كتب الكثير في هذا المجال لكن العودة إليه ليست تكرارًا مملاً، فالثورة لمن آمن بها وصدق حقيقة ماثلة وفشلها في إدارة أمر الإعلام حقيقة أخرى وجب النبش فيها باستمرار، لعل المرء يفهم من أين التفت عليه منظومات التخريب والفساد.
وهذا السؤال ليس تونسيًا فقط، ففشل الثورة المصرية إعلاميًا أكبر وأوضح بل نموذج تاريخي للفشل في إدارة الإعلام في لحظة مفصلية من التاريخ، نحاول هنا البقاء مع تفاصيل الحالة التونسية ففيها ما يكفي من الوقائع الدالة على أن الثورة في زمن الإعلام الفعال لم تنجح إعلاميًا ففشلت في بقية المجالات.
ثوار رومانسيون أغبياء
في بعض الرومانسية الثورية غباء، فالغباء الثوري يأتي من طيبة الثوار وكان هذا جليًا فيما قام به التونسيون منذ بداية الثورة، لقد ذهب في أذهانهم أن إيمانهم أو حماسهم الثوري كفيل بإنجاز كل الأعمال الثورية بما فيها تحرير الإعلام من قبضة النظام الذي عاش بالإعلام الدعائي أكثر مما عاش بالإنجازات الاقتصادية والسياسية.
في اللحظة الثورية الأولى ورغم أن المشهد الإعلامي كشف وجهه المعادي للثورة، فإن الثوار الطيبين انصرفوا إلى هموم أخرى كشفت غياب خريطة فعل ثوري جذري، وقد عرف إعلام المنظومة ضعفهم هذا فأتاهم من حيث لم يحتسبوا وغير مسار ثورتهم وأوقع بينهم الفتنة وأعاد قوة المنظومة إلى ما كانت عليه بل زادت قوتها؛ فوضعت كل من زعم الثورة في وضع استجداء كلمة من منبر ملغوم، وبعد سنوات سبعة من الفشل الإعلامي وجب أن نحمل المسؤوليات لأصحابها خاصة على ضوء انكشاف المواقع والمصالح والحسابات الفردية والحزبية، فمواصلة التغطية على الفشل جريمة.
لما وصلت الثورة إلى إنجاز أول انتخاباتها نهاية 2011 كان لإعلام المنظومة دور فعال في التأثير على النتيجة
الترويكا الغبية
ظهرت الغفلة الثورية منذ سنة 2011، فلم ينتبه أحد من الثوريين الكبار إلى أن الأجهزة الإعلامية بجميع محاملها السمعي والبصري والمكتوب بقيت على حالها بنفس الوجوه وبنفس الخط التحريري المعادي للثورة، كل ما في الأمر أن إعلاميين من المنظومة تحولوا فجأة إلى ثوار يقودون الشارع من وراء المصادح والشاشات ويوجهون الشباب الثائر نحو معارك جزئية يتقنون خلقها.
والشباب المتحمس وقع في الفخ سريعًا وهو غير ملوم، فالطبقة السياسية التي تصدت للقيادة تواطأت ضدهم وضد نفسها لأنها لم تكن ملكت خطة وما كان لها فهي طبقة مشغولة جدًا بالتموقع والمكاسب.
لقد كتبت دومًا أن الطبقة السياسية التونسية حملت معها عاهاتها القديمة (ما قبل الثورة) وقادت بها مرحلة ما بعد الثورة، أي أنها بقيت في معاركها القديمة البينية وأهمها صراع نخب اليسار مع الإسلاميين وكان هذا مدخلاً جيدًا للمنظومة للتموقع داخل الصراع وتوجيهه.
فلما وصلت الثورة إلى إنجاز أول انتخاباتها نهاية 2011 كان لإعلام المنظومة دور فعال في التأثير على النتيجة وكانت انتظارات الكثيرين من حكومة الترويكا والرئيس المرزوقي كمكون رئيسي لها أن يغيروا المعادلة الإعلامية خاصة أن القوانين تسمح بذلك، إلا أن تلك الطيبة الغبية التي يمكن أن تقرأ الآن تواطأ مريبًا قد زادت، فمكنت لمنظومة الإعلام لتستشرس على الثورة والحكم المنتخب وتفرض عليه معارك لم يجد منها منجاة؛ فتعفن الوضع أكثر وبدأت الثورة تحصي خسائرها.
وجب أن نكتب بوضوح أن حكومة السيد حمادي الجبالي خسرت معركة الإعلام وخسرت الثورة مواقعها وكثير من مكاسبها المحتملة وضيعت عليها وقتًا ثمينًا، يتعلل من حكم حينها بمن فيهم الرئيس المرزوقي أن المعركة كانت شرسة وأنهم عجزوا وليس أسخف من العجز إلا تبريره، خاصة إذا استمر التبرير دون تقديم نقد ذاتي لتلك المرحلة وهو ما لا نسمعه ولا نقرأه عند أي من مكونات الترويكا.
الزعماء (والمثقفون) الذين تحولوا إلى أداوت بيد المنظومة أشد سخفًا وغباءً ممن حكم وعجز عن التغيير
إن المشهد الإعلامي البائس الآن هو نتيجة حتمية لذلك الفشل وسوء الإدارة الناتج عن غياب تصورات لإدارة إعلام بعد ثورة، إن هذا التقييم لا يقف عند الفشل بعد الثورة بل يمتد إلى ما قبلها ليقول إن من تصدى للفعل السياسي معلنًا نفسه بديلاً كان جاهلاً جهلاً تامًا بأهمية الإعلام ولذلك لم ينتج أي تصورات للإدارة في مرحلة المعارضة فوقع في جهله بعد أن وصل إلى الحكم ولن يكفيه التحجج بالقمع والمنافي خاصة إذا كان قد عاش في الغرب وعرف أهمية الصورة والخبر في التحكم في الجمهور.
جهل عام وليس خاصًا
بعض من الجهل عجز وكثيره سوء نية، فما وقعت فيه مكونات الترويكا من غلط عن جهل وقع فيه معارضوها عن سوء نية، فغياب التصورات لإعلام ثوري مرض عضال عند جميع مكونات الطبقة السياسية التي نقلتها الثورة من موقع المعارضة القديم إلى مواقع جديدة في الحكم أو في المعارضة، فكان يفترض أن تنتج هذه الطبقة بما فيها المعارضة للترويكا تصورات ومواقف مبدئية مع الثورة.
لكن منظومة الإعلام الفاسد أفلحت بسرعة قياسية في توظيف معارضي الترويكا (وكانوا من معارضي النظام القديم وضحايا إعلامه الإجرامي) ومنحتهم المنابر الكافية لتخريب جهد الترويكا لا لمواصلة المعركة ضد المنظومة، لقد حولتهم بكل بساطة إلى أدوات فعالة ضد مخرجات الثورة.
يلام الجميع هنا بنفس القدر، بل إن الزعماء والمثقفين الذين تحولوا إلى أداوت بيد المنظومة أشد سخفًا وغباءً ممن حكموا وعجزوا عن التغيير لأنهم بكل بساطة اشتغلوا ضد الثورة لا معها.
وليكن واضحًا أن هذا لا يعني أن الترويكا كانت هي الثورة أو حاميتها الوحيدة لكنها كانت خطوة من خطواتها نحو الديمقراطية (رغم ما ذكرت أعلاه من فشلها) وعوض دعم تلك الخطوة وإسنادها نحو المزيد من تحرير المجتمع من المنظومة اشتغلت هذه الزعامات السياسية والفكرية على دعم الردة مضحية بمكاسب الثورة.
الرغاء الكثير والثغاء المتواصل ضد المنظومة في السوشيال ميديا لا يبني بديلاً لإعلام مهني وقوي ماليًا
لقد رأيناهم يخوضون بسعادة غامرة في شرف من يحكم، مرددين بوجوه ضاحكة كل الأكاذيب والأراجيف الأخلاقية التي روجتها المنظومة عن مكونات الترويكا خاصة قيادة حزب النهضة والرئيس المرزوقي وحزبه، فكان هدفهم الحلول محلهم في أول فرصة وكان هدف منظومة الإعلام تدمير الجميع دون دفع قطرة دم واحدة وقد أفلحت وغنت أغاني بن علي القديمة.
إنه جهل عام لم يختص به الإسلاميون وحدهم أو من تحالف معهم في مرحلة من المراحل وهو لا يزال مستشريًا بعد، ومع كل أكذوبة تصدر عن أجهزة المنظومة يقع هؤلاء الثوريون في شرف بعضهم، بل لقد تخصص ثوار كثر في لعن الإسلاميين وتتبع مثالبهم دون وعي بأن من يزودهم بالخبر الكاذب هو إعلام المنظومة.
هنا خسرت الثورة معركتها وما يحتمل أن يكون مكاسب، وهي تخسر بعد لأن المنظومة صارت أقوى وأعرف بنواقص المنتمين للثورة، لقد منحها الثوريون أسبابًا إضافية للقوة لقد كشفا لها جهلهم وصغارهم وتكالبهم على منفعة لم يملكوها.
لا وجود لبديل إعلامي فعال من خارج المنظومة
الرغاء الكثير والثغاء المتواصل ضد المنظومة في السوشيال ميديا لا يبني بديلاً لإعلام مهني وقوي ماليًا، فكثير مما يكتب الآن هو انفعال طفولي غبي وأحمق تزوده المنظومة بالأكاذيب فيرتاح في ترويجها على أنها سبق وينام قرير العين أن قد حطم المنظومة ببوست فيس بوك في انتظار خبر آخر أو قضية مفتعلة تقدمها له غرفة عمليات المنظومة فتستغرق جهده ووقته وتصرفه عن المطلوب.
كل طبقة المال القادرة نظريًا على تمويل إعلام ثوري لم تكشف وجهها لأنها بكل بساطة لا تؤمن بالاستثمار في ذلك، بما يجعلها في موقع معاداة الثورة وإن لم تصرح، وفي غياب المال لن يقتحم أحد مجال فعل منظومة الإعلام المعادي للثورة والجديون من إعلاميين ومثقفين وسياسيين منتمين للثورة تائهون في هذا البلقع وينسحبون واحدًا بعد آخر إذ يصير الصمت أفضل من المشاركة في اللغو السائد.
إننا نشهد نهاية ثورة على يد حفنة من الإعلاميين الفاسدين لم تنتج الثورة من يتصدى لهم ويحق لهم الآن أن يشربوا الأنخاب حتى ربع قرن آخر.