واقع الحراك الطلابي وما يواجهه من قمع وعنف وتعنت من السلطة، وما يعتريه من تذبذب في المؤشر، صعودًا وهبوطًا، وما يشهده من مد وجزر، فإن مستقبل المجتمع والدولة، مربوط بحيوية الحركة الطلابية وقدرتها على صنع التغيير والإصرار على صون المكتسبات وانتزاع الحقوق، فهذا دورها المنتظر دائمًا ولن يقوم به غيرها إن لم تقم به.