تشير التصريحات الرسمية وغير الرسمية الصادرة عن حكومة بنيامين نتنياهو إلى الإصرار على بقاء جيش الاحتلال في محوري فيلادلفيا ونتساريم الحدودين، وهي المسألة التي تعرقل مسار المفاوضات وتحول دون التوصل إلى اتفاق تبادل مع حركة المقاومة حماس من ناحية ومع الجانب المصري من ناحية أخرى.
وأكد نتنياهو خلال مقابلة أجراها مع القناة “14” العبرية، الإثنين 15 يوليو/تموز الحاليّ أن “إسرائيل” ستبقى في محور فيلادلفيا، معتبرًا أن البقاء في هذا المحور “له مزايا سياسية وأمنية”، مشيرًا إلى أنه سيجري التصويت في هذا الشأن بين أعضاء المجلس الوزاري المصغر “الكابينت”، مشددًا على تأكده من أن “الأغلبية تؤيد موقفي لأنه الموقف الصحيح”، على حد زعمه.
وفي 29 مايو/أيار الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي سيطرته الكاملة على محور فيلادلفيا على الحدود الفلسطينية المصرية بشكل كامل، بزعم وجود ما لا يقل عن 20 نفقًا يعبر من غزة إلى سيناء، وتستخدمها المقاومة في التسليح، وهو ما نفاه الجانب المصري رسميًا.
إصرار نتنياهو وحكومته على البقاء في محوري فيلادلفيا ونتساريم يعني عمليًا إجهاض المسار الدبلوماسي التفاوضي بشأن وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، وإبقاء المعركة لفترات أطول، وهو ما يتعارض مع موقف النخبة والشارع في الكيان المحتل، فلماذا يتمسك رئيس الحكومة بهذا الشرط ويسبح ضد التيار الشعبي داخليًا؟
أولًا: ما أهمية المحورين للاحتلال؟
ينطلق نتنياهو في موقفه المتشدد بشأن البقاء في المحورين من أهميتهما على المستوى السياسي والعسكري والوظائف المنتظرة لهما مستقبليًا والتي تحاول الحكومة الإسرائيلية خلقها لهما بحسب رؤيتها الاستيطانية التوسعية:
تأتي أهمية محور فيلادلفيا كونه الفاصل بين غزة والحاضنة العربية ممثلة في مصر، وهو المنفذ الوحيد الذي يربط بين الغزيين والعالم الخارجي، لذلك فإن السيطرة عليه تعني عزل غزة بشكل مطلق عن بيئتها العربية والخارجية بالكلية.
كما أنه المتنفس الوحيد أمام الفلسطينيين في القطاع، مقاومة وشعبًا، لإدخال الموارد الحياتية اللازمة، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، فرغم التضييق الأمني الحدودي، كان في كثير من الأحيان النافذة الوحيدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى إن كان الأمر ذا كلفة باهظة.
أما محور نتساريم فهو حلقة الوصل بين شمال القطاع من جانب، ووسطه وجنوبه من جانب آخر، وبالسيطرة عليه يتم فصل الشمال عن بقية مناطق غزة، ومن ثم التحكم في عودة الغزيين إلى الشمال، هذا بخلاف إمكانية استخدامه كورقة ضغط ضد سكان الشمال وفرض حصار مطبق عليهم إذا غردوا خارج السرب الإسرائيلي.
خلاف سياسي عسكري
في وقت سابق كانت هيئة البث الإسرائيلية “كان” قد أفادت بأن هناك خلافات واسعة بين المكون السياسي (الحكومة) والعسكري (الجيش) في الداخل الإسرائيلي بشأن البقاء في المحورين عسكريًا لفترات طويلة، وتعمقت تلك الخلافات خلال الأيام القليلة الماضية.
على المستوى السياسي يحاول نتنياهو تحقيق أكبر قدر من المكاسب من وراء البقاء في المحورين، من بينها إطالة أمد الحرب والإبقاء على حالة التوتر والتعبئة العامة، ما يعني إجهاض مسار المفاوضات، وهو ما يؤجل حسم مصيره السياسي.
كما يحاول نتنياهو الحفاظ على تماسك حكومته بالبقاء عسكريًا في فيلادلفيا ونتساريم، بعدما وصل التهديد المباشر والصريح من وزراء اليمين المتطرف بالانسحاب من الحكومة إذا انسحب الجيش من تلك المحاور، كما جاء على لسان وزيرة الاستيطان من حزب “الصهيونية الدينية” اليميني المتطرف أوريت ستروك، التي هددت، أمس الثلاثاء، بتفكيك حكومة نتنياهو إذا انسحب الجيش من محور فيلادلفيا.
وخلال زيارة إلى معبر كرم أبو سالم قالت ستروك: “نحن في معبر كرم أبو سالم وعلى بعد 50 مترًا منا يوجد معبر رفح”، وأضافت: “قلنا بوضوح إنه إذا أزالوا الجيش الإسرائيلي من طريقي نتساريم (يقسم قطاع غزة إلى قسمين) وفيلادلفيا، فسنقوم بتفكيك الحكومة”، مشددة على أن نتنياهو “يعرف ذلك جيدًا”، حسبما نقلت عنها صحيفة “معاريف” العبرية.
أما على المستوى العسكري فبقاء القوات في المحورين وتجميد المفاوضات يعني استمرار الحرب لأجل غير مسمى وهو ما يترتب عليه المزيد من الضحايا والخسائر في الأرواح والعتاد، ما يهدد حجم وقوة جيش الاحتلال، ويقوض من إمكانياته مستقبلًا، خاصة بعد نشر المؤسسة العسكرية ولأول مرة تقارير واضحة عن خسائرها في المدرعات والعتاد العسكري والنقص الكبير في المدربين والقادة بسبب الحرب، وهي التقارير التي تدق ناقوس الخطر بشأن مستقبل الجيش وقدرته على التعامل مع المستجدات خاصة في حال فتح معركة واسعة على الجبهة الشمالية مع حزب الله.
وتمثل تلك المسألة إحدى النقاط الخلافية القوية بين نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت، وقائد أركان الجيش هرتسي هاليفي، اللذين يميلان إلى المزاج السياسي الراغب في إنهاء التواجد العسكري في نتساريم وفيلادلفيا والبحث عن آليات أخرى تضمن بها “إسرائيل” منع استخدام المقاومة للمحورين دون اشتراط البقاء عسكريًا بهما.
قد يكون هناك انسحاب، لكن بشروط
أمام تلك المعضلة الخلافية التي ربما تعزز من الانقسام الداخلي بين المؤسستين العسكرية والسياسية الإسرائيلية، بدأ الحديث عن أدوات أخرى واستراتيجيات مختلفة يمكنها تحقيق الأهداف ذاتها لكن دون بقاء القوات الإسرائيلية في المحورين، وهو ما كشفت عنه صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية التي أشارت إلى عقد مصر و”إسرائيل” محادثات سرية لمناقشة مسألة الانسحاب الإسرائيلي من فيلادلفيا.
الصحيفة واستنادًا إلى مصدرين إسرائيليين ودبلوماسي غربي رفيع المستوى، كشفت أن حكومة الاحتلال أبدت استعدادًا للانسحاب، لكن بشرط أن توافق مصر على إجراءات من شأنها منع تهريب الأسلحة على طول الحدود، من بينها تركيب مجسات إلكترونية يمكنها كشف المحاولات المستقبلية لحفر الأنفاق، بجانب بناء حواجز تحت الأرض لمنع بناء الأنفاق، وهي المقترحات التي كانت قد ذكرتها وكالة “رويترز” قبل ذلك ونفاها نتنياهو ووصفها بـ”الأخبار الزائفة تمامًا”.
ويتمتع هذا المقترح بموافقة قادة جيش الاحتلال، فكما ذكرت الصحيفة فإن وزير الدفاغ غالانت قد أشار في بيان منفصل الأسبوع الماضي إلى أن جيش الاحتلال قد ينسحب من المحور الحدودي مع مصر في ظروف معينة، وقال “مطلوب حل يوقف محاولات التهريب، ويقطع الإمدادات المحتملة لحماس”، فيما نقلت هيئة البث الإسرائيلية عن رئيس أركان الجيش قوله إنه يمكن التعامل مع محور فيلادلفيا بطرق مختلفة دون الإبقاء على قوات فيه.
الشروط ذاتها نقلتها القناة “N12” العبرية في تقرير لها تطرقت خلاله إلى إمكانية الانسحاب من فيلادلفيا من خلال حل ذي مسارين متوازيين:
الأول: المسار التكنولوجي.. ويتعلق بالتهريب عبر الأنفاق، حيث يتضمن تركيب أجهزة استشعار (مجسات) سيتم وضعها على الجانب المصري بهدف منع التهريب عبر الحدود، من مصر إلى قطاع غزة، بالإضافة إلى ذلك ستخضع تلك الأجهزة للرقابة المصرية الإسرائيلية وربما الأمريكية، ووفق ضمانات محددة.
الثاني: المسار الإداري.. ويتعلق بالتهريب عبر معبر رفح من فوق الأرض وليس من تحتها، حيث يرى الإسرائيليون إلى أن المكونات التكنولوجية التي تستخدمها حماس في صناعة الأسلحة لم تمر عبر الأنفاق بل فوق الأرض، عند معبر رفح. وتشمل هذه الوسائل التكنولوجية، المكونات الإلكترونية والطائرات دون طيار والكاميرات.
وعليه لا بد أن تكون هناك سيطرة كاملة على المعبر، والتحكم في كل ما يمر عبره، يشارك في ذلك الأمريكيون والمصريون والفلسطينيون الذين لا علاقة لهم بحماس، وسيكون هذا التغيير في الواقع “حلًا تكميليًا” للوسائل التكنولوجية.
وتشير الصحيفة إلى طلب “إسرائيل” من خلال التفاهم مع الجانبين المصري والأمريكي في ضوء المباحثات الأخيرة منحها حرية التصرف إذا ما وردت مؤشرات على عودة حماس لبناء ترسانتها التسليحية مجددًا أو تحرك عناصرها المسلحة إلى شمال القطاع، دون الحديث عن رد الفعل المصري إزاء هذا الشرط.
ويرى خبير الأمن القومي الإسرائيلي، الكولونيل متقاعد كوبي ماروم، أن “إسرائيل” لا يمكنها البقاء طويلًا في فيلادلفيا لما قد يترتب على ذلك من خلق أزمة دولية وسياسية، وعليه “فإن ما يجري التخطيط له هو تعاون إسرائيلي مصري أمريكي يخلق عائقًا فوق الأرض وتحتها في فيلادلفيا ستكون هناك معدات متطورة للغاية، لكن السيطرة على المؤشرات ستكون إسرائيلية”.
وخلص الجنرال المتقاعد إلى أن هذا هو الحل الوحيد لإتمام صفقة الرهائن التي يمثل بقاء الجيش الإسرائيلي في فيلادلفيا معضلتها الحقيقية، مضيفًا “هذا هو الحل الأكثر فعالية ضمن حدود الصفقة. أعتقد أن التوصل إلى اتفاق ليس ضرورة أخلاقية فحسب، بل هو أيضًا حاجة استراتيجية هائلة، وبالتالي فإن هناك مصلحة واضحة هنا للتوصل إلى اتفاق وإجلاء قوات الجيش الإسرائيلي من غزة، والذي ينبغي أن يصر عليه “إسرائيل”. فالعائق الممول يقدم جوابًا جيدًا، خاصة أن السيطرة الكاملة على الوسائل ستكون تحت سيطرة إسرائيلية”.
ورغم ما أثبتته التجارب السابقة من فشل لتلك الاستراتيجيات التي نفذها الاحتلال في السابق في الجدار العازل بغلاف غزة، فإن الحديث عنها مرة أخرى وبتلك الكيفية ربما يضع الموقف المصري في حرج كبير، لما ينطوي عليه هذا الأمر من تهديد للسيادة والأمن القومي المصريين خاصة في ظل نسف مثل تلك المقترحات لمرتكز أساسي في اتفاقية السلام الموقعة مع الجانب الإسرائيلي.
وكانت القاهرة قد تعرضت لانتقادات حادة منذ بداية حرب غزة ووصفها البعض بأنها شريك في الحصار المفروض على سكان القطاع وحرب التجويع التي يتعرضون لها، بسبب مساعدتها للكيان المحتل في تدمير كل الأنفاق منذ عام 2019 وغلق معبر رفح، وهي الاتهامات التي رفضتها مصر التي حمّلت الكيان المحتل المسؤولية الكاملة.. فهل يقبل الجانب المصري بلعب دور جديد في حصار القطاع أم سيكون له رأي آخر هذه المرة؟