لم تعد القهوة مشروبًا عاديًّا يتم احتساؤه ساعة الصباح أو في أوقات الجمعات وحسب، كما لم يعد محتسوها ينظرون إليها بكونها مشروبًا سريع التحضير يمكن غليه في البيت واحتساؤه على عجلةٍ لسدِّ الفراغ أو للتزوّد بجرعة كافيين، بل بات التركيز على القهوة بكونها منتجًا له صناعته المحترفة التي يمكن وصفها بأنها أقرب ما تكون شكلًا من أشكال الفنّ لا يمكن للجميع احترافه، وإنما تتطلب قدرًا عاليًا من التعلّم والتفنّن.
وباختصارٍ أكثر، يمكننا القول أنّ كلّ تلك التغييرات التي حدثت في عالم القهوة ما هي إلا نتيجة لما يُعرف عالميًا بمصطلح “الموجة الثالثة للقهوة”، وهي الحركة التي ظهرت في بدايات القرن الحالي، حيث بات الأفراد من خلالها يولون اهتمامًا كبيرًا بمنشأ حبوب البنّ وأسلوب تحميصها وتخميرها لإبراز الجوانب الأكثر عمقًا من طعم الحبوب المختلفة نفسها.
ولا يتوقّف الأمر عند هذا الجانب وحسب، بل بات عشّاق القهوة في سياق هذه الموجة أو الحركة الجديدة، يركّزون بشكلٍ إنسانيّ على العلاقات القوية بين مزارعي البنّ والعاملين في حقوله من جهة وبين التجار من جهة أخرى، والعاملين في مصانع تحضيرها، أكثر من تقديرهم لطعم ما يشربونه، ويولون أهميةً لجميع تلك العوامل السابقة ويقدّرونها بشكلٍ أكبر من تقديرهم لطعم ما يحتسونه.
بقفزةٍ سريعة في التاريخ، نجد أنّ استهلاك القهوة قد بدأ في النمو بشكل متزايد وملاحظ على نطاق العالم أكمل لأول مرة في الستينات من القرن الماضي. حيث أصبحت القهوة متاحة على نطاق واسع بعد ظهور عدة شركات من قبيل نستله وفولجر وماكسويل، والتي كانت تهدف إلى إيصال القهوة، بكونها مشروبًا ضروريًا، إلى كلِّ بيتٍ ومكتبٍ بسرعةٍ عالية وآلية سلسة.
تطمح الموجة الثالثة للقهوة بشكلٍ أساسيّ إلى جعل المستهلك يشعر بأنه مميز، وذلك عن طريق التميّز بالخدمة التي تُصنَّع وتحمَّص وتخمَّر وتقدّم فيها القهوة
وجاءت الموجة الثانية مع زيادة في نوعية القهوة المتاحة بشكلٍ أكثر سلاسة وسهولة، إذ بدأت بعض الشركات الكبيرة مثل ستاربكس بإدارة سلسلة واسعة من المقاهي في جميع أنحاء العالم كعملٍ تجاريّ مربح، يهدف للتمدد والاتساع بدون أيّ توقف، وبهذا بدأت القهوة تتجه من كونها مشروبًا ضروريًّا في الحياة اليومية إلى أن أصبحت منتجًا فاخرًا يخضع لمعايير عديدة ويركّز على التميز بالنكهات بعيدًا عن الصناعة والإنتاج التقليديين.
ومع بداية الألفية الثانية، ظهرت الموجة الثالثة للقهوة بأهدافٍ عديدة قد تتركّز بشكلٍ أساسيّ حول جعل المستهلك يشعر بأنه مميز، وذلك عن طريق التميّز بالخدمة التي تُصنَّع وتحمَّص وتخمَّر وتقدّم فيها القهوة، والتي باتت تتمّ بطرقٍ وأشكال لا تعدّ ولا تحصى، جميعها تخضع لمعايير فنّية واحترافية عالية.
تطمح الموجة الثالثة للقهوة إلى الوصول إلى أعلى مستوىً من التقدير للبنّ بكافة مراحل صناعته، بدءًا من الزراعة والحصاد والمعالجة ومرورًا بتحسين العلاقات بين مزارعيه وتجّاره وانتهاءً بمحال وشركات تحميصه وتخميره وإنتاجه بشكله النهائيّ، بحيث يكون باستطاعة شاربه أو محتسيه تقدير التفاصيل الخفيّة للنكهة التي لا تقتصر على كونها حبوبًا وحسب.
تنوعت مع الموجة الثالثة طرق معالجة القهوة، ودرجات طحنها، ودرجات حرارة الماء وطرق صبّه، تمامًا كما تنوّعت الأوقات والساعات التي يحتاجها كلّ نوعٍ من القهوة ليصبح بعدها جاهزًا للشرب
وقد جاءت هذه الموجة كامتداد لما يُعرف في عالم القهوة أيضًا باسم “القهوة المختصة”، الاسم الذي شهد انتشارًا واسعًا في العقود الأخيرة مشيرًا إلى القهوة التي تتم معالجتها بنكهاتٍ مميزة بعد مراعاة زراعتها في مناخاتٍ مخصصة لذلك. لكنّ الأهمّ في هذه الحركة هو تنوع طرق تحضير حبوبها وتكتيكات إنتاجها.
ومع سيطرة هذه الموجة، لم تعد تحتاج النار والماء المغليّ لتحضّر القهوة وحسب، بل تنوعت طرق معالجتها، ودرجات طحنها، ودرجات حرارة الماء وطرق صبّه، تمامًا كما تنوّعت الأوقات والساعات التي يحتاجها كلّ نوعٍ من القهوة ليصبح بعدها جاهزًا للشرب. فكلّ تلك العوامل تلعب دورًا مهمًّا في المذاق يجب النظر إليها والاعتناء بها بدقة وحذر، لدرجةِ أنك تخال في بعض الأحيان أنّ تلك القهوة تصنّع في مختبرٍ للعلوم وليس في مقهىً أو مطبخ عاديّ.
ومن أبرز طرق تحضير القهوة المختصة؛ التقطير أو الترشيح أو التنقيع أو الكبس أو الانسحاب. كما تتنوع أدوات تحضير كل طريقة والمُرشّحات “الفلاتر” المستخدمة فيها، فمنها الورقيّ ومنها القطنيّ ومنها المعدني، وكل طريقة من هذه الطرق وكل مُرشح “فِلتر” مخصص ليعطيَ نتيجةً ومذاقًا مغايرًا ومختلفًا عن الآخر، والأمر ذاته ينطبق على نوع الحبوب الواحد كما ينطبق على الأنواع المختلفة على حدٍ سواء.
ومن هنا نشأت الدورات والدروس وورش العمل التدريبية المختلفة التي تسعى لتعليم تحضير القهوة والتعريف بأفضل الطرق والتكنيكات المتبعة لذلك، ما جعل الكثيرون من الأفراد ينظرون للأمر على أنه هواية جميلة يمكن تنمية النفس وقدراتها الفنية فيها، بل وربما يصل الأمر بهم للسفر في العالم من مكانٍ إلى آخر فقط من أجل الحصول على متعة تعلّم صناعة القهوة وإعدادها بطرقٍ فنية من الألف إلى الياء.
وبالتالي، نستطيع القول أنّ مرتادي هذه الموجة ينظرون للقهوة بكونها تجربة تستحق أنْ تخاض بكلّ تفاصيلها الدقيقة والاندماج بكافة حيثياتها الجميلة، فلا يكفي أنْ تحتسيَها وحسب لتستلذّ بمذاقها، وإنما عليك الخوض في تاريخها ورؤية كيفية صناعتها ومشاهدة الأدوات المستخدمة في ذلك، حتى تصلَ للطعم والنكهة المُثليين.