ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال الأسابيع القليلة الماضية، ظهر اللوبي الإسرائيلي بشكل متزايد في الأخبار في سياق مواسم الانتخابات الجارية في المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة.
وانتشرت المقالات الإخبارية حول الأموال الضخمة التي ساهم بها اللوبي الإسرائيلي في المملكة المتحدة للمرشحين في الانتخابات الأخيرة، أو التدخل الوزاري الإسرائيلي في الانتخابات الفرنسية الأخيرة، أو هزيمة النائب في الكونغرس الأمريكي جمال بومان بسبب دعم منافسه من قبل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، وهي جماعة الضغط الأكثر تأثيرًا والمؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة.
هذا بالإضافة إلى التغطية الإعلامية للدور الذي لعبه اللوبي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر في إسكات منتقدي إسرائيل وما ترتكبه من إبادة جماعية في غزة.
وكما قلتُ سابقًا، غالبًا ما تصيب الحماسة الكثير من المؤيدين لفلسطين في الولايات المتحدة والعالم العربي عندما يتم فضح مكائد اللوبي الإسرائيلي في الصحافة الغربية.
ويستند ذلك إلى تصورهم أنه بمجرد إدراكهم للقوة المفرطة لهذا اللوبي؛ فإن الرأي العام الأمريكي والغربي الأوسع سيصحح انحرافات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الفلسطينيين والشرق الأوسط، والتي يعتقدون أن سببها تدخل اللوبي.
والافتراض الشائع بين هؤلاء الأمريكيين والعرب المؤيدين للغرب الداعمين للفلسطينيين هو أنه في غياب اللوبي الإسرائيلي ستصبح الحكومة الأمريكية والقوى الغربية الأخرى أكثر ودًا أو على الأقل تقدير أقل عداءً للعرب والفلسطينيين.
ويتوقف إغواء هذه الحجة على تبرئة الحكومة الأمريكية من كل المسؤولية والذنب الذي تستحقه عن سياساتها في العالم العربي؛ فهي تسعى لتحويل اللوم عن سياسات الولايات المتحدة من الولايات المتحدة إلى إسرائيل واللوبي الأمريكي التابع لها، وتعطي أملاً زائفًا للكثير من العرب والفلسطينيين الذين يتمنون أن تكون أمريكا إلى جانبهم بدلاً من أن تكون إلى جانب أعدائهم.
دراسات نقدية
على مدى نصف قرن على الأقل، كانت قوة اللوبي الهائلة في حسم الانتخابات في الدول الغربية وتأثيره على الجامعات والصحافة والمؤسسات الثقافية والتعليمية موضوع العديد من الكتب والمقالات. ولعل أول معالجة من هذا النوع؛ وإن كانت تتضمن انتقادات معتدلة للقوى المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، كانت مقالة نشرها جورج بول، وكيل وزارة الخارجية في إدارتي جونسون وكينيدي، في مجلة فورين أفيرز سنة 1977. ونشر بول وابنه لاحقًا دراسة كاملة عن المسألة في شكل كتاب.
ومن بين الكتب الأخرى التي نُشرت في العقد التالي كتاب بول فيندلي “إنهم يجرؤون على التحدث علنًا” الصادر سنة 1985: الناس والمؤسسات في مواجهة اللوبي الإسرائيلي. وكان فيندلي عضوًا جمهوريًا سابقًا في الكونغرس الأمريكي هُزم في حملة إعادة انتخابه من قبل اللوبي الإسرائيلي في سنة 1982 بعد أن خدم 11 ولاية في مجلس النواب. وقد وصف رئيس سابق لإيباك فيندلي بأنه “عدو خطير لإسرائيل”، مما أدى إلى إنهائه سياسيًا.
كتاب آخر بعنوان “اللوبي: القوة السياسية اليهودية والسياسة الخارجية الأمريكية“، للكاتب السابق في مجلة التايم إدوارد تيفنان، الذي نُشر في سنة 1987، وتناول فيه الموضوع نفسه بالتفصيل.
ومع ذلك، لم يصبح دور اللوبي الإسرائيلي في تشكيل السياسة موضوعًا رئيسيًا للنقاش في التيار الرئيسي في الولايات المتحدة إلا بعد أن نشر عالما السياسة البارزين جون ميرشايمر وستيفن والت بحثًا في سنة 2006 عن اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية، والذي توسعا فيه لاحقًا ونشراه في كتاب في سنة 2008، حتى أصبح هذا الدور في تشكيل السياسة موضوعًا رئيسيًا للنقاش في التيار الرئيسي في الولايات المتحدة، حتى لو كان ذلك فقط للتشهير بمؤلفيه والدفاع عن اللوبي ضد حججهم المقنعة.
وبالإضافة إلى التقييمات الموضوعية لدور اللوبي الإسرائيلي، هناك مجموعة متنوعة من نظريات المؤامرة المعادية للسامية والعنصرية البيضاء حول النفوذ المزعوم “لليهود” في الدول الغربية وسيطرتهم المزعومة على الحكومة الأمريكية.
ومع ذلك، يستخدم المعلقون المؤيدون للوبي هذا الأمر كهراوة لضرب أصحاب الانتقادات الصحيحة للوبي الإسرائيلي التي لا علاقة لها بمعاداة السامية – وهي معاملة تعرض لها ميرشايمر ووالت وغيرهما.
وتتراوح المناقشات العاقلة والمنطقية حول اللوبي الإسرائيلي بين من يرى أنه في غياب التأثير الهائل للوبي؛ فإن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ستكون أقل عداءً للفلسطينيين، وبين من يرى أن تأثير اللوبي لا يتعدى مجرد الهتاف والدفع بالسياسة الأمريكية الحالية في نفس الاتجاه الذي تدين له بالفضل. ولطالما كانت وجهة نظري أقرب إلى الفئة الأخيرة.
“عدو لدود”
إن الادعاء بأن اللوبي الإسرائيلي يتحكم في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط يرقى إلى إعفاء الولايات المتحدة من المسؤولية عن جميع سياساتها الإمبريالية في العالم العربي والشرق الأوسط عمومًا منذ الحرب العالمية الثانية، بل إن إسرائيل ولوبيها هما اللذان دفعا الولايات المتحدة إلى سن سياسات تضر بمصالحها الوطنية ولا تفيد إلا إسرائيل، كما تدعي هذه الحجة.
إن قيام الولايات المتحدة بمنع كل الدعم الدولي والأممي للحقوق الفلسطينية بينما تسلح إسرائيل وتمولها في حربها ضد السكان المدنيين وتحميها من غضب المجتمع الدولي لا ينبغي أن يُلقى اللوم فيه على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بل على إسرائيل ولوبيها.
إن ما يغفل عنه هذا النمط من التفكير هو حقيقة أن حكومة الولايات المتحدة لم تدعم قط التحرر الوطني في العالم الثالث.
إن سجل الولايات المتحدة هو سجل العدو اللدود لجميع جماعات التحرر الوطني، بما في ذلك الجماعات الأوروبية، من اليونان إلى أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا وآسيا؛ فدعمها لجماعات مثل المجاهدين الأفغان في حربهم ضد الحكومة الثورية الأفغانية والاتحاد السوفيتي، و”يونيتا” و”رينامو”، الحليفين الإرهابيين الرئيسيين لجنوب أفريقيا العنصرية في أنغولا وموزمبيق، ضد حكومتيهما الوطنيتين الثوريتين المناهضتين للاستعمار، والكونترا ضد الحكومة الساندينية الثورية في نيكاراغوا، كلها حالات كانت الولايات المتحدة تدعم فيها جماعات معادية للثورة عازمة على تدمير الحكومات الثورية الوطنية التحررية.
أما لماذا قد تدعم الولايات المتحدة بعد ذلك التحرر الوطني الفلسطيني في غياب اللوبي الإسرائيلي فهو أمرٌ تفشل هذه الحجة في معالجته.
وعندما طرحتُ هذه الحجج لأول مرة قبل عقدين من الزمن، اعترض عليها أكاديمي أمريكي مسيحي أبيض مؤيد لفلسطين في حوارٍ أجريتُه معه، وأصرَّ على أن الولايات المتحدة دعمت الرئيس المصري جمال عبد الناصر ضد الغزو الثلاثي لمصر سنة 1956 من قبل فرنسا وبريطانيا وإسرائيل، لكن دعم الولايات المتحدة في هذه الحالة اليتيمة، كما رددت عليه، كان منطلقه قصقصة أجنحة فرنسا وبريطانيا. فقد اعتقدت هاتان الإمبراطوريتان السابقتان أنه لا يزال بإمكانهما التصرف بشكل إمبريالي بعد الحرب العالمية الثانية في حين أن الولايات المتحدة هي التي أنقذتهما من العدوان النازي.
وعارضت الولايات المتحدة أيضًا قرار إسرائيل في تلك الحالة بتنسيق عدوانها على مصر مع هذه الإمبراطوريات السابقة بدلًا من تنسيقها مع حكومتها.
وسرعان ما أدركت إسرائيل أن بإمكانها مواصلة العدوان نفسه على جيرانها بالتنسيق مع الولايات المتحدة. وكما هو متوقع؛ لم تعترض الولايات المتحدة على الإطلاق على أي غزوات إسرائيلية لاحقة (1967، 1978، 1981، 1982، 1985، إلخ) على الدول العربية المجاورة.
المصالح الإمبريالية الأمريكية
إن الحجة ذات الصلة بأن تأثير اللوبي الإسرائيلي على الحكومة الأمريكية هو ما أدى إلى الغزو الأمريكي للعراق هي حجة غير مقنعة أيضًا.
وهذا لا يعني أن اللوبي لم يدعم بنشاط المجهود الحربي الذي قادته الولايات المتحدة (فقد فعل ذلك بالتأكيد). ومع ذلك؛ فقد كان في نهاية المطاف يدفع باتجاه حرب كانت مرغوبة ومخطط لها بالفعل من قبل مصالح إمبريالية سياسية واقتصادية أمريكية أخرى ذات نفوذ أكبر بكثير.
إن غزو العراق يأتي في أعقاب سياسة ثابتة للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية للإطاحة بجميع الأنظمة في العالم الثالث التي تصر على السيطرة على مواردها الوطنية، سواء كانت أرضًا أو نفطًا أو معادن ثمينة أخرى.
ويمتد ذلك من إيران في سنة 1953 إلى غواتيمالا في سنة 1954، إلى بقية دول أمريكا اللاتينية، وصولاً إلى فنزويلا وإيران في الوقت الحاضر. وقد كان حال أفريقيا أسوأ بكثير في العقود الستة الماضية، وكذلك الحال بالنسبة لدول آسيا.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك الإطاحة بأنظمة مثل جاكوبو أربينز في غواتيمالا وجواو غولارت في البرازيل ومحمد مصدق في إيران وباتريس لومومبا في الكونغو وسلفادور أليندي في تشيلي، ومحاولات الإطاحة بهوغو تشافيز ونيكولاس مادورو، وكذلك الإطاحة بالأنظمة القومية مثل نظام أحمد سوكارنو في إندونيسيا وكوامي نكروما في غانا.
وقد أدى الإرهاب الذي أُطلق على الشعوب التي تحدت الأنظمة التي فرضتها الولايات المتحدة من السلفادور ونيكاراغوا إلى الكونغو، ولاحقًا زائير وشيلي وإندونيسيا، إلى مقتل مئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، على يد الشرطة القمعية والجيوش التي دربتها الولايات المتحدة لهذه المهام الهامة.
هذا عدا عن الغزوات الأمريكية المباشرة لبلدان جنوب شرق آسيا وأمريكا الوسطى التي قتلت ملايين لا حصر لها على مدى عقود.
وبما أن اللوبي الإسرائيلي لم يلعب أي دور في كل هذه الغزوات أو التدخلات الأخرى؛ فلماذا إذن لم تقم الولايات المتحدة بغزو العراق (أو أفغانستان) أو التوقف عن تهديد إيران من تلقاء نفسها؟ هذه هي الأسئلة السياسية التي لا يمكن لمنتقدي قبضة اللوبي الإسرائيلي الخانقة على الحكومة الأمريكية تفسيرها.
وكان يمكن لمثل هذه الحجة أن تكون مقنعة أكثر لو كان اللوبي الإسرائيلي يجبر الحكومة الأمريكية على انتهاج سياسات في الشرق الأوسط تتعارض مع سياساتها العالمية في أماكن أخرى، غير أن هذا أبعد ما يكون عما يحدث.
تداخل الأجندات
وفي حين أن سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد تكون في كثير من الأحيان شكلاً مبالغًا فيه لسياساتها القمعية والمعادية للديمقراطية في أماكن أخرى من العالم، إلا أنها لا تتعارض معها.
ويمكن للمرء بسهولة أن يدعي أن قوة اللوبي الإسرائيلي هي ما يفسر هذه المبالغة، ولكن حتى هذا الادعاء ليس مقنعًا تمامًا.
فلطالما جادلتُ بأن مركزية إسرائيل في الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط هي التي تفسر جزئيًا قوة اللوبي الإسرائيلي وليس العكس.
في الواقع، يستشهد البعض بالدور الذي لعبه الأعضاء المؤيدون لإسرائيل، وخاصة المؤيدين لليكود، في إدارة بوش (أو حتى إدارة كلينتون)، ناهيك عن أعضاء إدارة أوباما أو ترامب أو بايدن، إلى جانب المليارديرات الأمريكيين المؤيدين لإسرائيل، كدليل على قوة اللوبي الهائلة.
ومع ذلك، يمكن القول إن هؤلاء السياسيين والمليارديرات الأمريكيين هم الذين دفعوا، منذ التسعينات، حزب الليكود والأحزاب السياسية الإسرائيلية الأخرى إلى تبني أجندة أكثر عدوانية. ويستمر هذا التحريض حتى اليوم وسط حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة.
وهذا لا يعني أن قادة اللوبي الإسرائيلي لا يتباهون بانتظام بتأثيرهم الحاسم على السياسة الأمريكية في الكونغرس والبيت الأبيض.
لقد احتفلوا مؤخرًا بنجاحهم في هزيمة بومان وتفاخروا بانتظام بدورهم منذ أواخر السبعينات.
لكن اللوبي قوي في الولايات المتحدة لأن مزاعمه الرئيسية تدور حول تعزيز المصالح الأمريكية، ودعمه لإسرائيل يأتي في سياق دعمه للنزعة العسكرية الأمريكية واستراتيجيتها الشاملة في الشرق الأوسط.
ويلعب اللوبي الإسرائيلي اليوم نفس الدور الذي لعبه اللوبي الصيني في الخمسينات لدعم تايوان ضد جمهورية الصين الشعبية، ولا يزال اللوبي الكوبي يلعب ضد الحكومة الثورية الكوبية ولصالح المنفيين الكوبيين المعادين للثورة.
إن حقيقة أن اللوبي الإسرائيلي أكثر نفوذًا من أي لوبي آخر في مجال السياسة الخارجية في الولايات المتحدة لا يرجع إلى أنه يمتلك قوة خيالية لتوجيه الولايات المتحدة بعيدًا عن “مصلحتها الوطنية”. وإذا كان هناك أي شيء، فهو يثبت فقط مدى أهمية إسرائيل بالنسبة للإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة.
ولم يتمكن اللوبي الإسرائيلي من بيع رسالته، ولن يكون له أي تأثير إذا كانت إسرائيل دولة شيوعية أو معادية للإمبريالية، أو إذا عارضت إسرائيل السياسة الأمريكية في أماكن أخرى من العالم. في الواقع، سيكون هذا اقتراحًا مضحكًا.
موافقة عربية
قد يجادل البعض بأنه على الرغم من أن إسرائيل تحاول تداخل مصالحها مع مصالح الولايات المتحدة، إلا أن اللوبي الإسرائيلي يعمد إلى تضليل صناع القرار في الولايات المتحدة ويحول موقفهم من التقييم الموضوعي لما هو في مصلحة الولايات المتحدة ومصلحة إسرائيل.
وتقول الحجة إن الدعم الأمريكي لإسرائيل يقود الجماعات السياسية والمتشددة في الشرق الأوسط التي تعارض إسرائيل إلى أن تصبح معادية للولايات المتحدة نفسها وتستهدفها بالهجمات.
كما أن مثل هذا الدعم يكلف الولايات المتحدة خسارة التغطية الإعلامية الودية في العالم العربي، ويؤثر على إمكاناتها الاستثمارية في الدول العربية، ويضعف حلفائها الإقليميين العرب. لكن لا شيء من هذا صحيح بالضرورة.
لقد تمكنت الولايات المتحدة من أن تكون أكبر داعم وممول لإسرائيل، وأقوى مدافع لها ومورد للأسلحة، بينما حافظت على تحالفات إستراتيجية مع أغلب، إن لم يكن كل، الأنظمة الدكتاتورية العربية، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، تحت قيادة ياسر عرفات ومحمود عباس.
والحقيقة أنه كلما زاد تعنت الولايات المتحدة في دعم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل حاليًّا في حق الفلسطينيين، كلما احتضنها الحكام العرب.
علاوة على ذلك؛ تتمتع الشركات والاستثمارات الأمريكية بأكبر حضور في جميع أنحاء العالم العربي، وأبرزها، ولكن ليس حصرا، في قطاع النفط.
ويتم نشر جيش كامل من الصحف العربية، ومحطات التلفزيون الخاصة والحكومية، وعدد لا يحصى من محطات التلفزيون الفضائية المملوكة لأمراء الخليج العربي، ناهيك عن المواقع الإلكترونية الضخمة ومنافذ الأخبار على الإنترنت التي تمولها المنظمات غير الحكومية الغربية، للترويج لوجهة النظر الأمريكية.
إنهم يحتفلون بالثقافة الأمريكية، ويبثون برامجها التلفزيونية، ويحاولون الترويج لمواقف الولايات المتحدة بأكبر قدر ممكن من الفعالية، مثقلين فقط بالقيود التي تفرضها السياسات الأميركية الفعلية في المنطقة على المنطق السليم.
وقد حاولت شبكة الجزيرة المثيرة للجدل حتى وبقدر الإمكان استيعاب وجهة النظر الأمريكية، ولكن مرة أخرى، غالبًا ما يتم تقويضها بسبب السياسات الأمريكية الفعلية في المنطقة.
تحت ضغط هائل وتهديدات بالقصف من الولايات المتحدة أثناء غزوها للعراق، توقفت الجزيرة عن الإشارة إلى الجيش الأمريكي في العراق باسم “قوات الاحتلال”، وتحولت إلى “قوات التحالف”.
المنفعة المتبادلة
وفي حججهم المالية حول النفوذ الهائل الذي يتمتع به اللوبي الإسرائيلي، يشير كثيرون إلى الكم الهائل من الأموال التي “تمنحها” الولايات المتحدة لإسرائيل، وهي تكلفة باهظة للغاية ولا تتناسب مع ما تحصل عليه الولايات المتحدة في المقابل.
في الواقع، تنفق الولايات المتحدة على قواعدها العسكرية في العالم العربي، بما في ذلك قطر والبحرين والأردن والمملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة ــ ناهيك عن تلك الموجودة في أوروبا أو أفريقيا أو آسيا ــ أكثر مما تنفقه على قواعدها العسكرية في إسرائيل.
وبين 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وكانون الثاني/ يناير 2024، أنفقت الولايات المتحدة 1.6 مليار دولار على حشدها العسكري في الشرق الأوسط للدفاع عن مصالحها الإمبراطورية. وبين سنتي 2001 و2019، أنفقت الولايات المتحدة 6.4 تريليونات دولار على حروبها في أفغانستان والعراق وسوريا وباكستان وحدها.
لقد كانت إسرائيل بالفعل فعالة للغاية في تقديم الخدمات لسيدها الأمريكي مقابل ثمن جيد، سواء في توجيه الأسلحة غير القانونية إلى ديكتاتوريات أمريكا الوسطى في السبعينات والثمانينات أو مساعدة الأنظمة المنبوذة مثل تايوان وجنوب إفريقيا التي تعاني من الفصل العنصري في نفس الفترة.
بالإضافة إلى ذلك؛ دعمت الجماعات الموالية للولايات المتحدة، بما في ذلك الفاشية، داخل العالم العربي لتقويض الأنظمة العربية القومية، من لبنان إلى العراق إلى السودان.
لقد هبت إسرائيل لمساعدة الأنظمة العربية المحافظة الموالية للولايات المتحدة عندما تعرضت للتهديد، كما فعلت في الأردن في سنة 1970. وهاجمت الأنظمة القومية العربية بشكل مباشر في سنة 1967 مع مصر وسوريا، وفي سنة 1981 مع العراق عندما دمرت المفاعل النووي في البلاد.
وفي حين تمكنت الولايات المتحدة من الإطاحة بسوكارنو ونكروما في انقلابات دموية في منتصف الستينات، ظل عبد الناصر راسخًا إلى أن قامت إسرائيل بتحييده فعليًّا في حرب سنة 1967. وبفضل هذه الخدمة الرئيسية، زادت الولايات المتحدة دعمها لإسرائيل بشكل كبير.
فضلاً عن ذلك فإن تحييد إسرائيل لمنظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1982 لم يكن مجرد خدمة بسيطة للعديد من الأنظمة العربية وراعيتها الولايات المتحدة، التي لم تكن قادرة على السيطرة بشكل كامل على المنظمة حتى ذلك الحين.
ولا يمكن لأي من القواعد العسكرية الأمريكية، التي أُنفقت عليها المليارات، أن تحقق مثل هذا السجل الممتاز.
وقد يعترض البعض قائلين إنه إذا كان هذا صحيحًا، فلماذا اضطرت الولايات المتحدة إلى التدخل بشكل مباشر في الكويت والعراق؟
في تلك الحالات؛ كان التدخل الأمريكي المباشر ضروريًّا، إذ لم يكن بوسعها الاعتماد على إسرائيل للقيام بهذه المهمة بسبب حساسية إدراجها في مثل هذا التحالف، الأمر الذي من شأنه أن يحرج الحلفاء العرب. ورغم أن هذا ربما أظهر عدم جدوى إسرائيل كحليف إستراتيجي، إلا أن الولايات المتحدة لم يكن بوسعها أيضًا الاعتماد على أي من قواعدها العسكرية لشن عمليات الغزو بمفردها، وكان عليها أن ترسل جيشاً لإتمام المهمة.
لقد قدمت القواعد الأمريكية في الخليج دعمًا أساسيًا، لكن إسرائيل فعلت ذلك أيضًا.
صحيح أن عملية طوفان الأقصى قد قلبت تماما الأهمية العسكرية الإستراتيجية لإسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة.
ولا تزال الهزيمة العسكرية الإسرائيلية أمام المقاومة الفلسطينية تتطلب المساعدة العسكرية الأمريكية والبريطانية، فقد بدأت دعواتها للحصول على الدعم الغربي في وقت مبكر من 8 تشرين الأول/ أكتوبر لدعم قوتها العسكرية، مع طلبات إضافية للدعم في نيسان/ أبريل.
وقامت القواعد الأمريكية والمملكة المتحدة والأمريكية في الأردن بمعظم العمل في الدفاع عن إسرائيل ضد الانتقام الصاروخي الإيراني في أعقاب القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق.
ومع ذلك، بالنسبة للولايات المتحدة فإن نقاط الضعف الواضحة التي تعاني منها إسرائيل لم تغير من الدور الذي تلعبه في المنطقة. ويشمل ذلك تدمير كل مقاومة لمصالح الولايات المتحدة وكل ما من شأنه أن يقوض استراتيجيتها، بما في ذلك مكانة إسرائيل فيها.
ادعاءات مبالغ فيها
وباعتبارها القوة الأكثر شراسة في صفوف اللوبي الإسرائيلي، فإن “آيباك” قوية بالفعل بقدر ما تدفع باتجاه سياسات تتوافق مع المصالح الأميركية وتنسجم مع الإيديولوجية الإمبراطورية الأميركية السائدة.
لقد أوضحت الأشهر التسعة الماضية بشكل واضح أن قوة اللوبي الإسرائيلي، سواء في واشنطن أو في الحرم الجامعي، لا تعتمد فقط على مهاراته التنظيمية أو توحيده الأيديولوجي.
إن المواقف المعادية للسامية في صفوف زعماء الكونغرس، وصناع السياسات، ومديري الجامعات، تعمل إلى حد كبير على تعزيز اعتقاداتهم في ادعاءات اللوبي المبالغ فيها ــ وادعاءات أعدائه ــ بشأن قوته الفعلية، الأمر الذي أدى إلى انصياعهم للخط الأحمر. وفي مثل هذا السياق، لا يهم إذا كان اللوبي يتمتع بقوة حقيقية أو مصطنعة.
وما دام قادة الحكومة، وخاصة مديرو الجامعات، يعتقدون أنها تفعل ذلك بناءً على تحيزهم المعادي للسامية أو تقييماتهم الموضوعية، فإنها ستظل فعالة وقوية.
قد يتساءل البعض بعد ذلك: من دون هذا التأثير الذي يمارسه اللوبي الإسرائيلي القوي، ما الذي كان سيختلف في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟
الجواب باختصار هو التفاصيل وكثافة هذه السياسات، ولكن ليس اتجاهها أو محتواها أو تأثيرها. إذن، هل اللوبي الإسرائيلي قوي للغاية في الولايات المتحدة؟
باعتباري شخصًا واجه العبء الأكبر من قوته على امتداد العقدين الماضيين، من خلال تأثيره الضخم على جامعتي وحملات الضغط المكثفة التي أدت إلى طردي، أجيب بنعم بالتأكيد.
هل اللوبي هو المسؤول الأول عن السياسات الأمريكية تجاه الفلسطينيين والعالم العربي؟ بالطبع لا.
إن العالم العربي، وخاصة الفلسطينيين، يعارضون الولايات المتحدة بسبب تاريخها في انتهاج سياسات تتعارض مع مصالح أغلب الناس في تلك البلدان.
وكان هدفها الوحيد هو حماية مصالحها الخاصة وأنظمة الأقلية في المنطقة التي تخدم تلك المصالح، بما في ذلك إسرائيل.
ولن يتسنى للإبادة الجماعية الإسرائيلية الجارية ضد الفلسطينيين أن تتوقف إلا في غياب السياسات الأميركية الضارة، وليس اللوبي الذي يدعمها.
إن حكومة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين هم الذين يتحملون المسؤولية الكاملة عن التحريض والإمداد والدفاع عن حق إسرائيل في ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.
إن الجهود التي يبذلها اللوبي الإسرائيلي لجعل الولايات المتحدة تدعم إسرائيل أكثر مما تدعمها هي، هو عمل متواطئ في الإبادة الجماعية المستمرة، لكنها بالتأكيد ليست السبب الرئيسي لهذه الجريمة الوحشية.
المصدر: ميدل إيست آي