ترجمة وتحرير: نون بوست
يشعر الملايين في جميع أنحاء العالم بالفزع مما يعتبرونه فشلاً ذريعاً للنظام القانوني الدولي في منع الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة. وعلى الرغم من الدعاوى الكبرى المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، إلا أن هناك شعورًا متزايدًا بالإحباط من أن القانون لم يقم بعمله. وفي حين أن هذا الغضب مفهوم، إلا أنه يستند إلى مفهوم جوهري خاطئ مفاده أن هدف القانون الدولي هو القضاء على العنف. قد يكون هذا ما يعِد به ميثاق الأمم المتحدة، ولكن هذا ليس ما يُتوقّع أن يفعله القانون الدولي ولا ما يفعله فعلًا.
إن الصدمة والغضب إزاء هذه التطورات القانونية التي تبدو غير مجدية – على حد تعبير الفيلسوف والتر بنيامين عن مفهومنا للتاريخ – هي إلى حد كبير نتيجة رؤية غير مقبولة للنظام القانوني الدولي نفسه. فهذا النظام لا يفشل في غزة، بل هو في الواقع يؤتي الثمار التي صُمّم لأجلها. فالإبادة الجماعية للفلسطينيين لم تتوقف لأن كل الأمور تسير على النحو المنشود تمامًا.
لقد بُني النظام القانوني الدولي ليعمل على إدارة الحرب وليس إنهائها، ولا يقوم النظام بذلك ببساطة بطريقة حتمية أو عمياء. فمفهوم إدارة العنف يشير إلى الديناميكيات التي يتم من خلالها تطبيق المعايير الإمبريالية والاستعمارية على ما هو عنف مشروع وغير مشروع في القانون: ما هو نوع العنف الذي يمكن دعمه أو الذي يجب رفضه أو تجريمه، ومن يستطيع أو لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وفي الوقت نفسه، يسكت القانون عن العنف الذي يمارسه هو نفسه.
وتعد قرارات محكمة العدل الدولية بشأن قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل خير مثال على ذلك. فقد كان من المدهش للغاية، بل والمثير للإحباط أحيانًا، سماع الترحيب غير النقدي عموماً بقرار محكمة العدل الدولية الأول الصادر في 26 كانون الثاني/يناير، الذي أمر بتدابير مؤقتة. وقد جادل الكثيرون بأنه على الرغم من أن القرار لم يأمر بوقف إطلاق النار، إلا أننا بحاجة إلى استخدام أبعاده الإيجابية لتعزيز الدفاع عن فلسطين – وهم محقون تمامًا في ذلك.
فعلى سبيل المثال، أثار القرار مسؤولية الدول الثالثة عن منع الإبادة الجماعية، وأي شكوك تم التذرع بها من قبل لم تعد معقولة بعد 26 كانون الثاني/يناير. كما أنه سمح بمقاضاة تلك الدول المتواطئة في الإبادة الجماعية، وسمح أيضًا بمجموعة واسعة من الإجراءات القانونية الأخرى في الولايات القضائية المحلية والدولية، ضد المسؤولين الحكوميين والأفراد المتواطئين أو المشاركين في جرائم الحرب في غزة. ويجري حاليًا استكشاف هذه السبل ومتابعتها في العديد من البلدان بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا.
وبالتالي ينبغي بالتأكيد وضع الآثار الإيجابية لقرارات محكمة العدل الدولية في خدمة الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وتوجيه أعمالنا واستراتيجياتنا عند الضرورة، ولكن ينبغي أن يتم ذلك دون أن نخدع أنفسنا أو أن نغض الطرف عن آثار القرارات الأخرى الضارة للغاية، بما في ذلك توجيه نقدٍ قوي لما تفعله تلك الإجراءات القانونية بمطالبنا السياسية.
وفي الواقع، إن مسار الأحداث في غزة يجعل هذا النقد أمرًا ملحًا: فالإبادة الجماعية مستمرة في التطور، ولكن يتم الآن التعتيم عليها وترشيدها بلغة قانونية ومناقشات تقنية حول ما إذا كانت إسرائيل تحترم قرارات المحكمة، وما إذا كان لإسرائيل الحق في الدفاع عن النفس، وما يعنيه كل ذلك بالنسبة لمسؤولية الدول الثالثة بموجب القانون الدولي.
معيبة قانونيًا وفاحشة سياسيًا
لا ينبغي لنا أن نعفي محكمة العدل الدولية من الانتقادات التي تستحقها قراراتها بشكل مشروع، ففي نهاية المطاف، وافقت المحكمة في قرارها الأول على أن الأعمال الإسرائيلية في غزة تشكل “بشكل معقول” إبادة جماعية وأن الوضع كان مروعًا لدرجة أنه يبرر اتخاذ تدابير مؤقتة. وعلى الرغم من هذه الحقائق التي لا جدال فيها، لم تأمر المحكمة بالتدبير الوحيد الذي يمكن أن يوقف الإبادة الجماعية: وقف فوري ودائم لإطلاق النار.
أمرت المحكمة إسرائيل فقط بـ “تنفيذ كل ما في وسعها من تدابير لتجنب ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، وتقديم تقرير عن جميع التدابير المتخذة في غضون 30 يومًا”. وقد تركنا هذا القرار في موقف عبثي يتمثل في اضطرارنا للجلوس مع مرتكبي الإبادة الجماعية ومناقشة ما إذا كانوا يبذلون كل ما في وسعهم لتجنب ما أعلنوا علنًا أنهم يعتزمون القيام به ويقومون به بالفعل.
وفي هذا الصدد، كان القرار الصادر في 26 كانون الثاني/يناير معيبًا من الناحية القانونية وفاحشًا من الناحية السياسية. كان بإمكان المحكمة أن تأمر بوقف إطلاق النار، وكان ينبغي لها أن تأمر بذلك، ولكنها لم تفعل، وكانت الآثار الملموسة – حتى وإن كانت غير مرغوب فيها – لهذا القرار هي تسهيل استمرار الإبادة الجماعية، التي أصبحت الآن محجوبة بسبب المناقشات البيروقراطية والقانونية.
وفي 12 شباط/ فبراير، طلبت جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية أن تأمر بوقف العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح، ولم ترَ المحكمة ضرورة للأمر باتخاذ تدابير جديدة. وفي 26 شباط/فبراير، قدمت إسرائيل تقريرها حول جميع التدابير المتخذة لتنفيذ الأمر الأول للمحكمة. وفي 11 آذار/مارس، ردت جنوب أفريقيا على التقرير الإسرائيلي. وفي 6 آذار/مارس، قدمت جنوب أفريقيا طلبًا جديدًا تطالب فيه المحكمة، للمرة الثالثة، باتخاذ تدابير مؤقتة أخرى، بما في ذلك تعليق العمليات العسكرية. وفي 28 آذار/مارس، أمرت المحكمة، اعترافًا منها بخطورة الأوضاع في غزة، بتدابير مؤقتة جديدة، ولكنها لم تأمر بتعليق العمليات العسكرية.
خلال الفترة التي انقضت منذ صدور الحكم الأول لمحكمة العدل الدولية، قُتل أكثر من 12 ألف فلسطيني بوحشية، وأصيب آلاف آخرون بجروح، وما زلنا نشهد التدمير المنهجي لكل البنى التحتية اللازمة للحياة في غزة: فقد تم حصار وتدمير المستشفيات بشكل متكرر، وقتل مرضاها واختطاف طواقمها الطبية؛ ومات العشرات جوعاً نتيجة مجاعة متعمدة ومدروسة؛ وما زال الأطفال الموتى يُنتشلون من تحت الأنقاض كل يوم نتيجة الهجمات الإسرائيلية المتواصلة على المنازل والمدارس ومخيمات اللاجئين.
لماذا إذًا لا تزال المحكمة ترفض الأمر بوقف إطلاق النار؟ من بين العديد من التفسيرات المقدمة، هناك سبب رئيسي تم تجاهله وهو أن محكمة العدل الدولية نفسها مدفوعة بنفس ديناميكيات القوة التي تحرك بقية النظام القانوني الدولي، وأنها تشارك عن قصد أو غير قصد في إدارة وشرعنة العنف الإمبريالي والاستعماري.
لماذا لا نوجّه هذا النقد؟ لأننا يجب أن نتصرف بشكل استراتيجي ونحشد القرار المحدود خلف النهوض بالحقوق الفلسطينية؟ حسنًا، أوافقك الرأي، ينبغي لنا أن نفعل ذلك، ولكن دون أن نخدع أنفسنا، أن نقوم بدمج الانتقادات في استراتيجياتنا لجعل المحكمة مسؤولة عن الآثار الملموسة لقراراتها. وفي ضوء ذلك، يجدر بنا الرد على بعض ردود الفعل الشائعة على قرار محكمة العدل الدولية.
”لم يكن الأمر بوقف إطلاق النار واقعيًا، وكانت إسرائيل ستخالفه على أي حال”
قال العديد من المراقبين إن رفض المحكمة إصدار أمر بوقف إطلاق النار كان متوقعًا وأنا أوافقهم الرأي للأسباب المذكورة أعلاه تحديدًا. وقد جادل آخرون بأنه حتى لو أمرت المحكمة بوقف إطلاق النار، فإن إسرائيل، مدعومةً بحلفائها الغربيين، ستتجاهله بكل بساطة. ولكن تجاهل إسرائيل الصارخ للقانون الدولي لا يجعل مثل هذا الأمر أقل ضرورة. ولا يمكن أن يعفي المحكمة من التزامها القانوني، كجهاز من أجهزة الأمم المتحدة، ببذل كل ما في وسعها لمنع الإبادة الجماعية بغض النظر عن رد فعل إسرائيل فالمحاكم لا تخجل من الحكم بالانتصاف للمجني عليه خشية ألا يلتزم الجاني.
زعم آخرون أن الهدف من إجراءات محكمة العدل الدولية لم يكن وقف إطلاق النار، ولكن إذا لم تكن هذه الإجراءات تهدف لمحاولة الحصول على وقف الأعمال العدائية لمنع وقوع إبادة جماعية. فماذا كانت تستهدف إذًا؟ أن تخلق مثالًا مثيرًا للاهتمام من الاجتهادات القضائية يمكن للباحثين والممارسين القانونيين النقاش حولها؟ أم أن تغير رأي المجتمع الدولي؟
الفلسطينيون يتجاوزون هذه الأمور، فقد تعلموا بألم أنهم وحدهم تقريبًا في نضالهم في هذا الصراع وسط مجتمع الدول. ما كان يريده الفلسطينيون ببساطة هو ألا يكونوا ضحايا إبادة جماعية متلفزة ومتعمدة مع سبق الإصرار والترصد، ولا يمكن تجنب ذلك إلا بوقف إطلاق النار.
“وقف إطلاق النار لا يمكن أن يكون من جانب واحد”
هناك حجة أخرى مفادها أن وقف إطلاق النار الذي تأمر به المحكمة يجب أن يكون متبادلاً أو ثنائياً أو متعدد الأطراف، ولكن لا يمكن أن يكون أحادي الجانب. ومع ذلك، لا يوجد نص قانوني في القانون الدولي يدعم هذه الأطروحة، والواقع أن المادة 41 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية تشير إلى أن “للمحكمة صلاحية الأمر بأي تدابير مؤقتة ينبغي اتخاذها للحفاظ على حقوق أي من الطرفين إذا رأت أن الظروف تقتضي ذلك”.
لا شك أن هذه الصياغة الواضحة تشمل أوامر وقف إطلاق النار من جانب واحد: فقد لجأت محكمة العدل الدولية في قرارها بشأن قضية الإبادة الجماعية بين روسيا وأوكرانيا في 16 آذار/مارس 2022 إلى المادة 41 للأمر بوقف إطلاق روسيا للنار من جانب واحد، دون ذكر أوكرانيا في الحكم. وبناءً على ذلك، ليس هناك شك في أن المحكمة يمكن أن تفعل الشيء نفسه مع إسرائيل.
”كان القرار متسقًا مع سوابق المحكمة”
أكد آخرون أن قرار المحكمة كان متسقًا مع قراراتها السابقة في قضايا الإبادة الجماعية. والحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك ويبدو أنها تزيد الطين بلة أن المحكمة لم تأمر بوقف إطلاق النار في إجراءات التدابير المؤقتة فيما يتعلق بقضايا البوسنة/صربيا، وغامبيا/ميانمار، وجنوب أفريقيا/إسرائيل في قضايا الإبادة الجماعية، ولكنها بالتأكيد فعلت ذلك في قضية روسيا/أوكرانيا. ومع ذلك، فإن ما يتسق مع قرار المحكمة هو المعاملة التي منحتها المحكمة للإبادة الجماعية التي تستهدف الدول غير البيضاء وغير المسيحية، بينما خرجت عن امتناعها عن وقف إطلاق النار الفوري عندما يتعلق الأمر باستهداف السكان البيض والمسيحيين.
قد يردّ البعض بأن الظروف في قضية روسيا/أوكرانيا كانت مختلفة لأن النزاع بدأ بعمل عدواني روسي، وبالتالي فإن أمر المحكمة بوقف إطلاق روسيا للنار كان منطقيًا. قد يكون الأمر كذلك، ولكن هذا هو الحال أيضًا في غزة.
بغض النظر عن الهجوم الذي قادته حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ينبغي اعتبار أن الحرب الإسرائيلية على غزة تشكل عملًا عدوانيًا غير مشروع بموجب القانون الدولي وتفسير محكمة العدل الدولية. فقد أعلنت المحكمة في رأيها الاستشاري الصادر سنة 2004 بشأن مشروعية الجدار العازل الإسرائيلي أنه بينما تملك إسرائيل الحق في حماية مواطنيها وفقًا للقانون الدولي، فإنها لا تملك الحق في الدفاع عن النفس من الهجمات القادمة من أراضٍ تحتلها مستندةً إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
لماذا قرّرت محكمة العدل الدولية ذلك في سنة 2004؟ لأن المحكمة تدرك أن الاحتلال بحد ذاته يشكل عملًا عدوانيًا بموجب القانون الدولي، وأن يُثير حق الشعب المحتل في مقاومة القوة المحتلة، إن الأعمال العسكرية في حالة الدفاع عن النفس فقط هي القانونية بموجب القانون الدولي. وبالتالي إذا لم يكن بالإمكان تبرير الهجوم الإسرائيلي الذي استمر لأشهر على غزة بهذا النحو، فهو استخدام غير قانوني للقوة، لم يكن لدى المحكمة، على هذه الأسس، سبب قانوني لاتخاذ قرار مختلف عن قرارها في قضية روسيا/أوكرانيا.
“التدابير التي أشارت إليها المحكمة ترقى إلى وقف إطلاق النار”
أخيرًا، جادل البعض أيضًا بأن التدابير المؤقتة في 26 كانون الثاني/يناير في قضية غزة ترقى فعليًا إلى وقف إطلاق النار، لأن الطريقة الوحيدة التي يمكن لإسرائيل من خلالها احترام الأمر بشكل صحيح (عدم قتل أو إصابة الفلسطينيين) هي الوقف التام للعمليات العسكرية، وللوهلة الأولى، هذه نقطة ذكية، ولكن رغم حسن النية، فإنها لا تصمد أيضًا. فالمحاكم لا تترك سبل الانتصاف الخاصة بها مفتوحة لتفسيرات الأطراف: فلو كانت المحكمة تقصد أن يفسّر قرارها على أنه أمر بوقف إطلاق النار، لقالت ذلك صراحة، كما طلبت جنوب أفريقيا، وبنفس الطريقة التي فعلتها المحكمة في قضية روسيا/أوكرانيا.
التضحية بالقانون والعدالة
في ظل كل هذا، لم يكن لدى محكمة العدل الدولية أي سبب قانوني أو واقعي لعدم الأمر بوقف إطلاق النار. لقد اختارت ببساطة عدم القيام بذلك لأن شرعية المحكمة وسلطتها ستكون مهددة بشكل خطير بين القوى الغربية في إطار معايير إدارة العنف الإمبريالي والاستعماري.
وكما روى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان لشبكة “سي إن إن”، فإن العديد من الحكومات الغربية تعتقد بوضوح أن المحاكم الدولية لم تنشأ إلا “للأفارقة والبلطجية مثل بوتين”. وفي ظل خوفها من نزع الشرعية عنها أو حتى فرض عقوبات عليها – كما حدث للمحكمة الجنائية الدولية بعد اقتراحها فتح تحقيقات في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان، والآن بعد أن أعلن خان أنه يسعى لإصدار مذكرات اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين – فإن محكمة العدل الدولية ببساطة ترقى إلى مستوى التوقعات الإمبريالية.
بالإضافة إلى ذلك، شهدنا مثالين إضافيين استثنائيين على مخاوف المحكمة من نزع الشرعية والعقوبات والتهديدات بتدابير انتقامية أخرى من قبل المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين من جهة، ومن جهة أخرى على استمرار مشاركة المحكمة في سياسة إدارة العنف الإمبريالي والاستعماري.
أولاً، أدلت الرئيسة السابقة لمحكمة العدل الدولية، جوان دونوهيو من الولايات المتحدة الأمريكية، بتصريحات مخادعة في وسائل الإعلام في مراوغة قانونية بغيضة بعد انتهاء فترة ولايتها في شباط/فبراير. فقد زعمت دونوهيو في قرارها الصادر في 26 كانون الثاني/يناير أن المحكمة لم تجد أن الادعاء بالإبادة الجماعية معقول، بل وجدت أن حق الفلسطينيين في الحماية من الإبادة الجماعية معقول. وهذا القول مغالطة كبيرة لدرجة أنه يكفي القول إنه إذا كان حق الفلسطينيين في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية معقولًا، فلا يمكن أن يكون كذلك إلا لأن المحكمة تعتبر أنه من المعقول أن إسرائيل ترتكب أعمال إبادة جماعية.
دونوهيو قاضية مشهورة ومتمرسة، وهي تدرك تمامًا أن هذه هي الطريقة الوحيدة المعقولة لتفسير القرار. مع ذلك، وفي ما يبدو أنه محاولة يائسة للحفاظ على سمعتها داخل دوائر السلطة، وربما لحماية نفسها وعائلتها من الإجراءات الانتقامية، قامت بإهانة مهنتها بشكل مهين. ثانيًا، وبعد أربعة طلبات متتالية من جنوب أفريقيا لإصدار أمر بوقف إطلاق النار، أمرت محكمة العدل الدولية أخيرًا في 24 أيار/مايو إسرائيل “بالوقف الفوري لهجومها العسكري، وأي عمل آخر في محافظة رفح، قد يلحق بالمجموعة الفلسطينية في غزة ظروف حياة قد تؤدي إلى تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا”.
هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن هذا الحكم، فهو يؤكد أن المحكمة كانت لديها دائمًا صلاحية الأمر بوقف العمليات العسكرية من جانب واحد، ولكنه أيضًا دليل على أن المحكمة في هذه الإجراءات قد ضحت بالقانون والعدالة من أجل الالتزام بضرورات إدارة العنف في السياسة المعاصرة. فإذا كانت المحكمة تريد حقًا منع إسرائيل من التسبب في هذه الأضرار، كان عليها أن تأمر بوقف العمليات العسكرية بشكل كامل لأن هذا العنف ليس فقط إبادة جماعية بل هو أيضًا استخدام غير قانوني للقوة. وفي النهاية، لم تكتف إسرائيل بتجاهل الأمر الصادر في 24 أيار/مايو، بل إن الأمر أعطى إسرائيل المبرر لمواصلة تنفيذ أعمال الإبادة الجماعية في بقية أنحاء غزة.
وضمن هذه المعايير القانونية المهيمنة والتستر العام على الإبادة الجماعية في غزة من قبل الدول الغربية، شاركت محكمة العدل الدولية بشكل ملائم ومأساوي في لعبة إسرائيل القديمة: اللجوء المستمر إلى “التفسيرات الاستراتيجية” للقواعد والمبادئ والمفاهيم القانونية لفرض طموحاتها السياسية الحيوية والإقليمية من خلال خطاب العقلانية، وبدلاً من العمل ضد القانون أو خارجه، فإن المقصود هو إدخال العنف الإمبريالي والاستعماري وآليات إضفاء الشرعية عليه في القانون.
لا ينبغي أن يُساء فهم هذه الانتقادات على أنها دعوة للتخلي عن القانون الدولي والنظام القانوني الدولي، بل هي بالأحرى دعوة لمواصلة النقاش الضروري والصادق حول دور القانون في نضالات التحرر، وتحديد مفارقاته وغموضه وفخاخه، ومعرفة كيف يمكننا مواجهة مزالقه باستراتيجية قانونية سليمة سياسيًا.
المصدر: +972