بالرجوع إلى عام 2013 و2014 و2015، حيث احتدام المعارك بين فصائل المعارضة المدعومة من تركيا وبعض دول الخليج (المملكة العربية السعودية وقطر)، ونظام بشار الأسد الذي كان يُسيطر حينها على 18% فقط من مجموع الأراضي السورية، كان من الصعب حينها التوقع، إطلاقًا، بأن تركيا ستتجه نحو التحرك مع روسيا وإيران لحل الأزمة السورية وفقًا لمعادلة الحل الوسط البعيد عن الحلول الصفرية، إذ كان سقوط الأسد قاب قوسين أو أدنى، وكان من التحامق السياسي ادعاء ذلك.
لكن التدخل الروسي غير المعادلة، لقد غير التدخل الروسي المعادلة من خلال استغلال الورقة الكردية، بشكلٍ أساسي، ضد المصلحة القومية التركية العليا، حيث تغاضت روسيا عن التمدد الكردي غرب الفرات وبالقرب من الحدود التركية، وساندت القوات الكردية، ضمنيًا، من خلال استهدافها للفصائل الموالية لتركيا، وعلنًا، من خلال استقبال ممثلين عن حزب الاتحاد الديمقراطي “ي. ب. ج”؛ مما اضطر تركيا، وبالأخص بعد أزمة إسقاطها للطائرة الروسية، إلى تقديم مصلحتها القومية كأولوية أولى على سلم الأولويات مقارنة بهدفها في إسقاط نظام الأسد.
وبالتمعن في الجاري اليوم، تحولت روسيا وتركيا وإيران من دول متنافسة عسكريًا إلى دول متنافسة سياسيًا يجمعها مسار سياسي يحتوي نقاط مشتركة يحاولون من خلال التمسك بها تسوية الأزمة السورية وفقًا لمعادلة الحل الوسط.
روسيا كانت منفردة، دومًا، في فرض نفوذها على سوريا منذ خمسينيات القرن الماضي
قد يُقال إن اقتناع أطراف الأزمة بأن الصراع لا يمكن أن يُحسم لصالح واحدٍ منهم فقط هو الدافع الأساسي لمسار الأستانة الذي جمعهم، غير أن ضرورة التحالف البراغماتي المطلق بين تركيا وروسيا وإيران ظهر بدوره أيضًا كعامل أساسي في دفعهم نحو هذا المسار، سبب هذا التحالف هو التحرك الكردي الحيوي إلى جانب الولايات المتحدة التي أحسنت استغلاله في توسيع و”تثبيت” نفوذها في شمالي وشمال شرقي سوريا، لا سيما في الريف الشرقي لمدينة دير الزور، حيث حقول النفط.
ولا يأتي تحليلي هذا في إطار الادعاء بوجود “توافق” بين تركيا وإيران وروسيا، بل يأتي في طور الإشارة إلى أن مسارات الأزمة السورية مرت بتحولات عدة، أظهرت بعض نقاط التقاطع بين المصالح التركية الروسية الإيرانية ضد التحرك الأمريكي الغربي في سوريا، مما دفعها إلى التعاون أو التنسيق في بعض المواقف.
ولعل أهم نقطة هي الاتفاق المُطلق في وحدة سوريا، فتركيا تخشى من حصول حزب العمال الكردستاني “بي كا كا” المحارب لها منذ عام 1984، على ملاذ لوجستي تدريبي واسع، قد يغذي شهيته الانفصالية ويزيد من حدة عملياته العسكرية داخل أراضيها، وضد مصالحها في العراق وسوريا في المستقبل، وقد ظهر، بوضوح، انقضاض “بي كا كا” على عملية السلام التي كان تربطه بالحكومة التركية في يونيو/حزيران 2015، نتيجة اتساع نفوذه داخل الأراضي السورية.
وبالوصول إلى إيران، فالأخيرة ترمي إلى تأسيس “الخط الفارسي” أو “الإسلامي” الذي يمر بالعراق عبر سوريا وصولًا إلى لبنان، ومنها إلى أوروبا مستقبلًا، وقيام إقليم كردي ذاتي أو مستقل بدعم أمريكي قد يعرقل هدفها في تحقيق ذلك، أيضًا، تتخوف إيران التي تحتضن عددًا واسعًا من مواطني القومية الكردية، من تغذية تأسيس إقليم في سوريا الشهية الانفصالية لدى مواطنيها الأكراد.
وأخيرًا روسيا كانت منفردة، دومًا، في فرض نفوذها على سوريا منذ خمسينيات القرن الماضي، ولا ريب أنها ترمي إلى الحفاظ على انفرادها بهذا النفوذ، كما تسعى إلى ترسيخ هذا النفوذ في إطار مشروعها الإستراتيجي “أوراسيا” الذي يعني زيادة نفوذ القوة البرية “روسيا” ضد القوة البحرية “الولايات المتحدة والغرب” على الساحة الدولية، بما يكسر الهيمنة الغربية أحادية القطبية.
ظهرت نتائج التعاون بين البلدين، والتي كانت سلبية بالنسبة للاتحاد الديمقراطي، في عملية “غصن الزيتون” التركية ضد عفرين
فوجود الولايات المتحدة بالقرب منها يُعرقل مشروعها، ويخفف من حدة قوتها في منطقة الشرق الأوسط؛ مما يجبرها على السير في نطاق التحالف المشترك الذي نشهد جوانبه اليوم.
في الختام، لقد أدى انعدام خيار حسم طرف واحد المسألة لصالحه “الحل الصفري”، وتجاهل الولايات المتحدة المصالح التركية، إلى دفع روسيا وتركيا وإيران نحو التطلع لصياغة تعاون يُغذيه الاتفاق “المُطلق” بينهم فيما يتعلق بخطر الكيان الكردي على مصالحهم.
وقد ظهرت النتائج الإيجابية لهذه التعاون، وكانت سلبية بالنسبة للاتحاد الديمقراطي، في عملية “غصن الزيتون” التركية ضد عفرين، ولكن، في هذا المضمار، لا يمكن نفي محاولة روسيا، بعد عملية عفرين، موازنة موقفها من الاتحاد الديمقراطي، كي لا يميل بالكامل للولايات المتحدة، مستغلةً بذلك “استغلال الولايات المتحدة للطموح الكردية في تحقيق مصالحها، وليس مصلحتهم”.