في أرجاء المملكة السعودية المهددة يوميًا بصواريخ الحوثيين، أموال تُنفق وجهود تُبذل ووقت يُوزع على أنشطة ترفيه على غرار لعبة “البلوت”، يذهب إليها أصحاب الرأي والمكانة ويغرق فيها المسؤولون بدلًا من توجيه الدعم والرعاية والإمكانات المادية لمواجهة داء تفشى وانتشر.
إنه داء الجرب الجلدي، وهذه المرة في مدينة الرياض وسط المملكة، بعد أن كانت أغلب الحالات مقتصرة على منطقة مكة المكرمة (غرب السعودية) وبعض الحالات في منطقة جازان جنوب غرب المملكة، والمجمعة في الشمال، للدمام في شرقها.
علماً بأن عدد الحالات المسجلة والتي تم معالجتها جميعاً في مكة المكرمة بلغ (٢١٥٦)حالة من بينهم (١٧٧٤) حالة في المدارس حتى يوم أمس.
مع تمنياتنا بالشفاء العاجل لجميع المرضى.— وزارة الصحة السعودية (@SaudiMOH) April 7, 2018
رحلة داء الجرب الجلدي
في مارس/آذار 2016 ظهرت أول حالة إصابة بمرض الجرب في قرى محافظة الليث التابعة لمنطقة مكة المكرمة التي يقطنها سعوديون ميسورو الحال، ثم انتقل إلى محافظة أضم التي تصدرت النسبة الأعلى خصوصًا قرية الجويني التي يقطنها فئة البدون، إذ يعانون من ظروف صحية واقتصادية سيئة.
سرعان ما انتشرت العدوى بين طلاب وطالبات مدارس الليث، وبعد أيام أعلنت وزارة الصحة أنها سيطرت على المرض، ولم يتبق إلا نسبة قليلة، ليعاود المرض الظهور مرة أخرى بعد عامين، لكنه هذه المرة على نطاق أوسع.
بدأت رحلة المرض من مكة المكرمة (غرب السعودية)، وهناك كشفت المديرية العامة للشؤون الصحية في 3 من أبريل/نيسان الحاليّ، وصول حالات الإصابة في مدارس المنطقة إلى 619 حالة، بينهم 11 سعوديًا، بعدما رصدت حالات اشتباه بين طالبات وطلاب المدارس والأحياء قبل أيام عدة.
ومن مكة لعسير وجازان في الجنوب، مرورًا بالرياض في الوسط، حتى المجمعة في الشمال والدمام في شرق المملكة، تستمر رحلة الداء الجلدي الذي انتشر في مدارس السعودية بشكل مفاجئ
وفي تطور جديد في نسبة انتشار المرض، أعلنت وزارة الصحة السعودية أن آخر الأرقام تفيد بوصول حالات الإصابة في مكة المكرمة وحدها إلى أكثر من 2156 حالة، منها 1774 في المدارس؛ مما أدى إلى تعليق العمل في 70 مدرسة احترازيًا.
وجاء دور الدين في دولة يُفترض أنها محافظة، إذ أفتى عضو هيئة كبار العلماء الدكتور عبد الله بن محمد المطلق، وقال: “إذا علم الأب بأن في ابنه مرض الجرب لا يجوز له أن يرسله إلى المدرسة؛ لأن ينقله إلى الطلاب، وربما يأثم لذلك”.
وفي محاولة للتكتم على الأرقام الحقيقية، شدّدت وزارة الصحة، في بيان لها على أن “جميع ما يتم تداوله من أرقام إصابات بمرض الجرب والتفشيات خارج مكة المكرمة غير صحيح، ما لم يكن من مصدر رسمي”، علمًا بأن حالات الإصابة خارج مكة كانت بتأكيد من وزارة التعليم.
ومن مكة لعسير وجازان في الجنوب، مرورًا بالرياض في الوسط، حتى المجمعة في الشمال والدمام في شرق المملكة، تستمر رحلة الداء الجلدي الذي انتشر في مدارس السعودية بشكل مفاجئ، وانتقل بسرعة كبيرة بين مدن يفصل بينها أكثر من ألفي كيلومتر.
وبينما تعلن وزارة الصحة عن تراجع عدد الحالات التى تُسجل يوميًا، تأكد إصابة 15 طالبًا في جازان، بالإضافة إلى حالات إصابة لم تعلن في كل من عسير والرياض والمجموعة والدمام، وصولًا إلى انتشار الجرب في منطقة الحدود الشمالية.
أكثر عدوى من الجرب
رغم تأكيدات السلطات السعودية أن حالات الإصابة في انخفاض شديد، استحوذ الموضوع على مساحة كبيرة من مواقع التواصل الاجتماعي في المملكة، وزادت مخاوف المواطنين من ارتفاع حالات الإصابة بهذا المرض المعدي.
وأثارت تصريحات وزارة الصحة الكثير من التساؤلات بشأن سرعة انتشار هذا الوباء وأسبابه التي ترفض الوزارة الإفصاح عنها، إذ أكد المتحدث الرسمي للوزارة مشعل الربيعان، أنه لا يملك معلومات عن ذلك، طالبًا توجيه السؤال للمختصين.
وأرجع مختصون في التعليم سبب انتشار المرض لوزارة التعليم التي كانت قد بدأت قبل نحو عام خطة لدمج المدارس مع بعضها البعض؛ مما تسبب في زيادة اكتظاظ الفصول الدراسية، كما تسبب محاولة تكتم المسؤولين في وزارة التعليم على تفشيه بشكل واسع.
وقال الحساب الرسمي لملتقى المعلمين والمعلمات إن من أسباب انتشار الأمراض بين الطلاب داخل المدارس تكدّس الفصول بأعداد تتجاوز الـ40 طالبًا والاهتمام الشكلي بنظافة دورات المياه داخل المدارس، وعدم توفير ميزانيات مناسبة لبند النظافة رغم الحاجة المستمرة لذلك، وضعف الدور الوقائي والاعتماد على الدور العلاجي.
في المقابل، نفت وزارة التعليم الاتهام بأن تكدس الطلاب في مدارس تعليم مكة كان السبب في الانتشار السريع لحالات الإصابة بمرض الجرب بين الطلاب والطالبات، وقالت على لسان متحدثها الرسمي مبارك العصيمي في برنامج تليفزيوني “التكدس ليس سببًا لانتشار المرض، فقد يكون ظهور المرض بالخارج، وعدد الطلاب ملائم جدًا لمساحة الفصول”.
وحملت نائب رئيس اللجنة الصحية في مجلس الشورى عالية بنت محمد الدهلوي وزارتي التعليم والصحة المسؤولية عن انتشار الجرب، مكتفية بالقول “كان يجب ألا يكون في مدارس السعودية“.
بدوره، قال عضو مجلس الشورى أحمد بن عمر الزيلعي: “السعودية لم تشهد من قبل تفشي هذا المرض، رغم إصابة بعض الحيوانات به وقرب الرعاة وملاكها بشكل مباشر منها”، متخوفًا من أن ينتج عن ذلك “أمراض جديدة أخطر من الجرب”.
وزراء الجرب
مع تصاعد المخاوف والحديث عن وصول المرض لمناطق أخرى من السعودية، تزداد الأمور توترًا، خاصة مع تهوين السلطات من حجم المشكلة، وتضارب تصريحات المسؤولين والتكتم بشأن عدد المصابين والمعلومات النهائية تجاه المرض.
وفي الوقت الذي غرد المتحدث الرسمي لوزارة التعليم مبارك العصيمي بأن الإعانات العينية للطلاب المصابين بالجرب في مكة المكرمة خصصت لذوي الاحتياجات الخاصة فقط، نفى وزير التعليم أحمد العيسى صحة ذلك، مبينًا أن الإعانات تشمل الجميع.
وكان وزير التعليم ومدير تعليم منطقة مكة المكرمة محمد بن مهدي الحارثي قد زارا بعض المدارس لتفقد الوضع الصحي فيها والتوجيه بالعمل على التحكم في الجرب، لكن كثيرين قالوا إنه تحاشى زيارة المدارس التي تفشى فيها الوباء، التي تعد بالمخالفات وسوء النظافة والبيئة السيئة التي تحتضن الطلاب والطالبات.
وزيري الصحة والتعليم السعوديين
ورفع أحد المدونين صورًا لمدارس تبدو غارقة في المستنقعات والأوساخ، وعلق قائلًا: “هذه المدارس لم يزرها الوزير وسببت انتشار الجرب بين الطلاب في مكة”، وأضاف “توجد أماكن كثيرة في جدة ومكة بمثل هذا المنظر تحتاج تدخلاً أعلى من المسؤولين لحل موضوع الصرف الصحي والنظافة العامة”.
ونشر وزير الصحة السعودي توفيق الربيعة قبل أيام تغريدة قال فيها إن وزارته مهتمة بعلاج الجرب والعلاج متوفر في جميع أنحاء المملكة”، منبهًا إلى أن “العلاج بسيط ويشفى المريض غالبًا في أقل من 12 ساعة، وأنه عند علاج الجرب يشفى الإنسان تمامًا ولا يبقى للمرض أي آثار”.
لكن الصحفي بجريدة الرياض السعودية والمهتم بالشؤون الصحية محمد الحيدر، كشف تضارب الوزارتين، وغرد قائلاً إن موضوع الجرب يتأرجح بين “تهوين وزير الصحة وتوصيف وزارة التعليم”، فقد اشتكت وزارة التعليم من أنه “رغم محاولتها الحثيثة للتصدي للداء فإنها واجهت صعوبات في عدم إبلاغ المدارس بنوع الإصابة بالمرض إلا بعد أسبوع، وليس كما قال الوزير الربيعة إن الأمر بسيط والعلاج يتم خلال 12 ساعة”.
ورغم إعلان الربيعة أن وزارة الصحة مهتمة بعلاج الجرب، وأن الدواء متوافر في جميع أنحاء المملكة والتأكيد على فاعليته، عجت مواقع التواصل الاجتماعي بوصفات علاجية بالأعشاب للشفاء من مرض الجرب؛ مما دفع الجمعية السعودية لأمراض وجراحة الجلد من التحذير من التداوي بها، مبينة أن استخدام الأعشاب لا يقضي على المرض، بل يساعد في انتشاره.
وفي صورة لتشويه البراءة، نقل مغردون صورًا لطلاب وطالبات أمام مكاتب حكومية في انتظار صرف مبالغ التعويض عن الجرب؛ مما يعكس تناقضًا واضحًا في دولة من أغنى البلدان على مستوى العالم، وفق بعض النشطاء.
الجرب في زمن الترفيه
بات السعوديون على بعد ساعات من الانفتاح على عالم الفن السابع، وبينما يعبر كثيرون عن فرحتهم بقرب افتتاح دور السينما في المملكة، يصب آخرون جام غضبهم على السلطات لفشلها في الحيلولة دون تفشي الجرب بين المعلمين والطلاب في مدارس مكة المكرمة.
ووسط أجواء المرض، أعلنت السعودية أنها ستستثمر 240 مليار ريال (نحو 64 مليار دولار) في قطاع الترفيه في السنوات العشرة المقبلة، رغم وجود عجز في موازنة المملكة والناتج عن تراجع أسعار النفط منذ 2014، حيث توقعت الحكومة السعودية في ديسمبر/كانون الأول الماضي عجزًا بقيمة 52 مليار دولار في الموازنة العامة لسنة 2018، وذلك للعام الخامس على التوالي.
المثير للدهشة أن منع الهدر المالي كان السبب المعلن وراء قيام وزارة التعليم بدمج المدارس، وهنا يظهر الوجه الآخر لبلد تُصنع له صورة مستعارة تُظهره ثريًا مرتاحًا مقبلًا على الحياة منفتحًا فجأة بطريقة فردية تبدأ بالترفيه المكلف قبل تلبية احتياجات مواطنيه في الداخل وجنوده على الحدود مع اليمن.
تدخل معركة الجرب أسبوعها الثالث وبدلًا من المواجهة، ينشغل السعوديون بالبحث عن الأمن وينشغل كثير من أصحاب قرارها في البحث عن انتصارات جلها باللعاب مصورة أو موزعة على طاولات
ورأى البعض أن السلطات انشغلت بالترفيه فأهملت قطاع التعليم، مما أدى إلى تفشي الوباء في مدارس، وقلل آخرون من قيمة التعويض المادي الذي أعلنه الوزير للطلاب المصابين بالجرب، لأن الحل الطبيعي هو علاج المرضى وتنظيف المدارس وتطويرها.
ورغم أنه لا صلة ظاهرية بين السينما والجرب، فإن السياق الزمني ربط بين الوباء والترفيه من زوايا: الغضب والخوف والتندر أيضًا، ويخشى آخرون من أن يكون تفشي الجرب في المدارس مقدمة لعقوبة إلهية استحقها السعوديون في “عام السينما وفساد القيم والأخلاق”.
وفي هذه الأيام، تدخل معركة الجرب أسبوعها الثالث وبدلًا من المواجهة، ينشغل السعوديون بالبحث عن الأمن وينشغل كثير من أصحاب قرارها في البحث عن انتصارات جلها باللعاب مصورة او موزعة على طاولات.
بين سنوات الجرب والصخونة
يعيد هذا المشهد إلى الأذهان صورة الأمراض التي اجتاحت المملكة السعودية، فبعد معاناة امتدت أكثر من عشرة أعوام حاولت السلطات السعودية خلالها مكافحة فيروس حمى الضنك والقضاء عليه، عاد فيروس “حُمى الضنك” من جديد في مطلع العام الماضي ليبث الرعب في الأوساط الداخلية بالمملكة، بعد أن تمكن الفيروس من التطور جينيًا وكسر حاجز المناعة.
وعانت الجزيرة العربية من سنوات انتشرت فيها الأوبئة والأمراض التي فتكت بأرواح الكثير من الرجال والنساء والأطفال، إذ تفشى الوباء وحصد أرواح مئات الألوف من البشر وعم أرجاء الجزيرة العربية كافة بل العالم بأسره، ولم يسلم منه إلا القليل.
ومنذ قرن من الزمان انتقصت الجزيرة بنفوس عديدة، بسبب الذي كان مبتدأه من جنوب من جهة الأحساء وأشمل إلى عنزة والأسلم، ومن شدة هول الوباء أطلق الأجداد على هذه السنة التي انتشر فيها المرض بـ”سنة الرحمة“، وسنة “الصخونة”، وقد فسر بعض الباحثين سبب هذه التسمية لكثرة الترحم على الموتى، ولأن هذا الوباء كان يصاحبه ارتفاع كبير في درجة حرارة المريض.