في نهايات القرن الـ17 قررت محكمة التفتيش التابعة للكنيسة محاكمة جاليليو جاليلي بتهمة الهرطقة وتدوين معلومات في كتاب يتضمن آراءً مخالفة لتعاليم الكتاب المقدس وتفسيراته .
تضمنت المحاكمة استنكارًا لما فعله العالم العجوز وإنكارًا لما كتبه وتخييرًا بين أن يتنصل من أفكاره ويلعنها ويتخلى عنها، أو يحتفظ بإيمانه بها ويواجه السجن والتعذيب وربما الموت حرقًا، ففضل جاليليو الخيار الأول .
في العام 1608 وعند ظهور التليسكوب الذي امتلكته البحرية الإيطالية كأداة عسكرية لرؤية أساطيل الأعداء، اقتنى جاليلو أحدها موجهًا إياه للفضاء مع إجراء بعض التعديلات عليه، ليغير بذلك الفكرة النمطية السائدة عن شكل الأرض والأجرام السماوية الأخرى وعلاقتها بالشمس .
وجهة النظر المتبناه آنذاك كانت مبنية على آراء ونظريات أرسطو القائلة بأن الأرض مركز الكون ونها مسطحة تدور حولها الشمس، والقمر مسطح أيضًا كما الشمس، والمجرة ليست أكثر من حزمة ضوئية في الفضاء، شعاع خالٍ يسير في خط مستقيم .
حسابات جاليليو المبينة على العلم التجريبي لا العلم النظري تعارضت مع نظريات أرسطو التي كان معترفًا بها من الكنيسة آنذاك، وتعتبر تفسيرًا متناغمًا مع نصوص الكتاب المقدس.
من أكثر العوامل التي ساعدت جاليلي على صقل أفكاره التحاقه بجامعة بانشوا
إذ أثبت دوران الأرض حول الشمس وأن الأرض لها محور تدور حوله يترتب على تلك الدورة تعاقب الليل والنهار، والمجرة تحوي الملايين من النجوم والكواكب الأخرى بالإضافة لاكتشافه الأقمار الـ4 لكوكب المشترى ليؤكد ما قاله العالم الذي سبقه “كوبرنيكوس” قبل أن يُحكم على الثاني بالموت حرقًا جراء أفكاره تلك .
الكنيسة في ذلك الوقت كانت تهتم بتدريس 7 مواد أساسية قبل تعليم روادها علوم الفلسفة واللاهوت، علم الفلك كان أحدها، لأنها كانت تعتبر الأرض مركز الكون والشمس تدور حولها، الدين كله تقريبًا كان يتبع الفلك وبحوثه، فعلى أساسه تتحدد فترات الصوم ومواعيد الصلوات ومواسم الزراعة وموعد عيد الميلاد وعيد الفصح، وغيرها من الطقوس الدينية المتعلقة بالشهور القمرية والشمسية وحساباتها، لذا فقد أضافت الكنيسة بعدًا روحيًا لنظريات أرسطو جعلها لا تتنازل عنه وإنكار تلك النظريات قد يضع الدين كله تحت التهديد .
الجامعة
من أكثر العوامل التي ساعدت جاليلي على صقل أفكاره التحاقه بجامعة بانشوا التي كانت تبعد كثيرًا ماديًا ومعنويًا عن اليسوعيين في روما، الجامعة التي تمتعت بحرية أكاديمية مطلقة ليس في إيطاليا فحسب بل أوروبا كلها .
العامل الآخر هو محاولاته للاتصال بواحدة من أكبر العائلات الإيطالية آنذاك، عائلة “ميدتشي” التي كانت تتمتع بنفوذ مادي واجتماعي وسياسي، وبالفعل وافقوا على تبنيه وجعله عالمًا في بلاطهم .
تلك الإحداثيات ساعدته قليلًا على الاستمرار في أبحاثه ونشر أفكاره بين تلاميذه بعيدًا عن سلطة الكنيسة ورجال الدين .
“جاليليو دنس الأماكن الجليلة حيث تسكن الملائكة بادعائه وجود بقع على الشمس والقمر “
ودوّن أفكاره تلك في كتاب أطلق عليه “الرسول النجمي” بعد أن ابتكر أدوات فلكية جديدة تساعد على إثبات نظرياته، وتأكيد ما قاله سابقه “كوبرنيكوس” أن حسابات أجرام السماء ستكون أكثر تبسيطًا لو اعتبرنا الشمس تقع في وسط الكون لا الأرض.
التغييرات التي حدثت للكرسي الباباوي وتغير رجال الدين لم يساعد العالم الفذ على ترويج أفكاره –رغم تقلد أحد الأصدقاء الشخصيين لجاليليو الباباوية – والعقوبات السابقة كحرق جيوردانو برونو وكوبرنيكس بالإضافة لحظر كتبه جعل منه محط أنظار الكنيسة، خصوصًا حين أثبت كروية الأرض وأنها غير مسطحة كما أشيع عنها، بالإضافة لاكتشافه البقع الشمسية التي لم يكن معروفًا ماهيتها آنذاك .
المجمع الكنسي – روما
أنهى جاليليو في العام 1629 كتابه “حوار بين المنظومتين الرئيسيتين في العالم” وكان عبارة عن مناقشة أنظمة العالم، هل الشمس مركز الكون؟ أم أن الأرض مركز الكون؟
قدم الكتاب عن طريق حوار بين 3 شخصيات من البندقية، الأولى المضيف الذي يقيم النقاش بين ضيفين ثرثارين يتكلم أحدهما بلسان كوبرنيكس وجاليليو والآخر ساذج يتكلم بسخرية وينطق بتعاليم الكنيسة بشأن العلوم والفلسفة .
الكتاب كان فرصة للمحيطين بالبابا لتأجيج الأوضاع والوشاية بجاليلو وأنه جعل الساذج يتكلم بلسانه وجعله أضحوكة وأهان الباباوية .
أخّر الطاعون الذي ضرب أوروبا محاكمة جاليليو نحو 3 سنوات، بعدها قُدم لمحكمة التفتيش التي حاكمته بتهمة الهرطقة ومعارضة تعاليم الكنيسة التي تعتبر الأجرام السماوية لا تتغير ومحافظة على نقائها الأصلي، وكان كتابه الأخير دليل إدانته.
ظل جاليليو مقتنعًا ومؤمنًا للحظة الأخيرة بأن الأرض تدور وأن كل اكتشافاته سليمة وأساسها علمي صحيح .
لكنها تدور:
في العام 1632 مثّل أمام المحكمة وظل يتردد ذهابًا وإيابًا بين المحكمة وغرفة الحجز بديوان التفتيش إلى أن حكم عليه بالسجن المشدد الذي خفف للإقامة الجبرية في منزله، بالإضافة لمنع أعماله من الطباعة والتداول الذي استمر لمدة 200 عام متواصلة.
في اللحظة التي مضى فيها جاليليو عريضة تبرؤه من أفكاره واكتشافاته لم يستطع منع نفسه من التصريح عن تلك الفكرة ونقل عنه مرافقيه أنه تمتم بصمت “لكنها تدور”!
ظل جاليليو مقتنعًا ومؤمنًا للحظة الأخيرة بأن الأرض تدور وأن كل اكتشافاته سليمة وأساسها علمي صحيح .
وبعد أن مُنع من ممارسة علم الفلك رجع بالزمن لما قبل مرحلة المقراب “التليسكوب” أي لعلم الحركة، ليدون نظرياته المبينة على تجارب علمية كيف لجسمين متفاوتين في الحجم أن تكون سرعتهما واحدة عند الارتطام بالأرض، ليدحض من جديد آراء أرسطو التي سلمت نظريًا بأن الأجسام الأثقل تسقط أولًا، قام جاليليو بذلك من خلال دحرجة الأجسام على أسطح مائلة للتخفيف من سرعتها وتسهيل مراقبتها .
حُرم جاليليو من استقبال تلاميذه أو زملائه ولم يُسمح بذلك إلا في أضيق الحدود، أصيب في نهاية حياته بالعمى الذي منعه استكمال حياته بشكل طبيعي وظل حبيس منزله إلى أن توفي عام 1642 ورفضت الكنيسة دفنه في مراسم كنسية كبيرة كما توقع الناس ودفن في كنيسة صغيرة ومعزولة .
كان لابنته فيرجينيا – التي بعد أن ترهبنت أطلقت على نفسها ماريا شيلس – عظيم الأثر في حياته
عائلته
كان جاليليو وقت وجوده بجامعه بانشوا على علاقة بسيدة اسمها مارينا كامبا، لم يتزوجها أبدًا ورزق منها بـ3 أبناء، فتاتين وولد.
لم يستطع جاليليو الزواج من تلك السيدة معللًا الأمر بأنه سوف يؤثر على وضعه الاجتماعي بالإضافة لعدم استعداده للزواج وبأن بيته ملئ دومًا بالتلاميذ والعلماء ولا وقت لديه لجو عائلي يتطلب الكثير من التفرغ، فألحق ابنتيه بالدير واحتفظ بالولد ونسبه لنفسه ليصبح موسيقارًا فيما بعد.
كان لابنته فيرجينيا – التي بعد أن ترهبنت أطلقت على نفسها ماريا شيلس – عظيم الأثر في حياته بعد ذلك، بعد دخولها الدير كانت تراسله باستمرار وتناقشه في أفكاره وعمد والدها في بعض الأحيان إلى إرسال نسخ من مؤلفاته لها لتطلع عليها وتخبره برأيها فيها.
بعد وفاة فرجينيا في الـ33 عثر على رسائلها لدى والدها لكن رسائله لها لم يُعثر عليها أبدًا، يُقال إن الراهبة الكبرى في الكنيسة قد تكون أحرقتها لما تحويه من مسائل علمية ونقاشات تدحض ثوابت دينية مسيحية راسخة .
التكريم
بعد 100 عام من وفاته راجعت الكنيسة أفكارها وقررت التسليم بما كتبه جاليليو خصوصًا بعد ما أقره نيوتن من قوانين الحركة، ونُقل رفاة العالم الكبير عام 1737 ودُفن مرة أخرى في مكان أكثر تشريفًا .
ثيوقراطية الكنيسة في العصور الوسطى حرمت العالم من إنتاج غزير كان ليستمر فيه جاليليو لو أتيحت له الفرصة لاستكمال ما بدأه
في العام 1741 قرر البابا بندت الرابع طباعة كل كتبه، وفي العام 1822 سمحت الكنيسة في عهد البابا بيوس السابع بطباعة كتاب النظام الشمسي لمؤلفه كوبرنيكس
عام 1939 صرح البابا بيوس الثاني عشر واصفًا جاليلي بأنه من أكثر الرجال بطولة وشجاعة.
في العام 1992 قدمت الهيئة العلمية تقريرًا لبابا الفاتيكان الذي قدم بدوره اعتذارًا لجاليليو، ثم في العام 2008 أقامت الفاتيكان تمثالاً له في ذكرى بناء جاليليو للتليسكوب .
ثيوقراطية الكنيسة في العصور الوسطى حرمت العالم من إنتاج غزير كان ليستمر فيه جاليليو لو أتيحت له الفرصة لاستكمال ما بدأه، ولما تأخرت الفيزياء 200 عام لتصل لقوانين الحركة والجاذبية وغيرها من الاكتشافات التي أسهمت بقوة في تغيير حياة البشرية.