ترجمة وتحرير: نون بوست
الكتاب: فيليب داجان، وسيدريك بيترالونغا.
استقبل إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه نخبة من مديري المتاحف الباريسية في 13 من آذار/مارس ضمن مأدبة فاخرة. وكان على قائمة الطعام، طبق من الرافيولي مع الكبد النباتي إضافة إلى طبق شرائح محار الإسكالوب “كارباتشيو دو سان جاك” مع حبات الزيتون الأسود مقدمة في أواني خزفية من سيفر. وقد اجتمع كل المدعوين حول المائدة محيطين برئيس الدولة وزوجته، بريجيت، تحت السقف الذهبي لقاعة. وقد كان من بين الحاضرين مدير متحف اللوفر، جان لوك مارتينيز، ومدير متحف برانلي، ستيفان مارتن، ومدير متحف أورسيه، لورانس دي كار، ومدير مركز بومبيدو، سيرج لاسفيني، إضافة إلى كل من مديرة متحف غيميه، صوفي مكاريو، ومدير متحف بيكاسو، لوران لو بون. كما حضر اللقاء، أيضا، مستشارة نيكولا ساركوزي السابقة، كاترين بيغار، التي أضحت رئيسة الهيئة العامة لقصر فرساي، والتي جلست على يسار الرئيس الفرنسي.
لم يدعو إيمانويل ماكرون ضيوفه لمشاركته فقط في مأدبة غداء جماعي، بل كان يرنو إلى جعلهم في خدمة مشروع “القوة الناعمة” الذي يتطلع إلى تطويره، الأمر الذي من شأنه أن يزعزع الثوابت التي اعتادوا عليها. وقد أبدى وزير الاقتصاد السابق، الذي يراقب مبادرة الرئيس وكان يتتبع سابقا مبادرة الجنرال ديغول، مدى اقتناعه بهذه المبادرة، مُحيلا إلى أن الثقافة لديها “ميزة تنافسية” ضمن المنافسة العالمية وسيكون من الغباء عدم الاهتمام بالثقافة. وشدد المصدر ذاته على أن “الثقافة يمكن أن يكون لها تأثير يتجاوز موقعها الاقتصادي والجيوسياسي، ويجب أن نبتدع قواعد جديدة لتعزيز النفوذ الدولي، بحيث تكون الثقافة جزءًا لا يتجزأ منها”.
تعتبر فكرة الاستعانة بالتراث لتعزيز مسارات الدبلوماسية مبادرة غير جديدة. فخلال سنة 1963، اصطحب أندريه مالرو معه لوحة الموناليزا إلى الولايات المتحدة بطلب من كينيدي وزوجته. وخلال سنة 2010، أعاد نيكولا ساركوزي إلى كوريا الجنوبية قرابة 297 مخطوطة ملكية تعود للقرن التاسع عشر. وعلى الرغم من الشعور بالاستياء الذي طغى على المكتبة الوطنية الفرنسية في ذلك الوقت، إلا أنها قبلت بالأمر الواقع.
أوضح أحد المستشارين، أن “رئيس الجمهورية يرغب في أن يجسد العلاقات الدبلوماسية انطلاقا من التاريخ العميق
من جهته، أكد الرئيس التنفيذي لمتحف اللوفر، جان لوك مارتينيز، قائلا” “أرى قدرا كبيرا من الاستمرارية على مستوى الدبلوماسية الثقافية لفرنسا”. وقد تطرق مارتينيز إلى متحف اللوفر في أبو ظبي “الذي جذب اهتمام جميع الرؤساء انطلاقا من جاك شيراك”. كما تحرك فرانسوا هولاند بدوره في إطار منظمة اليونسكو وضمن مجموعة الدول الصناعية السبع للدفاع عن تراث البلدان التي تخوض حروبا، “الدور الذي واصل ماكرون الاضطلاع به”.
في قصر الإليزيه، من الجلي أنه سيتم تبني “نهج جديد”. وفي هذا الشأن، أوضح أحد المستشارين، أن “رئيس الجمهورية يرغب في أن يجسد العلاقات الدبلوماسية انطلاقا من التاريخ العميق. ففي الواقع، يمكن اعتماد الثقافة لربط جسور التواصل مع بقية الدول، على أن لا يكون سياسيا بالضرورة وإنما إنسانيا”. وقد انطلق إيمانويل ماكرون في العمل على الجانب التطبيقي لهذا المشروع. وخلال قمة فرنسية بريطانية عقدت يوم 18 كانون الثاني/يناير، عبر رئيس الجمهورية عن نيته في إعارة “نسيج بايو” إلى المملكة المتحدة إلى غاية سنة 2022. ويبلغ طول هذا النسيج حوالي 68 مترا. وقد طرز عليه خلال القرن الحادي عشر صورة لغزو إنجلترا من قبل ويليام الفاتح فيما يطلق عليه اسم “موقعة هاستنجز” سنة 1066.
من جهته، أفاد عضو في الخلية الدبلوماسية في الإليزيه، أن هذه الخطوة “تعد بادرة رمزية، في محاولة لتوجيه رسالة للمملكة المتحدة مفادها أنه على الرغم من البريكسيت، لا تزال علاقاتنا الثنائية قائمة”. في الأثناء، يبدو أن الحكومة الفرنسية لا تلقي بالا لحقيقة أن هذا النسيج لم يغادر فرنسا منذ 950 سنة، في حين تنتاب العديد من المختصين بعض المخاوف بشأن إمكانية الإضرار بحالته.
يخطط رئيس الجمهورية إلى تنظيم معرض متنقل للأعمال الفنية الرمزية التي تعكس الثقافة الأوروبية
تنظيم معرض متنقل
أعلن قصر الإليزيه أنه من المنتظر أن تكون هذه الإعارة مصحوبة بتحف فنية أخرى. وقرر إيمانويل ماكرون، الذي عقد العزم على إعادة إحياء الروابط بين الأوروبيين، على تنظيم عملية واسعة لتداول التحف الفنية الرمزية التي تعكس هوية القارة العجوز. وقد أورد مصدر مقرب من الإليزيه، أنه “لم نخلق الشعور بالانتماء الأوروبي من خلال الاقتصاد أو الأمن. بل على العكس تماما، حيث تعد الثقافة جزءا لا يتجزأ من مجتمعنا المشترك. ويريد رئيس الجمهورية إعادة إحياء البعد الثقافي وجعله في مركز التكامل الأوروبي”.
بشكل فعلي، يخطط رئيس الجمهورية إلى تنظيم معرض متنقل للأعمال الفنية الرمزية التي تعكس الثقافة الأوروبية، في حين يعتزم عقد هذا المعرض في مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي. ومن المقرر أن يتم تعيين بعثة في وقت قصير لمناقشة هذه الخطوة مع الشركاء الأوروبيين، الذين لن يتم الإعلان عنهم بشكل عفوي. وأورد المصدر المقرب من الإليزيه، أن “هذا الأمر سيكون بمثابة وسيلة لإعادة إحياء الشعور بالانتماء الأوروبي، وهو في حد ذاته إستراتيجية سياسية مقنعة”. ولسائل أن يسأل، أي أعمال فنية يمكن أن يتم نقلها؟ لوحة غرنيكا للرسام بيكاسو، التي يرفض الإسبان مجرد نقلها خارج حدود بلادهم لأنها ترمز لوحدتهم؟ ويحيل هذا الأمر إلى أن تحديد ما هو “أوروبي” أمر حساس للغاية.
سيكون من الصعب اليوم التمسك بقاعدة مشتركة تجمع بين التراث اليوناني الروماني والمسيحي، لأن ذلك سيستثني أولئك الذين يعيشون الآن في أوروبا والذين لا ترتبط ثقافتهم الخاصة بالتراث اليوناني الروماني الكلاسيكي أو المسيحي، مع العلم أن عدد هؤلاء الأفراد كبير. في الأثناء، لا يعتمد إيمانويل ماكرون فقط على استخدام مجموعة الأعمال الفنية الوطنية، بل يعتمد أيضًا على التراث المعماري. فبعد فترة وجيزة من انتخابه، استقبل الرئيس الفرنسي نظيره الروسي فلاديمير بوتين في قصر فرساي الذي يحتوي على معرض مخصص للقيصر بطرس الأكبر، الذي أجرى زيارة مشابهة إلى فرنسا منذ ثلاثة قرون.
قرر إيمانويل ماكرون تجديد “قصر فيليه كوتيريه” (في إقليم أن) الذي شيده فرانسوا الأول خلال القرن السادس عشر، ليجعل منه مكانا لترويج الفرانكفونية
أراد ماكرون من وراء استدعاء بوتين إلى فرساي أن يؤكد للرئيس الروسي على أن العلاقات بين البلدين تعد عريقة ولا يمكن أن توقفها تقلبات الحاضر. من جانبه، ذكر مستشار فرنسي أن “اجتماعات العمل تواصلت لستة ساعات بين الدبلوماسيين، ولم تكن هذه الاجتماعات لتدوم كل هذا الوقت إذا تم تنظيمها في باريس وليس في فرساي”.
في الثامن من نيسان/ أبريل، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في إطار زيارة خاصة إلى معرض ديلاكروا في متحف اللوفر، ثم تناولا طعام العشاء في “مقهى ريشيليو” الذي يطل على فناء نابليون وهرم اللوفر، تحديدا حيث احتفل ماكرون بفوزه بالانتخابات في السابع من أيار/ مايو من سنة 2017. يعد هذا المكان رمزيا بالنسبة لماكرون، لذلك احتضن لقاءه بالمسؤول السعودي الذي أصبح شخصية مركزية في الشرق الأوسط. كما ذكر مصدر مقرب من الإليزيه “أن ماكرون أراد أيضا “تأسيس علاقة شخصية مع ضيفه السعودي”.
بالإضافة إلى ذلك، تم تنظيم لقاءات في معالم فنية أخرى من أبرزها قصر “لا سيل سان كلو” (في إقليم الإيفلين) الذي تمتلكه وزارة الخارجية الفرنسية، الذي احتضن القمة الليبية التي عقدت الصيف الماضي. كما احتضن هذا القصر خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر لقاء حول مكافحة الإرهاب في دول الساحل الأفريقي بحضور أنجيلا ميركل ورؤساء خمس دول أفريقية.
قرر إيمانويل ماكرون تجديد “قصر فيليه كوتيريه” (في إقليم أن) الذي شيده فرانسوا الأول خلال القرن السادس عشر، ليجعل منه مكانا لترويج الفرانكفونية. وفي هذا السياق، صرح مصدر مقرب من الإليزيه أن “هذه القصور تشارك في إشعاع البلاد”. كما أفاد رئيس الجمهورية الفرنسية بأنه “يجب أن نأتي ببوليوود إلى فرساي أو شامبور…” حيث يرى ماكرون أن فرنسا لا تستغل تراثها بالشكل الكافي.
يبدو أن المتاحف متحمسة بدورها لأي شكل من أشكال التعاون العلمي، على غرار تبادل الحفريات الأثرية
مخاطر تهدد الأعمال الفنية
أعلن مديرو المتاحف رسميا عن إنصاتهم لمطالب الرئيس. ومن جهتها، أكدت مديرة متحف” دو كلوني” في باريس، إليزابيت تابوريه-ديلاييه، “نحن لسنا سوى حراس للأعمال الفنية التي تعود إلى الدولة، أما نقلها خارج البلاد لكي تراها الجماهير التي لا يمكنها السفر لفرنسا لرؤيتها، فإنه يعزز من إشعاع البلاد”. وفي الواقع، لقد وافقت تابوريه-ديلاييه شخصيا على إعارة ست قطع من قماش النجود يحمل صورة “السيدة مع أحادي القرن”، التي تعد من إحدى الروائع الفنية التي تميز متحفها، ونقلها إلى رواق الفن في سيدني لفترة تمتد إلى أربعة أشهر.
يبدو أن المتاحف متحمسة بدورها لأي شكل من أشكال التعاون العلمي، على غرار تبادل الحفريات الأثرية. وقد عبر جان لوك مارتينيز عن شغفه بالتحدث عن “التراث المشترك” مستشهدا بالتعاون الذي أحيا العلاقات بعد الأزمات، مثل ذلك الذي تم مع إيران حيث يعرض متحف اللوفر حاليا “مجموعاته الفارسية”، أو تونس حيث يتم التخطيط لعرض “المعرض المشترك” بين متحف باردو واللوفر. كما تم الإعلان في العاشر من نيسان/ أبريل عن اتفاق تعاون بين المملكة العربية السعودية وفرنسا لتطوير آثار العلا في محافظة المدينة المنورة، الأمر الذي سيحقق أرباحا مالية لكلا الطرفين.
في المقابل، لا تظهر بعض المتاحف تحمسا كبيرا عندما يتعلق الأمر بمسألة تداول الروائع الفنية. فهناك العديد من المحافظين القلقين من التطوع الرئاسي ومن المخاطر التي يمكن أن تنجم عن عملية نقل الأعمال الفنية. وفي هذه الحالة، يحاول اللوفر استخدام حق النقض ضد ميول السلطة التنفيذية لمنع سفر الجوكندا خارج البلاد.
لا يمكن أن نخفي حقيقة أن سياسة ماكرون الثقافية يمكن أن تجعل عالم الثقافة يعيش تحت وطأة “التوتر”
بالنسبة لهم، لن يؤدي نقل الأعمال الفنية إلى تلفها فحسب، خاصة أن أغلبها مرسوم على لوح من شجر الحور وهي منقسمة جزئيًا، بل سيكون نقلها مكلفًا جدا للمتحف. وحسب مذكرة لمتحف اللوفر، فإن رحلة هذا العمل الفني لدا فينشي التي تمتد لثلاثة أشهر ستكلف اللوفر قرابة 35 مليون يورو. ولكن هل سيشكل هذا المبلغ عقبة؟ مع العلم أن هذا المبلغ لا يصل إلى عُشر ما دفعه أمير السعودي للحصول على لوحة “سالفاتور موندي” للرسام دا فينشي بتاريخ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 2017. لذلك قد يكون هذا الرقم غير مقنع لمنع نقل اللوحة.
لقد أبدت بعض المتاحف ترددا ليس فقط فيما يتعلق بنقل الموناليزا، وإنما بشأن نقل تمثال فينوس دي ميلو أيضا؟ في هذا الصدد، حذر جان لوك مارتينيز من أنه “تم اكتشاف جسمين معدنيين في بطن التمثال عبر طريقة التصوير بأشعة جاما سنة 2008، على بعد سنتيمترين فقط من السطح، وهذا سيمثل في حد ذاته مشكلة عند نقل التمثال”.
لكن، ماذا عن لوحة “الحرية تقود الشعب” للرسام أوجين ديلاكروا؟ في إطار الإجابة عن هذا السؤال، نوه جان لوك مارتينيز بأن “طبقة الطلاء بدأت تنفصل عن القماش على الرغم من أخذ كل الاحتياطات، خاصة خلال معرض اللوفر- لنس سنة 2013، لذلك لن يتم إعارتها”. وفي مواجهة هذه الانتقادات، تحدث الإليزيه عن سلبيات وإيجابيات إعارة الروائع الفنية. وحيال هذا الشأن، ذكر مقربون من الرئيس الفرنسي أنه “يجب أن نكون حذرين وعازمين في آن واحد. فبالنسبة لنا، لا يوجد ما هو محظور، ولكن ذلك لا يعني أن نتحكم في توجيه إرادة الناس”.
لا يمكن أن نخفي حقيقة أن سياسة ماكرون الثقافية يمكن أن تجعل عالم الثقافة يعيش تحت وطأة “التوتر”. وخلال غداء في قصر الإليزيه، صرح إيمانويل ماكرون بأن “أولئك الذين يهتمون بالمتاحف يمكن اعتبارهم محافظين، ولكنني أريد أن أصدق غير ذلك”.
المصدر: لوموند