يستطيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مواصلة التغريد حتى بعد أن أعلن أن المهمة أُنجزت في سوريا ونُفذت الضربات بنجاح، بينما يستطيع رئيس النظام السوري بشار الأسد أن ينام مُطمئنًا، فقد قال مسؤولو التحالف الثلاثي إنه ليس مستهدفًا، فهناك ما هو أبعد من استهداف شخص.
قبل أيام، أزبد هؤلاء وأرعدوا، ونثروا تصريحاتهم وهددوا ثم تمخض جبلهم فولد فأرًا، وتبعثرت الكلمات وعبرت عن أجندات مختلفة التقت جميعها على أرض سوريا، فاكتفوا بضربة محدودة يبدو أن أمرها نُسق ليس فقط مع بعضهم، وإنما أيضًا مع من توعدوهم بها.
أمريكا.. أسباب غير معلنة
لم تفصح الإدارة الأمريكية كعادتها عن خطتها في سوريا، باستثناء السبب المعلن من جانب واشنطن وحلفائها، وهو ردع النظام السوري عن استعمال السلاح الكيميائي ضد المدنيين في مدينة دوما بريف دمشق مؤخرًا ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
ويعتقد محللون أن الهجوم – الذي تراجعت أسهم حدوثه في الأيام الماضية – يخفي وراءه أسبابًا أخرى تتعلق في مجملها بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب وما يواجهه من تحديات داخلية تقض مضجعه، أبرزها العلاقة المحتملة لحملته مع روسيا قبل انطلاق الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016، وعودة شبح المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي الذي أقاله ترمب في مايو/أيار الماضي.
لكن تصريح مسؤول أمريكي لوكالة رويترز أن الضربة العسكرية استهدفت زعزعة الوضع في المنطقة، يخلط الأوراق بشأن نوايا واشنطن التي تكمن في إرباك التحالف الروسي الإيراني التركي ومسلسل أستانة، وسعيها لتشكيل تحالف أكبر ضد إيران وروسيا على الأرض السورية.
شاركت القوات المسلحة البريطانية في الضربة العسكرية ضد النظام السوري، بعد إحباط الجهود الدبلوماسية للحكومة والتأكد من تورطه في الهجوم الكيميائي على دوما
أما ترامب فقد زاد الأسباب غموضًا، إذ به يغرد بعيدًا عن إدارته المنقسمة، ويخوص المعركة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، وهناك رفع سقف التوقعات فإذا به يسخر من روسيا نفسها لا النظام السوري فحسب ويدعوها للاستعداد فالصواريخ “الذكية والجميلة” قادمة.
وحين جاءت لحظة الحقيقة أمر الرئيس الأمريكي بضرب سوريا استنادًا لمبادر سري قانوني لا يعرفه حتى الكونغرس، وتقول صحيفة الإنترسبت الأمريكية لمن يتساءل: كيف أمر ترامب بقصف سوريا دون تفويض من الكونغرس حسبما يشترط الدستور؟
الإجابة بسيطة لكن غربية، فترامب استغل تبريرًا قانونيًا وفره له مكتب الاستشارات القانونية بوزارة العدل ولا يستطيع أي طرف الإطلاع عليه حتى الكونغرس، وسبق لترامب الحصول على تبرير قبل ضرب سوريا العام الماضي، ولعل هذا ما حصل فجر السبت.
رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي
بريطانيا: هدفنا الكيميائي وليس الأسد
شاركت القوات المسلحة البريطانية في الضربة العسكرية ضد النظام السوري، بعد إحباط الجهود الدبلوماسية للحكومة والتأكد من تورطه في الهجوم الكيميائي على دوما، تشدد رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي على ذلك، وتوضح أن هدف المشاركة إضعاف قدرات النظام السوري من الأسلحة الكيميائية وردعه عن استخدامها.
وفي عُرف بريطانيا لم يعد الأسد مستهدفًا، وسبق أن قالتها ماي صراحة؛ لذلك يستطيع الرجل أن يكررها، ويذهب مجددًا إلى ما يوصف بمسرح الجريمة في الغوطة، وأن يتجول بسيارته ويصافح كبار ضباطه وصغارهم ويعدهم بالنصر.
وبعد الضربات الجوية التي شاركت فيها بريطانيا بأربع طائرات من طراز “تورنادو” تابعة لسلاح الجو الملكي، استطاعت تيريزا ماي ادعاء النصر، فقد انتقمت من تسميم العميل المزدوج سكريبال، وأصدرت بيانًا يتماشى مع بيان البيت الأبيض، وقالتها صراحة “لسنا جزءًا من الصراع الداخلي بسوريا ولا نريد خلع الأسد وهدفنا الكيميائي فقط”، أما أن يقتل شعبه بأي سلاح آخر وبالنابالم والفوسفور والبراميل المتفجرة في شأن آخر لا يعني ماي كثيرًا.
أكد زعيم حزب العمال البريطاني المعارض جيريمي كوربين أن “القنابل لن تنقذ الأرواح أو تجلب السلام، هذا العمل المشكوك فيه قانونيًا يخاطر بمزيد من التصعيد”
وفي ظل مواجهتها معارضة تتهمها بأنها اتخذت القرار بتوجيه الضربة انسياقًا وراء الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، ودون الحصول على موافقة البرلمان، تمكنت رئيسة الوزراء من المشاركة في الضربات الجوية دون إثارة ضجة داخلية، ولديها في ذلك مبرارتها، وأهمها النصر، فتلك واحدة من الحروب نادرة جدًا في التاريخ التي يخرج منها الجميع منتصرين أو قادرين على ادعاء النصر إذا شاؤوا.
وأكد زعيم حزب العمال البريطاني المعارض جيريمي كوربين أن “القنابل لن تنقذ الأرواح أو تجلب السلام، هذا العمل المشكوك فيه قانونيًا يخاطر بمزيد من التصعيد“، وطالب كوربين بأن “تلعب بريطانيا دورا قياديا تجاه سوريا دون أن تتلقى تعليمات من واشنطن وتعرض حياة أفراد في الجيش البريطاني للخطر“.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
فرنسا تبحث عن الحل السياسي أولاً
تختلف المبررات التي ساقتها باريس عن مشاركتها في الغارات الجوية كثيرًا عن واشنطن ولندن، فتلك المرة الأولى التي يأمر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشن عملية عسكرية واسعة على نظام الأسد بمشاركة أمريكا وبريطانيا، إذ قال بيان لماكرون إن فرنسا لن تسمح بأن يصبح استخدام السلام الكيميائي أمرًا طبيعيًا.
وبحسب وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، انخرطت فرنسا في الضربة العسكرية ضمن أجندة متكاملة أوضحها بتأكيده من قصر الإليزيه أن استهداف مواقع للنظام السوري بضربة عسكرية لا يهدف لتغيير المعادلة على الأرض، وإنما يندرج ضمن خطوات تصل إلى الحل السياسي للأزمة السورية.
كانت فرنسا قد وضعت في مايو/أيار 2017 خطًا أحمر ضد استخدام السلاح الكيميائي في سوريا، وهو الخط الذي هدد ماكرون بعدم تجاوزه
وأوضح لودريان أن أولويات المرحلة بالنسبة لفرنسا في سوريا هي: إنهاء الترسانة الكيميائية للنظام السوري وتسهيل المساعدات الإنسانية ووقف إطلاق النار وإطلاق مسلسل سياسي لحل الأزمة.
وأكد الوزير الفرنسي أن العدو الأول لبلاده هو تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وأن إضعاف النظام السوري في هذه المرحلة قد يقوي التنظيم، مشيرًا إلى أن باريس ستستأنف المبادرات السياسية لتفكيك البرنامج الكيميائي السوري بطريقة يمكن التحقق منها ولا رجعة فيها، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن وقف إطلاق النار ووصول المساعدات الإنسانية إلى السكان.
وكانت فرنسا قد وضعت في مايو/أيار 2017 خطًا أحمر ضد استخدام السلاح الكيميائي في سوريا، وهو الخط الذي هدد ماكرون بعدم تجاوزه، وقد فعل الأسد، وفعل ماركون وخرج منتصرًا، لكن وحدهم هؤلاء من يدفعون الثمن، هنا في دوما حيث آخر مجزرة أو هناك في إدلب حيث يهيئ النظام وحلفاءه لأخرى ليس لهم سوى الله كما سبق وهتفوا مرارًا.
خيار الحد الأدنى.. ما لا يقتل يُقوي
اختلفت أجندات ثلاثي الضربات الجوية واختلف معها التأثير، فجاء الهجوم العسكري على مواقع في سوريا وكأنه “حل وسط” ينزل ترامب وحلفاؤه من فوق الشجرة ويحفظ لهم ماء الوجه، ولا يحرج موسكو، كما أنه لا يشكل تهديدًا للرئيس السوري بشار الأسد في وجوده أو مستقبل حملته العسكرية.
ولم يكن لتلك الضربة “الاستعراضية” كما وصفها حتى الإعلام الغربي أي تأثير على الصعيدين العسكري والسياسي للنظام، إذ واصلت قواته التقدم في معظم الجبهات – بما ذلك دير الزور والغوطة وإدلب – واستعادت آلاف الكيلومترات، كما فرضت موسكو أجندتها السياسية بشأن الحل.
إذاً ليست هي الطريقة الكافية أو المناسبة لمعاقبة “الوحوش”، بحسب مقال للكاتب كريستوفر ديكي بمجلة ديلي بيست، فالوحوش لا ترد على هجمات محدودة كتلك التي شنت في سوريا، في الواقع ما لا يقتلهم يجعلهم أقوى، وبالنسبة للأسد، كانت العقوبة التي قررها المسؤولون الأمريكيون أشبه ما تكون بتذكرة عبور.
وفيما تؤكد الولايات المتحدة وحلفاؤها نجاح الضربة الثلاثية وتشكليها رادعًا للأسد وشل قدرات جيشه الكيميائية المفترضة تشير كل من دمشق وموسكو إلى أن نظام الأسد امتص الصدمة سريعًا، إذ تصدت أنظمة الدفاع الجوي السورية للضربات، وأبطلت أي مفعول عسكري لها، واعترضت معظم الصواريخ المستخدمة في الهجوم، بينما لم يتجاوز رد روسيا التفوه بكلمات غاضبة.
الأسد يستطيع ادعاء النصر حتمًا، وكذلك بوتين، فالأول باقٍ ويتمدد بل إن الضربات الأخيرة منحته ذخيرة إضافية لما يرى أنها شرعيته
وفي هذه الإطار، ترى صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن المهمة في سوريا أبعد ما تكون عن الإنجاز، مشددة على أنه لن يكون في الإمكان ضمان عدم تعرض السوريين لمزيد من الفظائع بأسلحة كيميائية أو بوسائل أخرى إلا برحيل نظام الأسد، وعندئذ تكون المهمة قد اُنجزت.
في أحسن الأحوال، ربما يردع الهجوم الذي قادته أمريكا الأسد عن استخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين ومعارضيه، وفي أسوأها يُظهر للأسد ورفاقه أن إدارة ترامب ليست لديها رغبة في تغيير النظام أو خوض مواجهة مع روسيا أو إيران، وليست لديها إستراتيجية قد تؤدي بالفعل إلى إنهاء حرب.
الأسد يستطيع ادعاء النصر حتمًا، وكذلك بوتين، فالأول باقٍ ويتمدد بل إن الضربات الأخيرة منحته ذخيرة إضافية لما يرى أنها شرعيته، فالضربات لم تمس الجهاز العصبي الحساس لقوته العسكرية ولا المنشآت بالغة الأهمية بالنسبة له، وقصر المهاجرين على حاله، ولم تمسها رصاصة واحدة، بل إن ترامب أسدى له خدمة أخرى إذ أصبح الأسد خارج الاستهداف اليوم، وما وصفه بالـ”حيوان” سوى تصعيد كلامي وانفعالي يزيده قوة وجاذبية لدى مناصريه، فها هو من وصف بذلك ينتصر على رئيس أقوى دولة في العالم، فماذا يريد الأسد أكثر من ذلك؟