بين أن تكتب الحدث التاريخي أرقامًا مجردة خالية من الروح أو أن تكتبه بالمشاعر والأحاسيس، التي تنقلك للحقبة التي مرت بها المدن أو الأشخاص، بين هذين الفنين يبقى السؤال حاضرًا، ما الذي تسهم فيه الرواية بتخليد الأحداث التاريخية؟
في حوار مع الأستاذ ناهض الرمضاني أجابنا عن هذا السؤال قائلًا: “التاريخ يتحدث عن الخط العام للدول والأمم والسياسة وتاريخ الحروب، أما الأحداث التفصيلية تنقلها الروايات بشكل موسع، وأبسط مثال على ذلك رواية ثلاثية نجيب محفوظ التي اعتبرت مرجعًا لثورة 1919 وما بعدها، وكذلك عودة الروح للكاتب توفيق الحكيم، وكلتا الروايتين تحدثتا عن حقبة مهمة في مصر، وفي أوروبا لا تستطيع أن تأخذ العادات والتقاليد الاجتماعية بشكل موسع إلا من الروايات وأفضل مثال الكاتب السير والتر سكوت، وعندما تقرأ عن روسيا وفترة حكم القيصر يرجع الجميع لرواية الحرب والسلام للكاتب ليو تولستوي”.
وفي نفس السياق أشار الرمضاني: “أحيانًا الكتابة عن حدث في نفس الوقت لا يوفي حقه، لأن بعض الحقائق تكون مشوشة، لربما تظهر الحقائق في وقتٍ آخر”. وبعد هذا الحوار مع الأديب الرمضاني، سنتوقف في هذه التقرير مع أهم الروايات والأعمال التي تحدثت أو أشارت لحقبة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وهي:
1. رواية “عذراء سنجار” للكاتب وارد بدر السالم
من الأحداث المهمة في تاريخ نينوى ما بعد 2014 احتلال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وما تبعه من محنة عصيبة على أهلها واعتداء على نسائها وشرفهن، ولهذا كانت رواية “عذراء سنجار” أول رواية عراقية وعربية تستجيب لصدى النكبة الدموية التي تعرض لها الإيزيديين وأوغلت بعمق في معاناتهم، في بشاعتها الوحشية التي ارتكبها بحقهم تنظيم داعش الإرهابي.
الشيء الأجمل في هذا العمل الروائي المبدع المتكامل بقلم الكاتب العراقي وارد بدر السالم، أنه يستجيب للحدث الكارثي ضد الطائفة الإيزيدية في قضاء سنجار “شنكال” والمناطق والقرى المحيطة به، ويسجلها في رواية “عذراء سنجار” في اقتحام إبداعي متألق يشبه المغامرة الروائية بكل المواصفات، في الحبكة السردية وأسلوب كشف مسار الأحداث المحنة العاصفة، في نسق روائي يجمع بين الواقع والخيال في الاعتماد على جملة تقنيات فنية في المتن الروائي، وكذلك أساليب ومكونات التعبيرية والتصويرية والوصفية، ليعري السلوك المنحرف لهذه الفصيلة المعتوهة بسفك الدماء “داعش” التي تنتمي إلى أحقر فصيلة من البشر، في قمة الانحطاط الأخلاقي، في أقصى درجات الرذيلة والسفالة الوحشية التي تجاوزت الذئاب الوحشية الضارية، فقد مارست أبشع الوسائل الهمجية.
يمكن القول إن الحديث عن معاناة أهل سنجار يحتاج لتفاصيل كثيرة لا تكفي رواية واحدة تتكلم عن هذا الموضوع، وقد سمعتُ من شهود عيان حدثوني عن تفاصيل حدثت أمام أعينهم عن تواطؤ الكثيرين عسكريًا وسياسيًا في احتلال داعش لسنجار وما حدث بعدها من أحداث ونكبات ما زالت آثارها فعّالة إلى يومنا هذا.
كانت رواية عذراء سنجار هو العمل الروائي الذي تكلم عن تنظيم داعش وما فعله بالإيزيديين من مذابح واختطاف لنسائهم أو ما يسمى في عرف التنظيم “بالسبي”
وبعد هذا الاستعراض الموجز للرواية، علينا أن نقف وقفة قصيرة مع كاتبها: هو الكاتب وارد بدر عبد الرضا السالم، مواليد البصرة 1 من يوليو 1956، حاصل على شهادة دبلوم فني من معهد الفنون التطبيقية، عمل في مجال الصحافة ويعمل رئيسًا لتحرير مجلة (الطليعة) الأدبية، كما عمل بصحف عراقية وعربية كثيرة محررًا ومدير تحرير، وله روايات عديدة منها: طيور الغاف 2000 وشبيه الخنزير 2004 ومولد غراب 2004 وعجائب بغداد 2012 وتجميع الأسد 2014، وفي نفس السياق الكاتب حاصلٌ على جائزة دبي الأولى للقصة القصيرة عام 2007 عن “البار الأمريكي” وجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات بأبو ظبي.
وقد كانت رواية عذراء سنجار العمل الروائي الذي تكلم عن تنظيم داعش وما فعله بالإيزيديين من مذابح واختطاف لنسائهم أو ما يسمى في عرف التنظيم “بالسبي” مما أحدث نتائج سلبية على المجتمع.
2. “شتات نينوى” للكاتبة غادة صديق
تبدأ الحكاية بالحديث عن أسرة أحمد وشقيقه اللدود عباس الذي اختارت غادة أن يكون أعمى البصيرة قبل أن يكون أعمى البصر. في الرواية شوق وحنين لعراق الماضي، عراق السلام والأمن، وحزن مبكٍ على ما آل إليه وضعه الحاليّ، تختصر الرواية كل شيء، حكاية وطن بأكمله، وتصور تنوعه الذي بناه التاريخ تباعًا في سطورها التي تمتاز بلغة مؤثرة وجميلة.
تنتقل الرواية للحديث عن الصراع بين الحداثة والرجعية، من خلال الحوارات بين أحمد الذي يميل لأفكار اليسار وشقيقه عباس الذي أجبره العمى في بيئته المنغلقة على أن يختار ما بين الشحاذة أو قراءة القرآن، لأن خيار الموسيقى غير متاحة في بيئته.
تتحدث الرواية بشكل مستفيض عن محنة الشيخ فتحي ورمزيات ذلك المكان وألم فقدانه، وتجدون فيها تفاصيل حقيقية عن معاناة العراقيين في الحرب العراقية الإيرانية وحرب الكويت وملجأ العامرية والحصار الاقتصادي ومعاناة سنوات الإرهاب بقصصه المرعبة في السنوات الأخيرة.
ستقرأون عن أسباب تنامي الإرهاب السياسية والاجتماعية وكيف ساهم الجميع في قتل هذا الوطن المنكوب بالجيران والأبناء، الرواية تتكلم عن الجميع وتدينهم لأن ولاءها الأول هو العراق وشعبه بكل أطيافه.
ميزة الرواية أنها سردت أحداثًا تاريخية، وتحدثت بنفس الوقت عن الأسباب التي جلبت التطرف ومنها الإرهاب السياسي والاجتماعي.
تعتبر رواية “شتات نينوى” توثيقًا لحقبة داعش في مدينة الموصل تتحدث عن مناطق معروفة في المدينة
وبعد أن أخذنا جولة مع هذه الرواية التي وثقت لحقبة تاريخية مهمة، لا بد أن نأخذ ملمحًا موجزًا عن حياة الكاتبة: الكاتبة غادة صديق رسول من مواليد الموصل 20 من مارس 1969، حاصلة على البكالوريوس في علوم الحياة من جامعة الموصل، وماجستير في البيولوجي من جامعة بيروت، ولها خبراتٌ مهنية متعددة منها عملت في جامعة الموصل كلية التمريض وكذلك في المركز الطبي لجامعة الموصل وحاليًا تعمل في جامعة الموصل كلية طب نينوى.
كما لها أعمال أدبية وروائية متعددة منها: رمادية/ مجموعة قصصية 2010 والموت للحياة/ رواية 2011 وبياض الليل سواد النهار/ رواية 2012 وأجمل كابوس في العالم/ رواية 2014 وشتات نينوى/ رواية 2016.
وفي نفس سياق أعمالها الأدبية صدر لها مؤخرًا رواية “مراثي المدينة القديمة” ووقعت عملها الجديد في مقهى قنطرة الثقافي في يوم الجمعة 6 من أبريل 1918 بحضور عدد من الأدباء والمثقفين. وتعتبر روايتها “شتات نينوى” توثيقًا لحقبة داعش في مدينة الموصل تتحدث فيها عن مناطق معروفة في المدينة.
3. “شظايا فيروز” للكاتب نوزت شمدين
ترتكز الرواية التي رشحتها المؤسسة العربية لجائزة البوكر 2018 في متنها على مجموعة من الأحداث من خلال علاقة حب في تجمع قروي بين فتاة وشاب، تقف مجموعة من التقاليد كفاصل بينهما لكونها إيزيدية وهو مسلم، لكن فيروز بطلة الرواية تقع في أسر داعش، وهنا يلتقط الكاتب بؤرة الأحداث، حيث تتصاعد الحبكة الروائية لتقدم تصورًا أعمق لمشاهد الحرب في نينوى ومحيطها الجغرافي وما خلفته الحرب من تأثير على روح المكان والإنسان.
استطاع الكاتب أن يسخر قلمه بشكل رائع، ينم عن مقدرته الذكية على السخرية خاصة في المواقف الدرامية الساخنة فيبكيك وأنت تضحك وقد يُضحكك وأنت تبكي
ترتكز الرواية على شخصية محورية هي الحاج بومة مسجل بيانات الموصل الذي عاصر أزمنة وأنظمة عراقية متعاقبة وملأ حجرة كبيرة بآلاف السجلات التي تحمل أسماء موتى دونها طوال 65 عامًا من عمره، موصلي ارتبط بمدينته ويعبر عن مقاومته لاحتلال داعش بتحرير السبايا مع مراد، فيخضع لحكم التنظيم في باب الطوب تمامًا حيث المكان الذي كان يطلق فيه سراح الطيور التي يشتريها من السوق القريب.
استطاع الكاتب أن يسخر قلمه بشكل رائع، ينم عن مقدرته الذكية على السخرية خاصة في المواقف الدرامية الساخنة فيبكيك وأنت تضحك وقد يُضحكك وأنت تبكي. ولعل لمسات السخرية في الرواية أعطاها طابعًا إيجابيا جميلًا، فضلًا عن أن الرواية توثق لقصة حب بين مسلم وإيزيدية، وما فيها من كسر للعادات والتقاليد.
وبعد هذا العرض المختصر عن رواية شظايا فيروز علينا أن نتوقف قليلًا لنتعرف حياة كاتبها: الكاتب نوزت سالم خليل المعروف بشمدين، من مواليد الموصل 1 من أغسطس 1973، أنهى دراسته الأولية والجامعية في مدينة الموصل حيث حصل على بكالوريوس قانون، وعمل ضمن الهيئة الإدارية للاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين فرع نينوى لثلاث دورات متتالية، كما عمل ثماني سنوات في مجال المحاماة (2000-2008) قبل أن يتفرغ للصحافة والأدب بنحو شبه كامل.
غادر مع أسرته الموصل في الـ6 من مارس/آذار 2014 إلى أوسلو في النرويج ككاتب ضيف ويأمل بالعودة قريبًا بعد أن تم تحرير الموصل، يعمل كمستشار لراديو ستارت إف إم التي تبث من أربيل، وهو مختص بشؤون العراق وتابع لـ”MICT” الألماني مقرها في برلين.
وللكاتب أعمال أدبية وروائية وهي: نصف قمر 2002 وسقوط سرداب 2015، وفي نفس السياق له مجموعات قصصية كالموصل في بكين وقادمون يا عتيق وقصة ناجٍ من الموصل.
بائع الأمل سيرة ذاتية بثوب رواية فمن يقرأها سيتعرف على الكاتب وسيطلع أيضًا على الحقب التاريخية التي عاصرها
4. “بائع الأمل” للكاتب ناهض الرمضاني
رواية “بائع الأمل” تجربة في البناء السردي تقفز على المفاهيم المتعارف عليها في بناء المبنى الحكائي، عمد فيها المؤلف إلى الغور في أوليات النصوص والكتابات ومسارات تطورها وتركيبها بهدف الكشف عن طبيعة العلاقة بين تركيبة النصوص وتركيبة الواقع، وتفكيك هذه العلاقة أمام القارئ.
قدم لنا المؤلف خبرته في عالم الكتابة بعد أن شكلتها مسيرته التي ابتدأت منذ كان طالبًا في جامعة الموصل قسم اللغة العربية في ثمانينيات القرن الماضي، ثم ضابطًا مجندًا وأسيرًا في حرب الكويت، ثم بائع أثاث، وبعدها مدرس لغة عربية في ليبيا والإمارات ومن ثم العودة إلى العراق بعد عام 2003 والعمل في الصحافة وبناء أولى المدارس الأهلية في مدينة الموصل، لينتهي المطاف بهذه الرحلة السندبادية إلى أن يكون تحت سلطة “داعش” خلال الأشهرالثلاث الأولى من عُمر سيطرة التنظيم على المدينة، لتنتهي أحداث الرواية والمؤلف الضمني يسجل مذكراته يوميًا وهو يعيش محاصرًا في مدينة استوحشت الحياة فيها بعد أن سقطت تحت سلطة تنظيم الخلافة.
وقد تحدثتُ مع الأستاذ ناهض الرمضاني صاحب الرواية، وأخبرني أنه وثق الثلاثة أشهر الأولى التي عاصرها مع تنظيم داعش، ثم قرر بعدها أن يخرج من الموصل، وقد خصص القسم الأخير من روايته عن هذه الحقبة.
وبعد هذه الجولة الموجزة عن رواية بائع الأمل، سنقف وقفة قصيرة مع حياة الكاتب: الكاتب ناهض عبد الله يعقوب الرمضاني من مواليد الموصل عام 1964، حاصل على بكالوريوس آداب من جامعة الموصل عام 1987، وحاصل كذلك على بكالوريوس علوم عسكرية عام 1989، ثم حصل بعدها على ماجستير تربية (لغة عربية) في الأدب الحديث، وبدأ النشر منذ عام 1983 في المجلات العراقية والعربية.
وعمل في مجال التربية والتعليم، فقد عمل مدرّسًا في كل من العراق وليبيا والإمارات، ومقيم حاليًا في مدينة إسطنبول، ويكتب في مجالاتٍ متعددة منها الرواية والمسرح والقصة القصيرة وأدب الطفل، وقد كتب عشر مسرحيات قُدمت معظمها في دول عربية عديدة، وترجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية والألمانية والإيطالية والكردية، وله مشاركات في المهرجانات والمؤتمرات الأدبية داخل وخارج العراق.
وللرمضاني أعمال أدبية وروائية ومسرحيات منها: واك 2005 وبائع الأمل 2015 والاحتراق وحيدًا (نقد مسرحي) 2014 والعبور إلى أزمنة التيه (كتاب مشترك) 2004. بائع الأمل سيرة ذاتية بثوب رواية فمن يقرأها سيتعرف على الكاتب وسيطلع أيضًا على الحقب التاريخية التي عاصرها خصوصًا أنه قد خصص ما يقرب المئة صفحة عن بداية استيلاء داعش على مدينة الموصل.
وبعد هذه الجولة الممتعة مع روايات مهمة تناولت حقبة داعش في مدينة الموصل، يتبين لنا أهمية الرواية في توثيق الأحداث التاريخية التفصيلية، وأن الرواية ليست ترفًا أدبيًا، بل ضرورة لتخليد الأحداث التاريخية القاسية والأليمة التي عصفت بهذه المدينة، وسنبقى منتظرين نتاجات الأدباء للحديث عن هذه الحقبة بشكل مفصل.